لم تنم مدينة الموصل على وقع الكارثة التي ألمت بها منذ يومين، ما يربو على 100 غريق منهم 49 امرأةً و25 طفلاً وعشرات المفقودين الذين لا يعرف مصيرهم، الحكاية بدأت بيوم مشمس من الأيام الأولى لربيع الموصل عندما تزاحمت العوائل للترفيه، قاصدين منطقة غابات الموصل المتنفس الوحيد للمدينة في ظل غياب تام لمشاريع ومتنزهات الحدائق العامة في ثاني أكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد.
الجزيرة السياحية التي تتوسط نهر دجلة أحد أبرز معالم منطقة غابات الموصل التي تستقبل زخمًا من المواطنين للترفيه، ينقلون لها عبر عبارة تقلهم للجزيرة وسط دجلة، العبارة التي يفترض أن لا تزيد حمولتها على 100 شخص تجاوزت 200 وسط غياب تام لكل وسائل السلامة، بداية من غياب لسترات نجاة وقوارب ومسعفين، وصولاً لغياب حتى حبال يمكن رميها لمن يسقط في الماء!
لحظة انقلاب العبارة في نهر دجلة
العبارة التي تسحب عبر النهر بسلك حديدي يتم إدارته بغرفة تحكم كشف لاحقًا أنها بمعدات منتهية الصلاحية منذ سنوات وفق صور حصلنا عليها في هذا التقرير مع زيادة لتدفقات نهر دجلة من بوابات سد الموصل الأمر الذي يجعل سرعة المياه تتضاعف إضافة للحمولة الزائدة من الأشخاص، فكل ذلك أدى لقطع السلك الأول للعبارة وبقاء السلك الثاني، الأمر الذي أخل بالتوازن وجعل مياه النهر الهادرة تقلب العبارة رأسًا على عقب الأمر الذي ضاعف عدد الضحايا نتيجة دفعهم بقوة إلى عمق مياه النهر.
غرفة إدارة العبارة تظهر متهالكة وأدوات قديمة يتم استخدامها في سحب العبارة
هذا الإهمال والاستهتار في وسائل السلامة أوعزه مراقبون إلى المكاتب الاقتصادية التي تتحكم بكل المرافق الاقصادية في المدينة منذ خروجها من قبضة داعش، وهي مكاتب تدعي أنها تابعة للحشد الشعبي وتمارس عملها بصلاحيات واسعة مما يجعل المستثمرين يعتمدون عليها في حمايتهم من أي مساءلة عن تقصير، فقد اعترف محافظ نينوى أن الجزيرة السياحية التي وقعت فيها الكارثة تذهب 30% من وارداتها لفصيل عصائب أهل الحق التابع للحشد الشعبي ويجعل فرضية عدم الاكتراث من المحاسبة هي الأكثر مقبولية لفهم طبيعة الحادث.
فيما كشفت الدقائق الأولى للكارثة ضعف عام وفساد واضح في مفاصل مؤسسات الدولة بداية من افتقار الدفاع المدني للآليات والمعدات اللازمة لمواجهة هكذا حوادث، وضعف التنسيق والتواصل وغياب المستشفيات نتيجة دمارها بالحرب وعدم إعمار أي منها وغياب الكوادر المتخصصة في الإسعاف مما جعل عمليات الإنقاذ وانتشال الجثث تقع بالدرجة الأولى على عاتق المواطنين والقوات العسكرية الأمر الذي ساهم بشكل واضح في ارتفاع عدد الضحايا.
ردود الفعل بعد الكارثة
لم تشهد حادثة داخل الموصل ولا حتى معركة استعادة الموصل القديمة التي ذهب فيها آلاف المدنيين، تعاطفًا وتحركًا موصليًا جامعًا كما حدث خلال اليومين الماضيين مع حادثة العبارة، فالموصليون عبروا من خلال هذه الحادثة عما يعتريهم من وجع مركب على مدار سنوات، هذه الأوجاع التي تركهم فريسة لإدارة فاسدة لم تقدم لهم إلا عرقلة لإعادة الحياة والإعمار للمدينة، مما أدى كارثة العبارة التي فجرت الغضب في الشارع الموصلي.
مدن عراقية متعددة توقد الشموع في نهر دجلة للتضامن مع ضحايا عبارة الموصل
“استنفرت الرئاسات الثلاثة بكل ثقلها للوجود في الموصل بعد الضغط الإعلامي الجماهيري وغضب الشارع الموصلي وهيجانه على المفسدين الذين تسببوا بالكارثة” بهذا الكلام بدأ الصحفي الموصلي فواز الطيب تعليقه لنون بوست، وأكمل الطيب: “جاءت القرارات السريعة بتشكيل خلية أزمات بقيادة الدكتور مزاحم الخياط رئيس لجنة الإعمار وقائد عمليات نينوى ومدير الشرطة بصلاحيات تنفيذية وإدارة الدوائر كسحب يد المحافظ المتهم بملفات فساد متعددة”.
