ترجمة وتحرير: نون بوست
ربما كان من الضروري نشر صفحة بيضاء في هذا التقرير للتعبير عن الصمت الذي التزم به السوريون في المنفى. فقد مضت ثماني سنوات عن المظاهرات الأولى التي جابت شوارع المدن خلال شهر آذار/ مارس سنة 2011، والتي انطلقت من درعا الواقعة جنوب غرب البلاد قبل أن تنتشر في باقي المدن السورية. وقد أفاد طبيب نفسي سوري لاجئ في إحدى العواصم الأوروبية بأن “أكبر انتصار للنظام يتمثل في أن يتمكن من اسكاتنا مرة أخرى”.
وفقا للتوجه الذي بدأ يتخذه بشار الأسد تزامنا مع تعزيز قبضته على بلده المتهاوي، يفضل هذا الطبيب النفسي عدم البوح بقصة هروبه والتكتم عن ذكر تفاصيلها، وينطبق الأمر ذاته على باقي الشهود في هذا التقرير، حيث فضّلوا عدم الكشف عن هويتهم حماية لهم “من الناحية الأخلاقية”.
أصبحت سلامة الأسر التي تركها هؤلاء المهجّرون خلفهم والتي لا يمكن التنبؤ بمصيرها شغلهم الشاغل
تساءل الطبيب النفسي “إلى أي مدى يقع على عاتق المعارضين أو النشطاء المنفيين واجب الكلام، عندما تجعل كلماتهم أقاربهم الذين بقوا في سوريا عرضة لعنف النظام؟ هل من المقبول أن يتحمل الآخرون عواقب أفعالنا؟ ولكن هذا التساؤل أضحى لا يطاق لا سيما أن الصمت يعني تجميد جهود الكفاح من أجل التغيير”.
أصبحت سلامة الأسر التي تركها هؤلاء المهجّرون خلفهم والتي لا يمكن التنبؤ بمصيرها شغلهم الشاغل. وتوضح الأرقام مقياس هذه الصدمة التي تؤرق المهجّرين: أكثر من خمسة ملايين سوري مسجّل لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى جانب مليوني شخص آخرين، وفقًا للتقديرات مع مراعاة أولئك الذين لم يتم بعد النظر في أوضاعهم.
أكد مختص في اللسانيات كان مدرسّا في مدينة حمص أنه “لمواجهة هذا السياق الحالي، الذي لا يتجه نحو الطريق الصحيح، خيّر هؤلاء الناس التزام الصمت حتى أمامي أنا، مع العلم أنني عشت معهم نفس الوضع الذي مرّوا به”. ويستفيد هذا اللاجئ السوري من البرنامج الفرنسي الوطني لتقديم المساعدة العاجلة للعلماء الذين يعيشون في المنفى من بين اللاجئين، حيث أطلِق هذا البرنامج خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2017، ويدرّس هذا اللاجئ في اختصاص تحليل كلام اللاجئين.
لكن هذا المختص في اللسانيات يتبع بدوره “صمتا بليغا”، حيث بين أن “الحديث قد يكون مكلفاً للغاية. لقد جربت ذلك بنفسي، فقد ألقِي القبض على أخي وتعرض للتعذيب نيابة عني! وحصل الأمر نفسه لبعض السوريين الذين قابلتهم خلال عملي. لقد أصبح الكلام مثل “حقل للألغام”.
على الرغم من وعود النظام بالعفو على الناشطين، إلا أن موجة الاعتقالات لا زالت مستمرة
في البداية، كانت الثورة السورية على هذه الشاكلة، حيث تمكن الحشود من استعادة حقهم في الكلام من جديد بعد أربعين سنة من الخضوع تحت رقابة النظام والرقابة الذاتية. وقد كتب أطفال المدارس في درعا بعض الكلمات على الجدران من قبيل: “لقد حان دورك أيها الدكتور بشار الأسد!”.
تسبب ذلك في تعرض تلاميذ المدارس إلى التعذيب، قبل أن يتحول السخط الاجتماعي إلى صرخة صاخبة من التمرد بلغ صداها المستوى الوطني. وبعد حرمانهم من التغطية الإعلامية الدولية، تعرض الكثير من السوريين وخاصة المرتجلين منهم من بين “الصحفيين المواطنين” لمخاطر جمة خلال محاولتهم إخبار بقية العالم عن القمع الذي تحول إلى حرب. وحاليا، يعيش كلهم تقريبا في المنفى.
