لم تؤثر الثورة السورية على الشعب السوري فقط، ولم تنحصر تبعاتها عليها وحدها، ولم يكن السوري هو اللاعب الوحيد في ساحة القتال، فسرعان ما تدخلت دول وقوى إقليمية ودولية مختلفة لدعم طرفيّ الصراع، بهدف التأثير على مصير هذه الثورة، وتسييرها وفق مصالح ومطامع كبرى.
وبينما يتراجع اهتمام العالم بسوريا – نتيجة لإرادة دولية بإنهاء الملف السوري- تبقى روسيا الأكثر اهتماماً والأكبر تأثيراً في الوقت الحالي، فدخولها لسوريا -السابق على الثورة- كان استثماراً بعيد المدى. فهي لم تتدخل لدعم الأسد عسكرياً فقط، بل لتحقيق مطامع استعمارية اقتصادية وثقافية، فهي ترى بعدم الاستقرار وفترة إعادة الإعمار في البلاد فرصة لتطبيق خطتها الاستراتيجية ببسط نفوذها في الشرق الأوسط.
حضور روسيا الاقتصادي في سوريا قبل الثورة
لطالما كان لروسيا دوراً حاضراً في الاقتصاد السوري قبل الثورة التي اندلعت عام 2011، خاصة في مجال الطاقة. واعتبرت روسيا صاحبة أقوى الاستثمارات في اقتصاد سوريا على مدار سنين طويلة، لأسباب استراتيجية بطبيعة الحال. وقد ندلل على ذلك بالعودة إلى تاريخ 29 مايو 2005 الذي يعد علامة فارقة في العلاقات التجارية بين البلدين. حينها تم تقليص الديون السورية لروسيا، حيث شطبت 73% من الديون المستحقة البالغة 13.4 مليار دولار مقابل موافقة الرئيس السوري تحويل قاعدة طرطوس إلى قاعدة عسكرية ثابتة للسفن الروسية.
احتفظت موسكو بالقاعدة البحرية العسكرية في طرطوس، وهي قاعدتها العسكرية الوحيدة في البحر المتوسط، وتعود أهميتها إلى أنها الرابط الوحيد لروسيا في الشرق الأوسط
وإضافة لذلك، حسب تقرير سابق لـ”معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، فإن الشركات الروسية في سوريا استثمرت بـ 20 مليار دولار باستثناء بيع وشراء الأسلحة بين عاميّ 2009 و2011.
مع اندلاع الثورة السورية، استمرت المصالح بين البلدين لكنها اتخذت مسارات مختلفة. فبعد مرور 5 سنوات على الثورة وفقدان النظام السيطرة على عدة مناطق في سوريا، بحث الأسد عمن يدعمه عسكرياً، لتكون روسيا الخيار الأول للتحالف، فقام الجيش الروسي في 30 سبتمبر 2015 بضرب مواقع للمعارضة السورية المسلحة في شمال غربي البلاد مشكّلةً نقطة بداية تدخل سياسي واستغلال اقتصادي. فقد انتشر الجنود الروس في كل أنحاء سوريا، وقصفوا عدة مناطق و افتعلوا مجازر تحت وصاية النظام، معلنين بذلك بدء تدخل روسي فعلي في سوريا.
احتفظت موسكو بالقاعدة البحرية العسكرية في طرطوس، وهي قاعدتها العسكرية الوحيدة في البحر المتوسط، وتعود أهميتها إلى أنها الرابط الوحيد لروسيا في الشرق الأوسط، كما أن لديها مركز تنصت تجسسي في مدينة اللاذقية وهي قاعدة حميحم الجوية التي يسيطر عليها الدفاع الروسي، إذ عرّفت روسيا هذه القاعدة في 23 فبراير 2016 بأنها “المركز الروسي للمصالحة في سوريا” بموجب اتفاق روسي أمريكي لوقف إطلاق النار. ولكن ما تخفيه روسيا عن هذه القاعدة هو أكبر بكثير مما تعلنه، ففي سعيها المستمر لتوسيع نفوذها وإحكام سيطرتها على الاقتصاد السوري والسياسة السورية سعت أيضاً إلى الاستفادة من الموارد البشرية والطبيعية السورية بكل أنواعها، إذ تعتبر روسيا هذه القواعد نقطة انطلاق صغيرة للاستحواذ.