وأعرب الطيب عن مخاوفه من أن تكون القرارات لامتصاص غضب الشارع وتسويف تطبيق القرارات من وإلى المحكمة الاتحادية التي أصبحت شبحًا للوي عنق القوانين وتخليص الفاسدين من المحاسبة ولها شواهد أفقدت ثقة المواطنين بالقانون والقضاء وحتى الدستور بحسب تعبيره.
تعاطف عراقي ودولي واسع مع الكارثة
مع إعلان رئيس الوزراء العراقي الحداد لمدة ثلاثة أيام على الحادث جاءت ردود فعل وتعاطف واسعة مع الحادث داخليًا وخارجيًا، فقد أعلن إقليم كردستان العراق الحداد ووقف الاحتفالات الرسمية بأعياد نوروز، فيما أوقد العراقيون في مدن مختلفة الشموع على ضفاف دجلة، وخرج شباب عند مصب نهر دجلة في البصرة بوقفة تضامنية، فيما أُقيمت صلاة الغائب في مساجد العراق المختلفة على أرواح شهداء الحادثة.
وقفة تضامنية من شباب البصرة
فيما قدمت عدد من الدول تعازيها للعراق، لكن هذا الزخم المتواصل داخليًا وخارجيًا لم يسفر عن قرارات حقيقية يمكن أن ترتقي لحجم الكارثة، فأقصى ما توصلت له الحكومة العراقية هو قرار رئيس الوزراء الذي طالب فيه مجلس النواب العراقي بإقالة محافظ نينوى المسؤول الإداري الأول عن الحادث والمتهم وفق لجنة تقصي الحقائق البرلمانية بالفساد ونائبيه.
لن نسكت
قاد شباب مدينة الموصل حراكًا لجلب حقوق الضحايا، مطالبين بذلك عبر حراكهم الجماهري الذي تواجد على الأرض في تظاهرات عند موقع الكارثة وضغطًا اعلاميًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، وفي حديث خاص لنون بوست قال الدكتور علي أغوان المتحدث باسم الحراك الشبابي: “لن نسكت عنوان عفوي للحراك الشبابي الذي لا ينتمي لأي جهة سياسية أو حزبية وإنما انطلق للمطالبة بحقوق الضحايا وإنقاذ الموصل من الفساد الذي غرقت به”.
وأضاف أغوان: “نحن ننتظر قرارات حقيقية من جلسة البرلمان الأحد القادم وفي حال عدم وجود إجراءات حقيقية فإن كل الخيارات مفتوحة، قد نستمر بالتظاهر أو نعلن الإضراب العام”.
لحظة دهس الإعلامي ليث الراشدي
وفي سياق متصل أقدم محافظ نينوى على دهس الإعلامي ليث الراشدي والمصور كرم الطائي خلال تغطيتهم لحراك الشباب، حيث منع المتظاهرون من أهالي الضحايا عجلة المحافظ من مغادرة موقع الحادثة خلال زيارته للمكان، وبحركة وصفت بالاستهتار الواضح تحركت العجلة بسرعة غير مبالية بالجموع، الأمر الذي أدى لإصابة الإعلامي الراشدي ونقل إلى مستشفى السلام للعلاج، الأمر الذي أثار الأهالي مما دفعهم لتحطيم زجاج عجلة المحافظ كرد فعل على حادثة الدهس.
فيما علق الناشط المدني عمر السالم وهو أحد أعضاء الحراك: “سوف نستمر بالمطالبات ولن نقف عند حادثة العبارة فقط، ولكن سوف نتجاوزها لنصل إلى كل الفاسدين وانتشال المدينة من الفساد”.
متظاهرون أمام موقع كارثة العبارة مطالبين بمحاسبة الفاسدين المتسببين بالحادث
وأكمل السالم معبرًا عن مخاوف الشباب من أن يتم إقالة محافظ نينوى ليس على خلفية الفساد والمحاسبة وإنما على خلفية صفقات سياسية تمنح المنصب لبديل فاسد أيضًا، لذلك نتمنى أن تكون هناك خلية إدارة أزمة من أهالي المحافظة لحين إجراء الانتخابات القادمة.
ما زالت العوائل تتجمهر إلى لحظة كتابة التقرير عند دائرة الطب العدلي في الموصل باحثة عن جثث مفقوديها، وحناجر الشباب الغاضب ما زالت تتظاهر لليوم الثاني على التوالي أمام موقع الحادث، فهل ينصف البرلمان العراقي هذه المدينة المنكوبة بقرارات تساعدها على الانتشال من الغرق في الفساد، وتمنح الراقدين في دجلة بعض الطمأنينة؟