“نتجنب الاتصال”
لا يزال من بين الذين سبق لهم العمل ضمن “المركز الإعلامي” في الغوطة الشرقية، إحدى ضواحي شرق العاصمة التي كانت ذات يوم “حرة”، سوى عشرين ناشطًا منتشرون بين تركيا وأوروبا. ومنذ أن وضع النظام يده من جديد على هذا المركز خلال شهر أيار/ مايو 2018، قرر هؤلاء الناشطون مواصلة مهامهم حتى وان كان ذلك عن بعد ما دامت أخبار البلاد لا تبشّر بخير.
على الرغم من وعود النظام بالعفو على الناشطين، إلا أن موجة الاعتقالات لا زالت مستمرة. فخلال شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير، وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي منظمة غير حكومية تأسست سنة 2011، قرابة 923 حالة اعتقال تعسفي في سوريا ككل، بما في ذلك 375 حالة اختفاء قسري.
حيال هذا الشأن، أفاد أحد هؤلاء الناشطين بأنه “ألقي القبض على الأشخاص الذين غامروا بحياتهم وقرروا العودة إلى سوريا فور وصولهم إلى مطار دمشق”. وفي العاشر من آذار/ مارس، تم الإبلاغ عن حالة اختفاء مواطن سوري غادر تركيا للعودة إلى منزله في الغوطة، حيث كانت رحلته جيدة إلا أنه لم يصل بعد إلى بلدته.
تعتبر العلاقة بين المنفيين وأولئك الذين ظلوا في البلاد معقدة وتغذيها المخاوف والشعور بالذنب
في سياق متصل، أضاف هذا الناشط: “نحن بحاجة إلى تفاصيل، لكننا نتجنب الاتصال بأهله في سوريا. فمكالمة من الخارج يمكن أن تلقي بعائلة كاملة في غرفة استجواب أو داخل سجن قذر”. ويبدو أن هذه المخاوف تنتشر في البلاد، ولكن لا يمكن التحقق من صحتها بعد. فالذين يروّجونها يسوقونها فيما بعد إلى أقاربهم في الخارج. وبالنسبة للبقية، “أغلقنا أفواهنا والتزمنا الصمت، وبقينا ننتظر. فيمكن أن يتسبب الكلام في العيش في المنفى مدى الحياة، فمن يعرف ربما سيحكم بشار لمائة سنة أخرى …”.
يعيش “منعم”، أصيل الغوطة الشرقية، لاجئا في فرنسا منذ نهاية سنة 2018. وعند وصوله لفرنسا، اتصل بصديقة له تعيش بدورها في المنفى في إحدى الدول المجاورة لفرنسا. وقد أرادت صديقته أن تعرف أحوال أقاربها الذين مكثوا في سوريا في الحي ذاته الذي كان يعيش فيه منعم. بعد ذلك، علم منعم كيف قتل ثلاثة من أقاربها؛ الأول ناشط قتل برصاص الجيش في مظاهرة، والثاني فار من الخدمة العسكرية سقط خلال قتاله ضد النظام، أما الثالث فيعمل خبازا توفي خلال غارة جوية وهو في مخبزه.
حذر سوريون صديقته، “لا تدعيه إلى منزلك! ابتعدي عنه، فسوف تضعين نفسك في خطر!”، فعلق منعم على ذلك قائلا “أعتبر مجرمًا في أعين النظام لأنني كنت مصورًا للثورة. وإذا ذهبت لرؤيتها، وإذا ذكرت اسمي، أو إذا نشرت صورة لنا على فيسبوك، فستواجه المشاكل. ليس في أوروبا، ولكن عندما تفكر يوما ما في العودة إلى سوريا لأنها تتطلع إلى ذلك. لذلك قدمت لها تقريري سراً وبحزن. ولا أجرؤ على أن أسأل مرة أخرى عن مستجداتها. لا أريدها أن تعاني من المشاكل بسببي”.
