في الوقت الذي تحاول فيه السلطات النيوزيلندية ترميم جراح المسلمين التي تسبب فيها اليميني المتطرف برينتون تارانت، منفذ مذبحة مسجدي كرايست تشيرش، في الـ15 من مارس الحاليّ، الذي أودى بحياة 50 مصليًا ومثلهم من المصابين، ها هي الدنمارك مع موعد جديد من العنصرية في أبشع صورها.
وبينما تعزف رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن على أنغام التسامح وقبول الآخر، مستخدمة في ذلك العديد من الإستراتيجيات الدبلوماسية التي نجحت في تقليل تداعيات الجريمة على تماسك مجتمعها وأمنه واستقراره، فإن الوضع في كوبنغاهن على صفيح ساخن، الأمر الذي ينذر باحتمالية تكرار ما حدث في كرايست تشيرش.
بالأمس وفي استفزاز كبير لمشاعر المسلمين، أقدم رئيس حزب “تشديد الاتجاه” الدنماركي (يميني متطرف)، راسموس بالودان، على حرق نسخ من القرآن الكريم، مبررًا ذلك بأنه يأتي احتجاجًا على أداء بعض أعضاء الجالية المسلمية في العاصمة صلاة الجمعة، أمام مبنى البرلمان الدنماركي، رغم حصولهم على التصاريح القانونية اللازمة بحسب مراسلين.
مسلمو الدنمارك طالبوا بإقامة صلاة الجمعة أمام البرلمان تعبيرًا عن تضامنهم مع ضحايا مجزرة نيوزينلدا وتنديدًا بالحادثة التي أفجعت عشرات الأسر وخيمت الحزن عليهم، سواء في أوروبا أم خارجها، غير أن مسألة التعبير عن الإدانة لم يرق لأنصار حزب “تشديد الاتجاه”.
وبينما كان المسلمون يؤدون شعائر صلاتهم حاولت عناصر من اليمين المتطرف استفزازهم من خلال إحداث ضجيج بواسطة أبواق هوائية، ولم يكتفوا بذلك فقط، بل أحرقوا نسخ من القرآن الكريم والتدفئة عليها على مقربة 100 متر من تجمع المسلمين، هذا بخلاف التحرش اللفظي الذي تعرضوا له على أيدي سياسيين دنماركيين على رأسهم النائب البرلماني عن حزب الشعب الجمهوري اليميني المتطرف مارتن هنريكسن.
بالودان.. العنصرية بوابة الطموح السياسي
لم يخف بالودان الذي يعمل محاميًا وفي بعض الأحيان صحفيًا، حقده الشديد ضد المسلمين على وجه الخصوص، معتبرًا أنهم سبب الأزمة التي تحياها أوروبا طيلة الأعوام الماضية، ومن ثم حرص خلال الأعوام الماضية على توجيه خطابه العدائي نحو تعزيز كراهية الجالية المسلمة في بلاده.
الأفكار المتطرفة التي ترعرع على نبتها راسموس دفعته إلى اتخاذ المسلمين ذريعة لتحقيق حلمه السياسي في أن يصبح زعيمًا للدنمارك، ولم يجد الرجل أفضل من بوابة كراهية المسلمين والعنصرية ضدهم للوصول إلى مبتغاه، مستغلاً في ذلك تنامي التيار اليميني المتطرف في أوروبا خلال السنوات الأخيرة.
رئيس الحزب، بالودان، ذهب إلى تحميل السياسيين مسؤولية “سيطرة المسلمين على الدنمارك وانتشار مناطق يمنع علينا دخولها”، معتبرًا أن كل من ينحدر من الدول “المسلمة”، من البوسنة وتركيا وسورية ومصر ولبنان والعراق وباكستان وأفغانستان يجب ترحيله عن الدنمارك
وفي عام 2017 وضع بالودان قدمه على أول طريقه نحو تشريع عنصريته ضد المسلمين عبر تأسيس حزب “تشديد الاتجاه” الذي تحول وبسرعة الصاروخ إلى الحزب الأكثر حضورًا في مضمار كراهية الإسلام ومنتسبيه، وعلى مدار العامين الماضيين لم يعزف الحزب سوى على وتر طرد المسلمين من الدنمارك تحديدًا وأوروبا بوجه عام.