تجنيد الأطفال
وقّع النظام السوري في 2 سبتمبر 2018 مع الحكومة الروسية اتفاقية تسمح لموسكو بتدريب أطفال سوريين في المدارس العسكرية الروسية، بعد تعليمهم اللغة الروسية وضمهم لصفوف الجنود الروس. تتراوح أعمار الأطفال الـ 8 المختارين بين 10 و15 سنة، نقلتهم طائرة عسكرية روسية من قاعدة حميحم في اللاذقية للالتحاق بالمدرسة العسكرية الروسية بمدينة سان بطرسبرغ، ليعودوا وينضموا فيما بعد إلى الجيش السوري مشكّلين نخبة من الضباط. لا يوجد معلومات عن كيفية ومعايير اختيار النظام لهؤلاء الأطفال، ولكن يذكر أنهم كانوا طلاباً في مدارس “أبناء شهداء الجيش السوري” في سوريا.
ضمن أهم ما يقوم عليه الاستعمار الثقافي هو إدخال ثقافة المستعمر أو القوة الطامحة للهيمنة إلى البلد المستهدف، ويكون ذلك بعدة أدوات من بينها تعليم اللغة
توضح هذه الخطوة الخطة الروسية التي تسعى لفرض نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي واستغلال الموارد البشرية في سوريا، وتنشئة جيل معسكر تابع لها فكرياً عبر زرع ولاء ثابت يتغلغل في مفاصل الجيش السوري وكيانه، وهذا ما يشكك في تصريحات المسؤولين الروس حول نيّتهم الانسحاب من سوريا فور انتهاء الحرب. فقد صرّح ديمتري بولغاكوف، رئيس اللجنة الفرعية في مجلس الدوما الروسي، مبرراً احتمال بقاء قوات عسكرية في سوريا بحجة “إعداد ضباط عسكريين على درجة عالية من الاحتراف”، ما اعتبره “استثماراً كبيراً في مستقبل سوريا”.
الثقافة الروسية في قطاع التعليم
ضمن أهم ما يقوم عليه الاستعمار الثقافي هو إدخال ثقافة المستعمر أو القوة الطامحة للهيمنة إلى البلد المستهدف، ويكون ذلك بعدة أدوات من بينها تعليم اللغة. فمع تضاعف الجهود الروسية لتوسيع نفوذها في سوريا، يسعى الروس إلى إدخال اللغة الروسية والثقافة الروسية إلى بنية المجتمع والفرد السوري، وكان من بين أولى هذه المشاريع هو افتتاح أول مدرسة روسية في دمشق عام 2018، تحت إشراف الأسد والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، وتعتمد المدرسة في تعليمها على المنهاج الروسي والبرامج التعليمية الروسية، كما تضم المدرسة وحدات عدة سيجري نقلها من مدينة نوفوروسيسك الروسية إلى سوريا.
وتجدر الإشارة إلى قيام وزارة التعليم السورية بافتتاح قسم اللغة الروسية وآدابها، ضمن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق، في نوفمبر 2014 ثم قامت لاحقاً بتوسيعه ليصبح أكبر أقسام الكلية.
هذا التغلغل الروسي الاقتصادي والثقافي في سوريا جاء مرافقاً للتدخل العسكري والهيمنة السياسية، ولا يمكن اعتباره مجرد تدخل سريع لإنقاذ النظام من تراجع قوته وسيطرته العسكرية بمواجهة الثورة
في حديث مع إيمان، طالبة في كلية الطب في حمص، قالت لـ “نون بوست” إن وزارة التعليم أضافت اللغة الروسية كلغة اختيارية في صفوف المرحلة الإعدادية ليختار الطلاب بينها وبين اللغة الفرنسية التي تعد الأخيرة هي أيضاً من مخلفات الانتداب الفرنسي على سورية عام 1920. ويذكر وفقاً لـ “روسيا اليوم” إن عدد الطلاب السوريين الذين يدرسون اللغة الروسية تجاوز الـ 12 ألف شخصاً.
ولا تتوقف المساعي عند هذا الحد، فبحسب تقرير نشر أمس على موقع فنار للإعلام، كشفت وكالة الأنباء السورية عن خطط لإنشاء مركز أبحاث سوري روسي في جامعة البعث في حمص، بالاشتراك مع جامعة موسكو الحكومية للتكنولوجيا، فضلاً عن توقيع سوريا اتفاقيات مع روسيا لإقامة مشاريع تعليمية وثقافية مشتركة وبرامج للتبادل الطلابي بين الجامعات الروسية والسورية.