اختيار العبارات
تعتبر العلاقة بين المنفيين وأولئك الذين ظلوا في البلاد معقدة وتغذيها المخاوف والشعور بالذنب. قليلون هم السوريون الذين ما زالوا يُحافظون على نفس حماسهم لسنة 2011، ونادرون أيضا من ينطقون مفردة “ثورة” التي تم تعويضها “بتمرد” أو “انتفاضة” أو “انتفاضة شعبية”. وقد غيرت انزلاقات الصراع، خاصة اقتحام تنظيم الدولة للبلاد، من طرق تعبيرهم عن مواقفهم علنا. وتعترف لاجئة بأن “تحمل مسؤولية الجنسية السورية أصبح أمرا صعبا بالنسبة لنا”.
في عين ترما، في الغوطة الشرقية يوم 26 شباط/ فبراير
بعد سقوط الغوطة الشرقية في شهر آذار/ مارس 2018، اعتبرت نعمة، وهي أكاديمية في المنفى منذ سنة 2014، أن أقوالها لم تعد “تُجدي نفعا”: “لقد وجدت نفسي مكبلة، تماما كما لو كنت في سوريا زمن الديكتاتورية. لم أشارك سوى في جنازات النشطاء، لأنني أشعر أنني مضطرة لذلك، فضلا عن ذكرى إحياء الثورة. لم أعد أذهب إلى المؤتمرات أو غيرها. ويحظى النزاع السوري بتغطية هائلة! كل الكوكب يعلم ما حدث. فما الفائدة من إضافة معلومات على ذلك؟ لقد أصبحنا مثل “الكومبارس” داخل كرة يقع تحريكها لرؤية تساقط الثلوج، نحن أسرى لعرض لا أحد يُصغي إليه”.
ستكون فترة “ما بعد الحرب” عودة إلى الحياة اليومية وحقائقها. ففي ظل المشاكل المالية ولغة جديدة يجب تعلمها ووظيفة ينبغي العثور عليها، تعد عملية إعادة بناء الحياة صعبة. تتنهد نعمة قائلة: “ما زال البعض يواصلون تقديم شهاداتهم المتعلقة بالمذبحة”.
في السياق ذاته، قال نجاح البقاعي، الذي فر من سوريا إلى فرنسا في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2016 :”لا أعرف كيف يفعلون ذلك!”. وعلى الرغم من أن هذا الأستاذ السابق المتخصص في الفنون الجميلة لم ينطق أي كلمة، إلا أنه ما زال يرسم مرارًا وتكرارًا “مركز 227″، حيث تم احتجازه لأكثر من سنة في دمشق، دون استعمال الألوان. وتغوص كل رسوماته في المكان ذاته، كما لو أنه يعود بهوس إلى جحيمه.
“هويات مروعة”
تنشط شبكات التضامن من خلال تقسيم المساعدات. فعلى سبيل المثال، قدمت منظمة مسيحي الشرق الأوسط مساعدتها. وتتواجد المعلومات بخصوصها في مختلف البلديات الفرنسية. وبالتالي، يتعين على الشخص تحديد ما إذا كان مسيحيا أو مسلما، رغم أن الجميع هناك ليسوا سوى “أجانب”.
تأسف نعمة من أنه “لا يصبح أحد شرعيا، إلا إذا مات. لقد أصبحنا هويات مروعة”
خلافا لكل ذلك، تشكلت مجموعات أصدقاء. ولكن عما كانوا يتحدثون؟ تؤكد الأكاديمية أن “التواجد مع السوريين هو عبء نفسي ثقيل. ونحن شاهدون وأطراف مشاركون في هزيمتنا المطلقة. وعادة ما يكون النقد المتبادل عنيفا جدا. لا أحد يحظى بالشرعية اللازمة في نظر الآخرين، لذلك لا أحد يبادر بالتحدث. وبشكل مستمر، نسمح لمسألة شرعيتنا بملاحقتنا بدافع الذنب، لأننا غادرنا البلاد، لأن آخرين دفعوا حياتهم ثمنا لذلك، لأننا “لم نمت بما فيه الكفاية”.
