بدأت مدينة تونس، قبل يومين، برنامج استضافتها لفعالية “عاصمة الثقافة الإسلامية” لعام 2019، باحتفالات متنوعة ينتظر أن تمتد لفترة طويلة، وتبين من خلالها دورها في الثقافة الإسلامية منذ تأسيسها قبل قرون عدة، وتمسكها بالموروث الإسلامي مع الانفتاح على الحضارات الإنسانية المتنوعة.
بداية الاحتفالات
في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، اختيرت العاصمة تونس لتكون “عاصمة للثقافة والتراث الإسلامي لسنة 2019” عن المنطقة العربية، وذلك بقرار من المؤتمر العاشر لوزراء الثقافة للبلدان الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي المنعقد بالخرطوم.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، استلمت تونس، في شخص وزير ثقافتها محمد زين العابدين، علم احتفالية “عاصمة الثقافة الإسلامية 2019″، وهو حدث يأتي بعد قرابة سنتين من احتضان مدينة صفاقس التونسية فعاليات “عاصمة الثقافة العربية”.
تشهد المدينة المحتفى بها برنامجًا ثريًا بالأنشطة والفعاليات المختلفة تبرز إسهاماتها في إثراء الإبداع الفكري والثقافي
تعتبر هذه المرة الثانية التي يتم فيها اختيار مدينة تونسية عاصمة للثقافة والتراث الإسلامي بعد اختيار مدينة القيروان سنة 2009، وتعود مبادرة إعلان مدينة من العالم الإسلامي عاصمة للثقافة وللتراث الإسلامي طوال سنة إلى المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (إيسيسكو) التي يوجد مقرها بالرباط.
وبدأت إيسيسكو تقليد “عاصمة الثقافة الإسلامية” منذ عام 2005، ودأبت بعد ذلك على إقامة هذه الفعالية سنويًا في ثلاث مدن، واحدة عن المنطقة العربية، وواحدة عن المنطقة الآسيوية، وواحدة عن المنطقة الإفريقية.
ويتم اختيار العواصم الإسلامية حسب معايير دقيقة يراعى فيها أن تكون العاصمة الثقافية ذات عراقة تاريخية وتميز ثقافي وأن تكون لها مساهمة في إغناء الثقافة الإسلامية وازدهار الثقافة الإنسانية، وفق المدير العام للإيسيسكو عبد العزيز التويجري.
تشهد المدينة المحتفى بها برنامجًا ثريًا بالأنشطة والفعاليات المختلفة تبرز إسهاماتها في إثراء الإبداع الفكري والثقافي وإشعاعها على الثقافات والحضارات الأخرى، ويشمل البرنامج الذي وضعته تونس بهذه المناسبة أنشطة متنوعة بين الموسيقى والمسرح والسينما وندوات فكرية وعلمية ومعارض فنية وترميم لمعالم إسلامية، وكانت بداية الاحتفالات بحفل أقيم على مسرح الأوبرا في مدينة الثقافة بالمدينة، تم خلاله تقديم العرض الموسيقي (ذروة المعالي) الذي يعبر عن التمسك بالموروث التراثي مع الانفتاح على الحضارات الإنسانية المتنوعة.
وقال وزير الشؤون الثقافية التونسي محمد زين العابدين في كلمة الافتتاح: “من بين جل عواصم العالم تُختار تونس اليوم من المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم عاصمة للمنطقة العربية 2019 وفي ذلك أكثر من مغزى بالنظر إلى الراهن الحضاري الذي تحمله هذه العاصمة والرهان الثقافي الذي تتحمله مستقبلاً في هذا الظرف الذي يمر به عالمنا الإسلامي”.
تاريخ زاخر
تقع مدينة تونس في الشمال الشرقي من البلاد التونسية، وهي تتركب من مجموعة من العناصر الحضرية منها المدينة العتيقة، وقد مثلت عبر التاريخ مركزًا دينيًا مهمًا في بلاد المغرب، فتحت على يد القائد العربي حسان بن النعمان سنة 82 هجريًا الموافق لسنة 701 ميلادي، وجعلها قاعدة عسكرية بحرية، للحد من هجوم البيزنطيين.
تم بناء مدينة تونس على أنقاض قرية لوبية قديمة عرفت باسم “تنس” وكذلك “ترشيش”، وكان الهدف من إقامتها في ذاك الزمن أن تكون مركزًا متقدمًا لحماية قرطاج، وقد حاول الكتاب العرب تفسير الاسم بالاعتماد على اللغة العربية، ولذلك قالوا إنها سميت هكذا لوجود راهب كانت سرايا المسلمين تنزل بإزاء صومعته، وتأنس لصوته فيقولون: هذه الصومعة تؤنس، فلزمها هذا الاسم فسميت باسم تونس.
