عرفت منطقة الساحل الشرقي للقارة الإفريقية، نشوء العديد من المماليك الإسلامية التي كان لها الفضل الكبير في نشر الدين الإسلامي القويم في تلك المنطقة، من ذلك مملكة “كلوه” التي استطاعت أن توحد الإمارات والدويلات الإسلامية ، التي كانت تقوم على طول الساحل الشرقي في دولة واحدة لفترة طويلة من الزمان. في هذا التقرير سنتعرّف سويا على هذه الدولة الإسلامية التي وصل صيتها أصقاع العالم في تلك الفترة ومازال لما قدّمته للإسلام والمسلمين.
بداية الهجرات الإسلامية نحو الشرق الإفريقي
شهدت مناطق عدّة من القارة الإفريقية، مع بداية ظهور الإسلام وانتشاره، هجرات كبرى (الخوارج، الأمويين..)، لأسباب دينية فضلا عن الأسباب السياسية، والعامل الاقتصادي كذلك، فالعرب كانوا على اتصال كبير بالأفارقة لتنظيم تجارتهم.
وتقول عديد المراجع التاريخية، أن أبرز المناطق وأولها التي عرفت هذه الهجرات، هي منطقة الساحل الشرقي للقارة الإفريقية، فالصومال مثلا عرف الإسلام منذ ظهوره، نظرا لتوافد مجموعات كبيرة من دعاة الإسلام من عرب وفرس وغيرهم، لإنشاء مراكز عربية إسلامية ثابتة لنشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية بين القبائل الإفريقية.
لم يتوقف المسلمون عند سواحل الصومال المعروفة بساحل (بنادر) ، بل تواصل نشرهم للإسلام، خاصة بعد تأسيس مدينة “مقديشو” خلال القرن التاسع ميلادي، على يد مجموعة من العرب الذين هاجروا من الإحساء، عاصمة دولة القرامطة، بقيادة سبعة إخوة من قبيلة الحارث التي سكنت الخليج العربي على مقربة من البحرين، لتصبح “مقديشو” بذلك مركز انطلاق جنوبا وإلى الداخل.
عرفت الدولة، في القرن الثاني لتأسيسها ازدهار كبيرا بسبب تجارة العاج والذهب الذي كان يُصدَّر من “سوفالة” التى تقع جنوب نهر “الزمبيرى”
تمكّن هؤلاء المهاجرين من التوغل داخل الأراضي الصومالية ونشر الإسلام بين قبائل أنهار جوبا و”شبيلي” من بينها قبائل “الجالا” التي اعتنقت الإسلام بحماس كبير، ما ساعدهم في مزيد نشر الإسلام هناك، فوجد حينها الفقيه والواعظ.
كما تكوّنت عدّة مدن تطورت وأصبحت إمارات عربية هامة مثل زنجبار (Zanzibar)، وبيت أو باتا ( Pate)، و مالندى ( Malindi)، و ممبسه ( Mombassa) ولامو ( Lamu)، وكوياما ( Koyama)، وعلى رأس هذه المدن ولاة عرب يحكمونها نيابة عن الأمويين.
أصلح العرب المسلمين الأراضي، وزرعوا النباتات والأشجار، وابتكروا أساليب جديدة للري فنما الإنتاج، وحقق لهم أرباح طائلة، وساهم هذا الأمر في تطور تلك المدن الإسلامية في الساحل الشرقي للقارة الإفريقية.
تأسيس الدولة كلوه
القوة التي عرفت بها هذه المدن والدويلات الإسلامية لم تتواصل كثيرا، فقد بدأت منذ نهاية القرن العاشر ميلادي في التدهور والانحلال، نتيجة الانقسام الداخلي، إلى جانب ضعف الروح العسكرية، وتفكك القوات، حتى إذا جاء “الشيرازيون” (الفرس) إلى الساحل الشرقي لإفريقيا لم يجدوا سوى قوة عسكرية ضعيفة، ودويلات تمزقها الخلافات.
جاء الفرس تحت زعامة علي بن حسن الشيرازي وأبناؤه الستة، حيث كانوا على متن سفنهم بما فيها من بضائع بقصد التجارة، وتمكنوا من الاستيلاء على هذه الإمارات (مقديشو، مركة، براوة..) بسهولة ويسر، لكنهم لم يستقروا هناك، بل اكتفوا بوضع حاميات عسكرية، وفرضوا على تلك المدن الجزية التي تدفع سنويا، وواصلوا سيرهم نحو الجنوب.
امتدّ نفوذ الدولة على كامل القرن الإفريقي
وصل “الشيرازيون” إلى مدينة “كلوه” جنوب مقديشو وهى ضمن دولة “تنزانيا” الآن، حيث أسسوا مملكة “كلوه” المعروفة أيضا باسم سلطنة الزنج الإسلامية. وقدم الشيرازيون من مدينة شيراز في إيران للتجارة.
وقد ورد اسم “كلوه” في معاجم الجغرافيين العرب، فذكرها ياقوت الحموي مؤرخ القرن الثالث عشر الميلادي في معجمه بقوله في معجمه بقوله، ” كلوه بالكسر ثمّ السكون وفتح الواو والهاء، مدينة بأرض الزنج، ويسميها الدمشقي مؤرخ القرن الرابع عشر ميلادي ” كلية زنج المسلمين”، ويؤكد البغدادي مؤرخ القرن الحادي عشر ميلادي ما ذكره ياقوت والدمشقي بقوله، بأنها موضوع بأرض الزنج”.