وأضافت وكالة الأنباء أن أغلب المنح تشجع على دراسة تخصصات المعلوماتية والطيران والتكنولوجيا والطب والرياضيات. تشارك في هذا البرنامج 14 جامعة روسية، وقد تقدم حتى الآن 1,400 طالب للحصول على 500 منحة. يقول فاديم زايكوف، مدير المركز الثقافي الروسي في دمشق، في تقرير وكالة الأنباء “إن الهدف من المنح يكمُن في “مساعدة الشعب السوري في إعداد كوادر لإعادة الإعمار في الفترة المقبلة”.
حصة روسيا من إعادة الإعمار
إن هذا التغلغل الروسي الاقتصادي والثقافي في سوريا جاء مرافقاً للتدخل العسكري والهيمنة السياسية، ولا يمكن اعتباره مجرد تدخل سريع لإنقاذ النظام من تراجع قوته وسيطرته العسكرية بمواجهة الثورة. ولكنها خطة مدروسة ضمن إطار حسابات استراتيجية واسعة، فإذا نظرنا إلى المشهد من بعيد، نرى أنه منذ الأزمة الجورجية التي وقعت بها روسيا بدءاً من عام 2008، لم تحصل روسيا على فرصتها للمشاركة أو إيجاد حليف أوروبي، يجعل لها إسماً بين الدول الكبرى، بالإضافة اعتبارها أن لها الحق في صنع القرار الدولي، بينما لم تعطها أمريكا فرصة لذلك.
ترى روسيا في إعادة الإعمار فرصة ثمينة اقتصادياً، ولأجل اقتناصها أعدّت خططاً استثمارية كبيرة لشركات الطاقة والتنقيب عن احتياطات النفط
وعليه، ترى روسيا الأن في سوريا الأرض الخصبة والفرصة الأسهل لاستعادة نفوذها و لحجز مكانة مؤثرة على الخارطة الإقليمية والدولية. أي أن تلك النفقات على الدعم العسكري والسياسي واللوجستي لا تتحمّلها روسيا من أجل منع سقوط نظام الأسد فحسب بل لأجل مطامع في إعادة إعمار سوريا بالشكل الذي يثبّت روسيا كلاعب أساسي يتحكم بملفات المنطقة، وكثقافة مهيمنة عبر أدوات القوة الناعمة.
إلى جانب ذلك، ترى روسيا في إعادة الإعمار فرصة ثمينة اقتصادياً، ولأجل اقتناصها أعدّت خططاً استثمارية كبيرة لشركات الطاقة والتنقيب عن احتياطات النفط. فشركات الطاقة الروسية تتطلّع إلى تجديد استثماراتها في قطاع الطاقة السوري وتوسيعها، لكنها لا تسعى إلى التنقيب عن احتياطيات النفط السورية المحدودة واستخراجها، فهي تختزن كميات هائلة منه، بل تحاول لعب دور فعّال في إعادة إعمار البنية التحتية للنفط والغاز في سوريا وتشغيلها. عدا عن نيتها جعل سوريا بمثابة ميدان تجريبي للأسلحة العسكرية، واستغلال مواردها الطبيعية.
تمر سوريا الآن بسيرورة تغيير ديمغرافي وثقافي كبيرين، الشاهد الوحيد عليها هم السكان في الداخل، ولن تتضح نتيجته إلا بعد مرور الزمن واكتمال الصورة. الأسد شريك أساسي ومسؤول عن هذا التغيير، فهو ينتفع به مقابل بقائه على كرسي الحكم. تجنيد الأطفال وتعليم اللغة الروسية وتقديم المنح السخية لطلاب الجامعات وتأسيس شركات روسية-سورية والكثير من المشاريع المشتركة الأخرى التي ستنفذ في إطار إعادة الإعمار ستصب في مصلحة روسيا وتزيد من نفوذها في المنطقة. وهنا من المفيد أن تثار الأسئلة حول مدى الوعي في الداخل السوري لهذا التغيير الجاري وضرورة وجود أساليب تصدّي له، حتى لا يدفع السوريون الثمن أيضاً من هوّيتهم الثقافية والوطنية.