تحتفل باكستان كل عام في يوم 23 مارس/آذار بعيدها الوطني والذي تُحيى فيه ذكرى ما يُعرف باسم “يوم باكستان” أو “قرار لاهور”، وهو أحد أهم المنعطفات التاريخية التي مرت بها في البلاد، فعلى إثره برزت باكستان كأول جمهورية إسلامية في العالم، لها حدودها ودستورها المستقل. وذلك بناءً على طلب رابطة مسلمي عموم الهند عام 1940 بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في شمال غرب وشرق الهند البريطانية، لضمان حريتهم في ممارسة عباداتهم وشعائرهم دون مواجهة أي عرقلة من قبل الهندوس الذين كانوا أغلبية في شبه القارة.
إذ يرى الباحثون في الشأن الباكستاني، أن “باكستان ولدت بالأساس من رحم الهند لتعطي المسلمين عنوانًا قوميًا لوجودهم” لإنقاذهم من أي مواجهات عدائية مع الطوائف الدينية الأخرى، ولذلك قد يعتبرها البعض “كيانًا اصطناعيًا صِرفًا”، إلا أنها تشكلت في الحقيقة نتيجة لتعاقب العديد من الحضارات والغزوات التي تمركزت أهدافها في وادي السند، كما يقول، محلل الجغرافيا السياسية، روبرت كابلان.
بدايةً، كيف وصل الإسلام إلى شبه القارة الهندية؟
بحسب كتاب “ازدهار الإسلام في شبه القارة الهندية”، فلقد انعقدت صلات تجارية بين شبه القارة الهندية وشبه الجزيرة العربية منذ أقدم العصور، إذ يؤكد ذلك، المؤلف عبد العزيز عزت عبد الجليل في كتاب “العرب والهند في عهد الرسالة”، قائلًا: “كان العرب والهنادكة (غير المسلمين بشبه القارة الهندية) على علم بأخبار بعضهم، فقد اتصل العرب في جاهليتهم بأهل شبه القارة الهندية وتعارفوا”. فلم يكن من الغريب تأثير الدين الإسلامي على شبه القارة الهندية حين وصل إلى شبه الجزيرة العربية.
زاد جلال الدين محمد أكبر لديه أعداد الأمراء الهنادكة في البلاط أكثر من أمراء المسلمين وألغى الجزية التي يدفعونها منذ الفتح العربي وسمح للمسلمين بالزواج من الهندوكيات
وتدريجيًا استدرج التجار العرب المسلمون معتقداتهم إلى شبه القارة وتثبت أول قدم لهم حين توجه الحجاج، محمد بن القاسم بجيش إلى السند بأمر من الوليد بن عبد الملك في عهد الدولة الأموية، وبعد 3 سنوات من المناوشات، فتح القاسم إقليم السند ونشر الإسلام بين الهندوس وأصبح جزءًا من معتقداته.
أما التأثير الحقيقي فكان في عهد الدولة التيمورية (المغولية) التي دام حكمها لشبه القارة لمدة 3 قرون تقريبًا شهدت على محاولات عدة لمنع الفتن الطائفية بين الهنادكة والمسلمين، وأهمها ما قام به جلال الدين محمد أكبر الذي زاد لديه أعداد الأمراء الهنادكة في البلاط أكثر من أمراء المسلمين وألغى الجزية التي يدفعونها منذ الفتح العربي وسمح للمسلمين بالزواج من الهندوكيات. ولم تتوقف محاولاته في دمج الطوائف الدينية المختلفة في دائرة واحدة، فقد كان يعقد اجتماعات بين الأديان المختلفة والمذاهب من الهندوسية والبوذية والزرادشتية، والرهبان البرتغاليين لمزج معتقداتهم في مذهب واحد تحت اسم “الدين الإلهي”.
ولكنه فشل في دعوته ولم يلقى إقبالًا واسعًا، وكان الاستعمار البريطاني قد اقترب من شبه القارة تحت ستار شركة الهند الشرقية التي سميت كذلك بـ”شركة جون”، التي تأسست في البدء كمشروع صغير يديره مجموعة من تجار مدينة لندن، ولكنه فيما حصل على تفويض ملكي من إليزابيث الأولى، ملكة إنجلترا، لاحتكار جميع المعاملات والتداولات التجارية في جميع مناطق آسيا والمحيط الهادئ ودفعتها إلى شراء الأراضي في المنطقة، وبهذا تحولت الشركة إلى مؤسسة تحكم الولايات الهندية وتسيطر عليها بدعم سياسي وعسكري من الإمبراطورية البريطانية.