الحزب المتطرف اعتمد في حربه ضد المسلمين على مجابهة حركة “حزب التحرير” الإسلامية التي تصنف في كثير من بلديات الدنمارك على أنها “محظورة” معتقدًا أنها السبيل الأقصر نحو الوصول إلى أهداف سياسية أخرى تتمثل في الحصول على عدد من المقاعد في البرلمان وهو ما لم يحدث، إذ ما زال الحزب يعد من الكيانات المغمورة رغم علو صوته بين الحين والآخر.
اعتقال المسلمين أو ترحيلهم
لم تكن معارضة بالودان بإقامة صلاة المسلمين بالقرب من البرلمان هي الأولى من نوعها، بل سبقه في ذلك العديد من السياسيين أبناء اليمين بصفة عامة، على رأسهم رئيسة البرلمان بيا كيرسجارد التي أعلنت في وقت سابق معارضتها لأداء صلاة الجمعة أمام مبنى البرلمان.
وفي يونيو 2018 وزّع حزب “تشديد الاتجاه” ضمن مشاركته في فعاليات “اجتماع الشعب” الذي عقد في جزيرة بورنهولم، في إطار تقليد سنوي لالتقاء الشعب بالأحزاب البرلمانية ومناقشة سياسات ومقترحات مستقبل البلد، عددًا من المقترحات تشمل التضييق على المسلمين وترحيلهم.
المقترحات تضمنت الحكم على هؤلاء المسلمين الذين ولدوا دنماركيين بالسجن خمس سنوات لدفعهم لقبول الترحيل، أما من يسمون بلا جنسية (الفلسطينيون) فيجب ترحيلهم إلى غزة أو الضفة الغربية، كذلك تبني فكرة تعديل الدستور بما يمنع المسلمين من إظهار أي انتماء ديني في الفضاء العام، مهما كان بسيطًا، في خطوة أولى لترحيلهم.
Stram Kurs med Rasmus Paludan i spidsen brænder koranen og synger sammen, mens Hitzb ut-Tahrir beder fredagsbøn og andre demonstrerer.
Alt foran Christiansborg under massiv politi- og mediebevågenhed. #stramkurs #paludan #rasmuspaludan #koran #quran #quranburning #burningquran pic.twitter.com/yByYIfFWQ6— presse fotos (@pressefotosdk) March 22, 2019
الحزب كذلك اقترح سن تشريعات جديدة في الدنمارك “للتحفيز على الرحيل والترحيل” و”ضرورة منع الصلاة لرب المسلمين في الدنمارك، مع منع كل لغة أو تعبير شفوي مرتبط بالإسلام، بما فيها العربية والتركية والفارسية، إلخ (…) ومنع كل لباس له علاقة بدين الإسلام، بما فيها “الطاقية” (ويكتبها الحزب في مقترحاته هكذا) مع حظر تام لتجمعهم، ومنع شهر رمضان، وإغلاق كل المساجد”.
أيضًا دعا إلى “منع المسلمين منعًا باتًا من ارتياد المدارس ودور التعليم ومنعهم من تلقي أي دروس والحصول على شهادات مهما كانت”، وفوق هذا يود الحزب أن يرى “حجز أملاك المسلمين ومنعهم من التملك تمامًا، سواء عقارات أم أرض أم سيارات أم دراجات نارية أم هوائية ببطارية، والسماح فقط بدراجة هوائية بغيار واحد غير سريعة”.
الحكومة الدنماركية لم تحرك ساكنًا حيال تلك المقترحات التي من الممكن أن يكون لها تداعيات سلبية على مستقبل واستقرار المجتمع ككل
تلك المقترحات تم توثيقها بصورة مكتوبة ومقسمة إلى فقرات ووزعت على الدنماركيين المنتشرين بالآلاف مع قادة أحزاب ونخب مجتمع الدنمارك في جزيرة بورنهولم، وهو ما أثار حينها حالة من الجدل خاصة أن قوانين البلد تمنع التحريض ضد فئة عرقية ودينية بهذه الطريقة.
أما رئيس الحزب، بالودان، فذهب إلى تحميل السياسيين مسؤولية “سيطرة المسلمين على الدنمارك وانتشار مناطق يمنع علينا دخولها”، معتبرًا أن كل من ينحدر من الدول “المسلمة”، من البوسنة وتركيا وسورية ومصر ولبنان والعراق وباكستان وأفغانستان يجب ترحيله عن الدنمارك، “حتى لو ولد فيها هو وأهله، وإن كان الترحيل سيسبب إعدام بعضهم في بلدانهم فهذا لا يعنينا ولا يعني الدنمارك”، ويطرح الحزب الدنماركي إنشاء معسكرات اعتقال للمسلمين تحت مسمى “معسكرات تحفيز على قبول الرحيل”.
