ترجمة وتحرير: نون بوست
لا يمكننا سوى القول إن الأسطورة التي تتكرر باستمرار حول اختفاء الإسلاميين في الجزائر وعدم توافقهم مع التحولات الديمقراطية في البلاد لا تتعدى كونها مجرد أمنيات تتبادر إلى أذهان العديد من المراقبين الغربيين.
لا وجود لشعارات إسلامية
يتساءل الكاتب الجزائري بوعلام سلسال حول ما إذا كان الإسلاميون الجزائريون يخططون لشيء ما، ويذهب السياسي لوران فوكييه وغيره إلى تبرير الشعور بالخوف من الإسلاميين بناء على حسابات سياسية. ويبدو التساؤل جليا حول ما إذا كان هناك خطر حقيقي بركوب هؤلاء الأشخاص على الأحداث والمظاهرات الشعبية الكبرى في الجزائر أو أنهم اختفوا من المشهد السياسي إلى الأبد وينتمون الآن إلى الماضي. ويستند المحللون في هذه التخمينات على حقيقة كون التظاهرات التي امتدت من وهران إلى قسنطينة لم تشهد ترديد شعار إسلاموي وحيد.
لا تعتبر هذه المظاهرات السلمية، التي يثني عليها المراقبون بشكل ساذج كما لو لم تكن حاضرة في التاريخ الجزائري المعاصر، شيئا جديدا
قبل محاولة الرد على هذه التساؤلات، يتوجب علينا أولا فحص هذه الفرضيات الرئيسية، ويبدو أنه من المنطقي إمعان النظر في الفرضية القائمة حول تواجد الإسلاميين من عدمه في التظاهرات التي اندلعت منذ 22 شباط/ فبراير المنصرم في الجزائر. وحالما يستحضر المرأ الحركات الإسلامية، يؤكد الاستخدام الحصري لقاموس التمييز أن معظم السياسيين والمتحدثين باسم النظام والوكلاء الثقافيين يرون أن وضع الإسلاميين لا يزال سلبيا للغاية. والجدير بالذكر أن المرة الوحيدة التي فاز خلالها الإسلاميون بالانتخابات منذ استقلال الجزائر كانت سنة 1991.
قمع دموي
لإظهار أن الإسلاميين كانوا في وضع يسمح لهم بالسيطرة على الانتخابات، يجب على المرأ أن يثبت أنهم قد اعتُبروا غرباء بالنسبة لبقية المواطنين المشاركين في الاحتجاجات. والجدير بالذكر أن الإسلاميين كانوا غائبين عن جحافل الجزائريين من مختلف الأعمار، والذين خرجوا إلى الشوارع والقرى والمدن الصغـيرة والكبيرة في جميع أنحاء البلاد.
يقف القائد التاريخي للجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية، عباس مدني، بمحاذاة نائبه علي بلحاج، في العاصمة الجزائر في أيار/مايو 1991
يبدو أن افتراض غياب الإسلاميين غير مؤكد، حيث أن إثبات صحته ومصداقيته يتطلب تقديم دلائل حول بقاء هؤلاء الإسلاميين في مأمن من النظام الجزائري الذي استمر لسنوات طوال وكان راسخا إلى درجة جعلته غير قابل للتدمير. ويجدر بالمرأ أن ينسى حقيقة التجاء النظام الحالي إلى القمع الدموي بهدف “تجديد” نفسه بشكل مستمر والبقاء في السلطة لمدة ثلاثة عقود تلت الاستقلال منذ ستينات القرن الماضي.
لا تعتبر هذه المظاهرات السلمية، التي يثني عليها المراقبون بشكل ساذج كما لو لم تكن حاضرة في التاريخ الجزائري المعاصر، شيئا جديدا. وبغض النظر عن مدى توتر الحملات الانتخابية في تلك الفترة ومدى عمق الانقسام بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومعارضيها الذين عرفوا باسم “حزب فرنسا”، كان معارضو النظام على وشك الظفر بالسلطة سنة 1991 بواسطة صناديق الاقتراع الديمقراطية وليس عن طريق الكفاح المسلح والعنف.
