“الآجر” المستخدم في الصحراء التونسية هو نوع من الطوب الأصفر الذي يعد أحد أبرز مقومات الفنّ المعماري القديم المتجدد بواحات تونس، وأحد أبرز العلامات المميّزة للمعمار جنوب المتوسط.
يمتلك الشاب “عنترة الغربي” مهارة عالية في صناعة الآجر، فمنذ أكثر من 20 عامًا، يستيقظ “عنترة” كل صباح باكرًا ليتجّه إلى ورشته بمنطقة “عين المرزوقي” في الضاحية الغربية لمدينة توزر (بوابة الصحراء التونسية) حيث يباشر عمله في صناعة الآجر “القالب”، وفق الطرق التقليدية التي ورثها عن أجداده منذ الصغر.
وتمتاز مدن محافظة توزر (جنوب غرب تونس قرب الحدود الجزائرية) وعدد من المحافظات المجاورة لها بجدرانها الصفراء المزيّنة بـ “الآجر” بما في ذلك جميع بناياتها الحكومية، مما جعلها تتميّز بطابع معماري خاص يجلب إليها آلاف السياح سنويًا، كما تعدّ منطقة “عين المرزوقي” التي تُعرف أيضًا بمنطقة أفران “طهي الآجر”، المنجم الأساسي لصنع هذا النوع المميّز من الآجر منذ مئات السنين.
ولدعم هذه النصاعة التقليدية وضمان استمرارها، فرضت بلديات هذه المدن الصحراوية منذ سنوات قانونًا يفرض استعمال الآجر بنسبة لا تقلّ عن 30% من مجموع المنشآت والبنايات والجدران المبنية.
بعض المباني التي شيدت باستخدام الآجر:
ويتقن “عنترة” منذ سنّ الـ 16 فنّ صناعة الآجر عن والده، حتى بات اليوم أبرز الحرفيين المزوّدين للمنطقة وكامل البلد بالـ “القالب”، مستعينًا في ذلك بخبرة تقدّر بـ20 سنة، اليوم، من المهارات اليدوية في هذا الاختصاص المعماري التراثي الفريد من نوعه في العالم.
يباشر “عنترة” عمله برفقة زميله “سليم” وأخيه “محمد”، بإعداد خلطة مميّزة من أجود أنواع الطين لإعداد قوالب مختلفة من الآجر، التي يصفٌفها بشكل منتظم تحت أشعة الشمس، بعد أن يذّر عليها الرماد حتى تجّف بشكل يحول دون تشقّقها ودون أيّة راوسب ملحية تنقص من جودتها.
مراحل تحضير الآجر:
ويصنع الشاب التونسي ورفيقاه يوميًا بأيادٍ ماهرة خبرت استعمال الطين وتطويعه، أكثر من 500 قطعة من الآجر تكون ثلاثية الأبعاد (طول ٢٥ سم، عرض ١٠ سم، ارتفاع ٣.٥ سم)، وبعد أن تجفّ تحت أشعة الشمس الحارقة بمنطقة توزر يقوم بصقلها بسكين حاد يسوّي فيها أي إعوجاج.
وبعد جمع حوالي عشرة آلاف قطعة من “الآجر” ( تقريبًا مرّة كلّ شهر) يقومون بإشعال أحد الأفران الكبيرة المجاورة لورشتهم، لطهي قطع الآجر في درجات حرارة تصل إلى ألف درجة مئوية ويستعملون في ذلك جريد النخل وجذوره المنتشرة في واحات توزر.
وفي هذا السيّاق، يقول عنترة: “كل شيء في توزر مربوط بالنخلة”، مشيدًا بعمق الرابط الوجودي بين سكّان المنطقة مع النخلة التي تمثّل أحد عناصر بقائهم في هذه المناطق الصحراوية القاحلة.
ويقوم العاملون بمنطقة “عين المرزوقي” باستخدام من 5 آلاف إلى 6 آلاف جريدة نخيل لإشعال الفرن الواحد (حوالي 60 فرنًا بالمنطقة) من أجل طهي 10 آلاف قطعة آجر طينية.
وبعد الطهي تحتاج قطع الآجر حوالي خمسة أيام حتى تبرد، وإخراجها من عمق الفرن، الذي عادة ما يكون نصفه السلفي تحت الأرض.
وتُرصّ القطع بانتظام، ويلمح تغير لونها من الأحمر إلى الأصفر المخضرّ بوضوح بعد طهيها وتجفيفها تحت أشعة الشمس.
ويشير “عنترة” إلى أن الإقبال على شراء الآجر “كبير”، ويقع بيع كل ألف قطعة بما قدره 80 دولارًا.
وفي السنوات الأخيرة، باتت هذه المهنة من الحرف النادرة في المنطقة، نظرًا لصعوبتها وتراجع إقبال الشباب عليها.
ويعيش حوالي 20 عائلة بصفة مباشرة من هذه المهنة، من بينهم عائلة عنترة الغربي الذي أكّد ييقين أنّه لن يدفع بأبنائه إلى “جحيم” هذه الحرفة التي منعته عن إكمال تعليمه بالرغم من أهميّتها وعراقتها، بحسب تعبيره.
فرغم صغر سنّه (36 عامًا) تبدو ملامح الإعياء والتعب جليّة على عنترة، وعلى تجاعيد وجهه الأسمر من حرّ الأفران والشمس، كما أن تشقّق أطراف قدميه ويديه يدلاّن على ما يلاقيه من مشاق في حرفته التي تحتاج للشدّة والصلابة.
وتقول أسطورة يرددها تونسيون إن أصل تسمية المنطقة بـ “توزر” يعود إلى امرأة كانت تدعى “توزر” بمدينة قسنطينة الجزائرية، وكانت متميزة في صناعة الطين والفخار ما أثار حسد زملائها بالمدينة فطردوها ولم تجد من مستقر سوى واحات الجنوب الغربي التونسي ( توزر) حيث جلبت الحرفة معها.
إلا أن رجلاً ستينيًا جار عنترة في العمل يقول إن أصول هذا الفن المعماري جلبها المسلمون والعرب منذ عهد الفتوحات الإسلامية، مشيرًا إلى أن جدران وسور جامع عقبة بن نافع (أول المساجد التي بنيت في أفريقيا في القرن الثامن الميلادي) بُنيت بهذا الآجر.
وتضم مدينة توزر مجموعة من الواحات الأكثر شهرةً في العالم وغابة نخيل تضم أكثر من مليون نخلة ومتحف “دار شريط ” الذي يعتبر من أهم المتاحف المجسدة لأكثر من 3000 سنة من الحضارة.