استطاعت هذه الدولة التي تأسست سنة 975 ميلادي أن توحد عشرات الإمارات والدويلات الإسلامية ، التي كانت تقوم على طول الساحل الشرقي في دولة واحده امتدت من مقديشو (في الصومال حاليا)وساحل بنادر حتى سوفالا (في موزمبيق الحالية) جنوبا. واتخذت من كلوه عاصمة لها.
عرفت الدولة، في القرن الثاني لتأسيسها ازدهار كبيرا بسبب تجارة العاج والذهب الذي كان يُصدَّر من “سوفالة” التى تقع جنوب نهر “الزمبيرى”، أى جنوب العاصمة “كلوة”، وتمكّنت من بسط سيطرتها على كامل المنطقة وأصبحت لها الزعامة السياسية والاقتصادية.
في ذلك الحين، عرفت “كلوه” عصرها الذهبي، فقد أصبحت عروس الشاطئ الشرقي لإفريقيا، وقام سلطانها بسك النقود وتحقيق النظام، وقد عثر فى “كلوة” و “مافيا” و “زنجبار” على نحو (10000) قطعة نحاسية من هذه النقود.
خلال انتقال الحكم من الفرس إلى العرب، ازدادت الهجرات العربية ما جعل الطابع العربي يتغلب على الطابع الفارسي في مظاهر الحياة المختلفة
مثّلت مدينة “كلوه” التي أسسها المسلمون، لقرون عدّة، مركزا للنشاط التجاري والديني، فقد ارتكزت شهرتها علي أنها وسيطة بين عواصم العالم الإسلامي الكبرى وبقية أجزاء إفريقيا المجاورة في نقل الفكر والثقافة الإسلامية .
العمارة الفارسية
تأسيس الدولة الجديدة، رافقه ظهور الأسلوب الفارسي في البناء بالحجارة، وفى صناعة الجير والأسمنت واستخدامهما في البناء، وفنّ النقش على الخشب، ونسج القطن. وظهر كل هذا في المساجد التي تمّ تشييدها هناك وفي المباني.
ورغم تغلّب المعمار العربي، بسبب كثرة الهجرات العربية واستقرارها في تلك الربوع، فإن المعمار الفارسي مازال ظاهرا للعيان في بعض المناطق من الساحل الإفريقي الشرقي، حيث حكم الفرس لقرون عدّة، كانت كفيلة لترك بصمتهم، فقد عرف الفرس بإبداعهم الفني والجمالي فقد أضافوا الفنون الجميلة التي كان يفتقدها العرب في حياتهم الثقافية والفكرية .
انتقال الحكم من الفرس إلى العرب
قال الرحالة بن بطوطة عن مدينة “كلوه“، “إنها مدينة كبيرة، بيوتها من الخشب، وأكثر أهلها زنوج مستحكمو السواد، وهم شافعيون، ويحكمها السلطان “أبو المظفر حسن”، وقد كان في قتال دائم مع السكان المجاورين، وعرف بتقواه وصلاحه، كما كان محسنًا كريمًا”.
نلاحظ من هنا أن بيت الحكم انتقل من الفرس إلى العرب، فالسلطان “أبو المظفر حسن” الذى زار “ابن بطوطة” مدينة “كلوة” فى عهده لم يكن فارسي الأصل، بل كان من أصل عربي، فهو من بيت “أبى المواهب الحسن بن سليمان المطعون بن الحسن بن طالوت المهدلى” اليمنى الأصل.
وقد انتقل الحكم من البيت الفارسي إلى هذا البيت العربي منذ عام 1277ميلادي، وظل هذا البيت يحكم هذه السلطنة لأكثر من قرنين من الزمن، حتى جاء الغزاة البرتغاليين، وقاموا باحتلال المنطقة سنة 1505 ميلادي.
سقطت دولة “كلوه” على يد البرتغاليين
خلال انتقال الحكم من الفرس إلى العرب، ازدادت الهجرات العربية ما جعل الطابع العربي يتغلب على الطابع الفارسي في مظاهر الحياة المختلفة، فاللغة الغالبة هي اللغة العربية التي كانت تُكتَب بها سجلات “كلوة” بجانب اللغة السواحلية، كما كان المذهب الدينى السائد هو المذهب الشافعى السُّنى وليس المذهب الشيعى، الذى أتى به البيت الحاكم الأول على يد “على بن حسن بن على الشيرازى”، وما زالت أغلبية المسلمين فى هذه المنطقة من السُّنة الشافعية حتى الآن.
أمام هذا، ظلت الصبغة العربية هي البارزة والمميزة في هذا الساحل خلال فترة العصور الوسطى، فقد أسهم العرب في هذه البلاد بالآداب والعادات التي اتصفوا بها، وشاعت هذه الآداب بين بقية المجتمعات التي تعيش في هذا الساحل الإفريقي وفي داخله.
انطلاقا مما قلنا، نرى أن دولة “كلوه” الإسلامية، كانت نتاج الثقافة الإسلامية العربية الفارسية الإفريقية، فقد أسهم في بنائها جميع شعوب الساحل التي اتخذت العربية لغة لها، أو تلك التي عاشت في ظل الإدارة الإسلامية بصرف النظر عن الجنس واللون والدين.