مؤيدو بوتفليقة الإسلاميون يحملون صورته أثناء حضورهم مظاهرة في تيزي وزو في 19 أيلول/ سبتمبر 2005
بقع تحليلية عمياء
يبدو أنه من المنطقي التساؤل حول سبب عجز بلدان شمال البحر الأبيض المتوسط في فهم النطاق الكامل للتعبئة السياسية في بلدان جنوب المتوسط، فالبقع العمياء في تحليلات الدول الغربية فيما يتعلق بهذه الأحداث ليست بالأمر الجديد. ومن الواضح أن المحللين غير قادرين على فهم أن الاحتجاجات الجزائرية لا تستند إلى مبادرات القوى السياسية القائمة، وأنها شبيهة بانتفاضتي الشعبين التونسي والمصري سنة 2011.
ومن أجل الحفاظ على وجودها السياسي، كان على هذه التشكيلات، بما في ذلك حركة مجتمع السلم الإسلامية لمؤسسها محفوظ النحناح، أن تقدم العديد من التنازلات لفائدة النظام بشكل ساهم في اندثارها وإفقادها مصداقيتها كقوى معارضة. ويبرز بعض القادة السياسيين المعارضين كاستثناء، على غرار نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ، علي بلحاج، الذي استمر في مواجهة الشرطة التابعة لنظام اتخذ من قمعه عادة دورية. واضطر كذلك العديد من المعارضين الآخرين إلى العيش في المنفى نظرا لرفضهم “المصالحة السياسية” المنافقة والمخادعة.
التثبيت الغربي
ومع ذلك، حاليًا يتم إنشاء معارضة جزائرية ذات مصداقية، وخير مثال على ذلك “حركة رشاد”. في المقابل، مما لا شك فيه أنه لا يوجد دليل يتيح لنا الادعاء، خاصة وأن هذا الالتباس الجسيم قد حدث بالفعل في حالة تونس، بأن جميع المتظاهرين في 2019 إما يرفضون الإسلاموية في اتجاهاتها المختلفة أو لا يهتمون بها.
عبد الله جاب الله، رئيس جبهة العدالة والتنمية، وهو يقف في مقر الحزب في العاصمة الجزائر في 15 يناير/كانون الثاني 2017
ولذلك استفسر العديد من المراقبين حول سبب عدم ترديد شعارات إسلامية خلال الاحتجاجات “من الجزائر إلى وهران”. وفي الواقع، لهم وجهة نظر عند طرح هذا السؤال. ولكن إن المشكلة لا تكمن في الملاحظة نفسها، ولكن في “المرجع” الفكري للمراقبين، الذي لا يحتوي إلا على أفكار كاريكاتورية مبتذلة عن معاداة الإسلام التي تتسم بالتبسيط وعدم الوضوح بقدر ما هي مضللة.
في الحقيقة، ترسيخ هذه الفكرة عن “الإسلاميين” من قبل الغالبية العظمى من المعلقين الغربيين لها ثمن، ألا وهو تسميم ذواتهم وتسميم جماهيرهم الذين يخدعونهم. وتعتبر الرقابة النقطة الثانية في هذا السياق، وفي كثير من الأحيان الرقابة الذاتية، وذلك بناء على فكرة أن الإسلاميين قد يكون لهم مطالب وأهداف مخالفة لتلك المطالب “الدينية” البحتة.
ومع ذلك، لا سيما في هذه اللحظة التاريخية القائمة على مبدأ “الرحيل”، ليس لدى الإسلاميين بمختلف توجهاتهم أي سبب للانفصال عن الاحتجاجات الجماهيرية، التي تقوم أهدافها على منع الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة أو وضع حد لهذا النظام المتقهقر والفاسد.
الجزائر المتنوعة
لسائل أن يسأل، ما هو المكان الذي سيحتله الإسلاميون في مستقبل الجزائر؟ وفي حال استطاع الجزائريون تحقيق مطالبهم، وهو أمر بعيد المنال، بالنظر إلى تنازلات بوتفليقة الكاذبة وانقلابه الدستوري الحقيقي، فإن الاحتجاجات المناهضة للنظام ستتبعها حتماً عملية إعادة توزيع رفات النظام.