ومع تعرض هذه السياسة للهجوم المتزايد والعصيان المدني، قلل البرلمان من عملياتها التجارية إلى أن انتهى الاحتكار التجاري، لكن الاستعمار ظل مستمرًا حتى عام 1858 حين نقل قانون حكومة الهند الصلاحيات الممنوحة لها إلى مكتب الهند التابع لوزارة الخارجية وذلك بعد اندلاع تمرد مدني وعسكري، عُرف بـ”ثورة 1858-1857″ في شمال شبه القارة الذي حل الشركة نهائيًا سنة 1874 نتيجة للتغييرات الجذرية التي أصاب الطبقة الحاكمة في الهند آنذاك والتي أرادت التخلص من الحكم البريطاني.
مرحلة الانفصال وبروز باكستان كأول جمهورية إسلامية
في هذه الأثناء، فقد المسلمون هيمنتهم ونفوذهم واختفت معهم المظاهر الإسلامية للبلاد، كما اختلفت في نفس الفترة ملامح شبه القارة الهندية، فلقد انقسمت وانفصلت عنها أقاليم وتشكلت دول أخرى، ومن أهم نتائجها الصراع بين الدولتين الهندية والباكستانية وانفصالهما على أساس العوامل الديموغرافية الدينية. فلقد كان عدد سكان الهند آنذاك نحو 400 مليون نسمة، غالبيتهم من الهندوس، بينما كان المسلمون يشكلون 25% تقريبًا من إجمالي التعداد السكاني.
وبسبب إصرار محمد علي جناح، رئيس اتحاد مسلمي الهند، على تأسيس دولة خاصة بالمسلمين، انقسمت البلاد خلال 5 أسابيع في عام 1974 انتهت باحتفالات الطرفين بهذا الاستقلال، إلا أنها ما لبثت أن اندلعت صدامات دموية بين الهندوس والمسلمين أدى إلى نزوح 12 مليون لاجئ من إحدى الدولتين إلى الدولة الأخرى، وذلك مع وفاة نحو مليون شخص على الأقل بسبب الفتنة الطائفية.
ولم تنته هذه الصراعات وظل طريق الاستقلال والانفصال مليئ بالأجواء العدائية، ولا سيما في الهند أن القرار اقتضى اقتطاع بعض المناطق ذات الكثافة السكانية المسلمة من الهند مثل بنجاب وبنغال والسند. حيث امتد الصراع أيضًا إلى ولايات أخرى مثل حيدر آباد وجوناغاد وكشمير، وتحديدًا الأخيرة التي قرر فيها الحاكم الهندوسي، هاري سينغ، الانضمام إلى الهند، متجاهلًا رغبة الأغلبية المسلمة بالانضمام إلى باكستان، ولكنه أعاد التفكير مرة أخرى لتقليل من حدة المواجهة، فقدم عرض ببقاء الأوضاع كما هي عليه، فقبلت باكستان ورفضت الهند، واندلعت على إثرها 3 حروب.
تبلغ نسبة المسلمين فيها 97%، وهي ثاني أعلى نسبة في العالم من حيث عدد السكان المسلمين في العالم بعد إندونيسيا.
وبالرغم من جميع العراقيل والخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها باكستان نتيجة لقرار الانفصال، إلا أنها لا زالت تفتخر باليوم الذي قررت فيه أن يكون لها دستورها الخاص وطابعها الإسلامي الذي تحكم به، مع العلم أن باكستان غيرت دستورها الأول، فهي تعتمد في الوقت الحالي على “نظام ديمقراطي برلماني اتحادي فيدرالي في دولة دينها الرسمي الإسلام”.
إذ تم تعطيل أول دستور وتعليق العمل به بعد عامين من اعتماده على يد الجنرال محمد أيوب خان الذي اعتمد دستورًا ثانيًا عام 1962، ثم اعتمد آخر في عام 1973، والذي أُلغى بعد انقلاب الجنرال محمد ضياء الحق عام 1977، ولكن أعيد العمل به في عام 1985، ومع ذلك يعتبر الدستور الأول هو بداية النجاح في الانتقال من سيادة باكستان إلى جمهورية إسلامية، تبلغ نسبة المسلمين فيها 97%، وهي ثاني أعلى نسبة في العالم من حيث عدد السكان المسلمين في العالم بعد إندونيسيا.