يُفسر ذلك بانتشار فكرة الموت التدريجي، من الآن فصاعدا، في صفوف السوريين. وتأسف نعمة من أنه “لا يصبح أحد شرعيا، إلا إذا مات. لقد أصبحنا هويات مروعة”. ويذكر أستاذ سوري مثال موضوع بحث مقترح على طلاب سوريين يتمثل في “الجهات الفاعلة السياسية في سوريا ما قبل سنة 2011”. وقد لقي هذا المقترح رفضا قاطعا من طرف الطلاب بحجة أنه “لا أحد، باستثناء محمد عرب، يمتلك الشرعية للإجابة عن هذا السؤال”. وتجدر الإشارة إلى أن محمد عرب هو ناشط منذ سنة 2000، تم اعتقاله في حلب سنة 2012. ولا أحد يعرف مصيره.
أُوقف والد نعمة، عضو الحزب الشيوعي، في الثمانينيات قبل أن يُحكم عليه بالسجن لمدة 14 سنة. وحين اندلعت ثورة سنة 2011، كان حرا وكانت الشابة قد أنهت دراستها للتو وعثرت على وظيفة وتزوجت. وبعد معاناتها من غياب والدها، كانت قادرة على “تنفس” الصعداء قليلاً، قبل أن ينهار كل شيء. لكن دفعها الخوف من التعرض للإيقاف هي الأخرى إلى الهرب من البلاد.
إن وجود بذرة الحرب يعد الأمر الوحيد الذي يعرفه الجميع بشكل حدسي
في حديثها عن ذلك، أوردت نعمة: “لا يمكنني الادعاء بأنني دفعت ثمنا أغلى من زملائي، لكن دمرت عائلة الأسد حياتي. لقد كان سقوطا اجتماعيا واقتصاديا حادا، خاصة وأني غادرت أبوين طاعنين في السن ظلوا هناك، ولا أدري ما إذا كان بإمكاني دفنهما. هناك الكثير من الفوضى والخسائر. نحن لا نريد البكاء بعد الآن. لذلك صمتنا”.
سوريا قبل 40 سنة
أخذ شعور عدم اليقين، وهو النتيجة العادية للنفي، شكلا مذهلا. وفي السياق ذاته، تساءل سوري فلسطيني من اليرموك، وهو مخيم سحقه نظام زعم مرارا وتكرارا دعمه للقضية الفلسطينية، قائلا: “أي معنى يمكن منحه للماضي؟”. في حال لم يتمتعوا بعفو، قد يكتفي البعض بمحاولة فقدان ذاكرتهم، لكن ترتطم حاجتهم للنسيان باستحالة التطلع إلى المستقبل. وتصر نعمة على أن “هذا النظام لا يقبل الحياد. لذلك من الضروري أن نعلن له الولاء، وأن نقبل بتسجيل شبابنا في الجيش، في ظل هذا الخوف من عدم وجود شيء مؤكد على الإطلاق”.
إن وجود بذرة الحرب يعد الأمر الوحيد الذي يعرفه الجميع بشكل حدسي. فقد أشارت نعمة: “بالفعل، انطلاقا من حماة، حيث خلف قمع التمرد في هذه المدينة مقتل أكثر من 10 آلاف شخص سنة 1982، توقعت وقوع مجازر مستقبلية. إذا لم يعاقب بشار على جرائمه، فمن المؤكد أنه ستكون هناك صراعات ومجازر أخرى”.
أمام الشاشة، بدت نعمة متأثرة ومندهشة فقالت: “يثبت ذلك أن منطقنا في المنفى مختلف تمامًا عن منطق هؤلاء الذين ظلوا في البلاد!
حين يبدو كل شيء ثابتًا تحدث أحيانًا أمور غير متوقعة. ففي يوم السبت الموافق للتاسع من شهر آذار/ مارس، أظهر السكان المحليون غضبهم في درعا حيث بدأ كل شيء. وفي إطار قراءة رديئة الجودة لإعادة إعمار البلاد، قررت السلطات إقامة تمثال جديد لحافظ الأسد، والد بشار. إنها ليست سوريا سنة الصفر، بل سوريا إلا 40 سنة.
أمام الشاشة، بدت نعمة متأثرة ومندهشة فقالت: “يثبت ذلك أن منطقنا في المنفى مختلف تمامًا عن منطق هؤلاء الذين ظلوا في البلاد! فقد احتجوا ضد الإذلال. يا لها من شجاعة، ما لم يكن سبب ذلك أنهم لا يملكون شيئًا لخسارته”.
المصدر: لوموند