مسلمون يؤدون صلاة الجمعة أمام البرلمان الدنماركي
صمت حكومي مثير للجدل
أثارت تلك المقترحات العنصرية وقتها حالة من الجدل داخل الشارع الدنماركي الذي اعتبر بعضهم أن “ما يجري مؤشر خطير جدًا لانتشار التطرف والتحريض ضد المسلمين تحت ذريعة حرية التعبير، والسكوت على بث أخبار زائفة، والدعوة لإنشاء معسكرات تشبه معسكرات اعتقال النازية لليهود”.
الغريب أن الحكومة الدنماركية لم تحرك ساكنًا حيال تلك المقترحات التي من الممكن أن يكون لها تداعيات سلبية على مستقبل واستقرار المجتمع ككل، وهو الأمر الذي تكرر أيضًا مع حادثة حرق نسخ القرآن الكريم أمس، إذ تمت الواقعة تحت حراسة رجال الشرطة وهو الأمر الذي بات في حاجة إلى تساؤل.
التجاهل الرسمي الدنماركي لم يقف عند هذا الحد وفقط، بل إن رئيس الحزب اليميني المتطرف وعلى صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” نشر، ظهر الخميس الماضي، كل التفاصيل المتعلقة بالوقفة المزمعة وأعلن نيته حرق نسخ من القرآن، محددًا الزمان والمكان بالتفصيل، ومع ذلك لم يتحرك أحد.
رغم حالة التهدئة وتطييب الخاطر التي تسعى السلطات النيوزيلندية إلى بثها في نفوس المسلمين، فإن العديد من الجرائم الأخرى باتت تطفو على السطح في بعض المناطق من القارة العجوز
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تبدي فيها الدنمارك تجاهلاً فجًا حيال العنصرية ضد المسلمين، ففي سبتمبر 2015 عرضت حركة تسمي نفسها “اوقفوا أسلمة الدنمارك” رسومات كاريكاتيرية تمس من النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في العاصمة كوبنهاغن، وبالتحديد في ميدان أكسل تورف.
ورغم ما أثارته هذه الحركة من استفزاز لمشاعر المسلمين هناك، فإنها جاءت في حماية رجال الشرطة في الوقت الذي ترى فيه الحكومة الدنماركية أن اتخاذ موقف حيال حرية التعبير أمر لا يتناسب مع الديمقراطية، فقد اتسع نطاق الجدل الدائر حول الرسوم في الأوساط المسلمة لا سيما من المشرفين على المنظمات والجمعيات الإسلامية في البلاد.
Hitzb ut-Tahrir afholder fredagsbøn foran Christiansborg.
Samtidig afholdes flere demonstrationer mod Hitzb ur-Tahrir, herunder demonstration af Stram Kurs og Rasmus Paludan. #hitzbuttahrir #stramkurs #paludan #rasmuspaludan #christiansborg #politidk #nyheder pic.twitter.com/uOTYY5vQCx— presse fotos (@pressefotosdk) March 22, 2019
حالة سخط عارمة تجتاح المسلمين في الدنمارك عقب حرق نسخ من القرآن الكريم على مرأى ومسمع من الجميع، حكومة وشعبًا، دون أن يتحرك أحد، في الوقت الذي يتصاعد فيه اليمين المتطرف في معظم دول أوروبا بصورة غير مسبوقة، هذا التيار الذي وصفه خبراء بأنه أخطر على المجتمع الأوروبي من الجهاديين أنفسهم.
حالة قلق تخيم على الجالية المسلمة في عواصم أوروبا خلال الأيام الماضية في أعقاب حادثة نيوزيلندا، فرغم حالة التهدئة وتطييب الخاطر التي تسعى السلطات النيوزيلندية إلى بثها في نفوس المسلمين، فإن العديد من الجرائم الأخرى باتت تطفو على السطح في بعض المناطق من القارة العجوز، ولعل حادثة كوبنهاغن أمس تجسيد واضح للإصرار على المضي قدمًا في هذا المضمار.
صمت الحكومة الدنماركية وتجاهل منشورات الكراهية وتعزيز الخطاب العدائي ضد المسلمين وترك الحبل على الغارب لعناصر اليمين المتطرف لممارسة عنصريتها تحت ذريعة حرية التعبير والديمقراطية ربما يكون له تداعيات خطيرة إن لم يتم تداركه، فالثمن ربما يكون غاليًا، وأمن المجتمع واستقراره هو الضحية الأكبر ما لم يتحرك الجميع.