في التعددية المستقبلية للجزائر المتنوعة، يبدو التساؤل جليا حول هوية من سيحل محل الحركة الإسلامية، التي كان يمثلها بلحاج وتعنته العقائدي لفترة من الوقت
بعد هذه المرحلة، لن يكون هناك إجماع وطني، حيث سيتم تقسيم التصويت بين البرامج السياسية المختلفة للمرشحين المتنافسين. ولا يعني ذلك أن الإسلاميين سيحصلون على رؤية ووجود سياسي جديد من خلال شعارات وبرامج “دينية”، لأن آفاقهم وأهدافهم وطموحاتهم لا تقتصر على ذلك فحسب.
في التعددية المستقبلية للجزائر المتنوعة، يبدو التساؤل جليا حول هوية من سيحل محل الحركة الإسلامية، التي كان يمثلها بلحاج وتعنته العقائدي لفترة من الوقت. وكذلك حشاني عبد القادر، عضو مؤسس آخر في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الذي أغتيل على يد النخبة الحاكمة سنة 1999 حتى لا يضطروا إلى التعامل مع العديد من الفروق، التي هي في الواقع بناءة.
كما لوحظ سابقًا، فاز الإسلاميون في أول انتخابات حرة في تاريخ الجزائر. وذاع صيتها فيما بعد في البلدان المجاورة، بغض النظر عن المشاهد السياسية لكل منها. وأكدت الانتخابات الأولى التي تلت الربيع العربي في كل من تونس ومصر تنوع الحركة في كل مكان.
غياب حركة ما بعد الإسلاميين
في الآونة الأخيرة، حدث الشيء نفسه في لبنان وتونس (الانتخابات المحلية في آيار/ مايو 2018) والعراق، بغض النظر عن تكويناتها السياسية المختلفة والمتنوعة للغاية. في الواقع، يبدو أنه لا وجود لحركة بديلة “لما بعد الإسلاميين” لتأخذ المشعل من هذا الجيل.
في الوقت الحالي، لا يبدو أن أسطورة القضاء على الحركة الإسلامية أو عدم توافقها الضروري مع الانتقال الديمقراطي قابلة للتطبيق
إذن ما هو مكانها ودورها في المشهد الانتخابي الجزائري غدا؟ في هذه المرحلة، من السابق لأوانه استخلاص استنتاجات نهائية. لكن كل الأدلة تشير إلى أن الإسلاميين سيظلون جزءًا من العملية السياسية ويقاومون الأسطورة التي يتم التذرع بها بانتظام خلال العقود الأربعة الماضية حول “هزيمتهم” أو انقراضهم، خاصة في بلد خلقت نتائجه الاستعمارية أرضًا خصبة لارتفاع الإسلاموية.
في الوقت الحالي، لا يبدو أن أسطورة القضاء على الحركة الإسلامية أو عدم توافقها الضروري مع الانتقال الديمقراطي قابلة للتطبيق. في الحقيقة، ينبع هذا المأزق المزدوج من التفكير المبسّط للمراقبين الغربيين، وعدم قدرتهم الأساسية على إقامة علاقة مع لاعبين سياسيين بخلاف العدد القليل من المخبرين المحليين، الذين يخبرونهم بما يريدون سماعه عن الإسلاميين، والتي هي في الأغلب أشياء سلبية بحتة.
من الواضح بل ومن المحتم أن الإسلاميون سيظلون جزءًا من المشهد السياسي في الجزائر. الاختلاف الوحيد هو أن الاتجاه الإسلامي لسنة 2019، في كثير من النواحي، يختلف عن سنة 2012.
وبناء على ذلك، فإن السؤال الذي يطرح الآن يجب أن يكون حول هوية الحركة التي ستظهر من هذا الإتجاه الإسلامي الكبير والمتنوع جداً، وما هو الدور الذي ستلعبه. سيعتمد هذا جزئيًا على ظروف الانتقال الديمقراطي، التي لا تزال حاليًا في بدايتها. ولكن الإسلاميين الجزائريين مستعدون، أكثر من أي وقت مضى، للمشاركة.
المصدر: ميدل إيست آي