طور الحفصيون أسلوب الحكم وأصبحت معهم مدينة تونس أكبر مركز عمراني في البلاد التونسية يمتد سلطانها من طرابلس غربًا إلى بجاية شرقًا
مع بداية تأسيسها، ورثت تونس مدينة قرطاج القديمة التي تحولت إلى قرية صغيرة، وأصبحت تونس مدينة كبرى خلف مدينة القيروان (الوسط)، إلا أن نهضتها الكبرى كانت خلال العهد الأغلبي، فأصبحت منزلتها تضاهي القيروان، حتى إنها تولت مرتبة العاصمة في مرات عدة عرفت فيها القيروان صعوبات وأزمات.
سنة 1159 ميلاديًا، تم اختيار مدينة تونس مركزًا للحكم في إفريقية من عبد المؤمن بن علي الموحدي (تتبع الدولة الموحدية في المغرب)، بعدما تمكن من دحض النورمان المسيحيين الذين سيطروا على البلاد سنة 1147 ميلادي، غير أنها لم تصبح العاصمة الفعلية للبلاد إلا بعد أن أعلن والي الموحدين أبو زكرياء الحفصي سنة 1228 ميلاديًا استقلاله عن الدولة الموحدية وتأسيس الدولة الحفصية.
طور الحفصيون (قبيلة أمازيغية مصمودية) أسلوب الحكم وأصبحت معهم مدينة تونس أكبر مركز عمراني في البلاد التونسية يمتد سلطانها من طرابلس غربًا إلى بجاية شرقًا، وتعددت بها الأجناس فكان هنالك بالإضافة إلى العرب مجموعات بربرية مهمة من المصامدة وأخرى أندلسية وأخرى مشرقية وكذلك مجموعات غير عربية وغير مسلمة.
عرفت تونس أوجها خلال العهد الحفصي
في سنة 1574 ميلاديًا، انتقل حكم تونس إلى العثمانيين، وبقيت المدينة عاصمة للإيالة فعرفت مثل بقية البلاد التونسية حكم الولاة العثمانيين ثم حكم البايات المراديين ثم حكم الدولة الحسينية، وقد كانت تمثل إحدى أهم المدن في بلاد المغرب إلى جانب الجزائر ومراكش وطرابلس.
في مايو/أيار سنة 1881، احتلت تونس من فرنسا كسائر البلاد، وذهبت السيادة إلى الفرنسية رغم وجود الباي والمسؤوليين التونسيين حينها، ورغم الاحتلال الفرنسي فقد بقيت مدينة تونس مركزًا للبلاد ومدينة مهمة في بلاد المغرب، وتدعم ذلك عقب الاستقلال في مارس/آذار 1956.
أعلام مهمة
يعود اختيار تونس لتكون عاصمة للثقافة والتراث الإسلامي، في جزء كبير منه، إلى دورها البارز في نشر الدين الإسلامي في المنطقة، وإلى دورها المهم أيضًا في المحافظة على التراث الإسلامي منذ تأسيس المدينة إلى وقتنا الراهن.
ولعبت تونس في فترات كثيرة دورًا مركزيًا في نشر الدين الإسلامي في بلاد المغرب، وأيضًا في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، وقد كان لها دور مهم في فتح “صقلية” أكبر جزر البحر المتوسط مساحة، وأغناها من حيث الثروات الطبيعية والموارد الاقتصادية.
ساهمت تونس بفضل علمائها الأجلاء في نشر الدعوة الإسلامية في المنطقة، ومن بينهم “محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي” الذي يكنى أبا عبد الله، إمام تونس وعالمها وخطيبها ومفتيها، وقد كان من فقهاء المالكية.
وعُرف عن “بن عرفة” أنه ذا دين متين وعقل رصين وحسن إخاء وبشاشة وجه للطلاب، وقد تخرج على يديه جماعة من العلماء الأعلام، وقضاة الإسلام، ووصفه ابن فرحون بأنه صائم الدهر والإمام السيوطي بأنه مجدد المئة الثامنة والحافظ ابن حجر بأنه شيخ الإسلام بالمغرب والإمام قاضي الجماعة أبومهدي الغبريني بأنه لا يرى ولا يسمع مثله في ثلاثة أشياء الصيام والقيام وتلاوة القرءان.
عبد الرحمن بن خلدون
فضلاً عن بن عرفة، أنجبت تونس أيضًا “ابن خلدون”، وهو عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي، ولد في تونس وشب فيها وتخرج في جامعة الزيتونة، وليَ الكتابة والوساطة بين الملوك في بلاد المغرب والأندلس ثم انتقل إلى مصر حيث قلده السلطان برقوق قضاء المالكية.
وتعتبر مصنفات مؤرخ من شمال إفريقيا “بن خلدون”، من أهم المصادر للفكر العالمي من أشهرها كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر (تاريخ ابن خلدون).
معالم كبرى
مساجد
عرفت تونس منذ التأسيس إلى الآن، بناء منشآت دينية كبرى ساهمت في نشر الثقافة الإسلامية في المنطقة، وأبرز هذه المعالم على الإطلاق جامع الزيتونة الأعظم، ويرجح المؤرخون أن من أمر ببنائه هو حسان بن النعمان المعروف بالغساني عام 79 هجريًا، وقام عبيد الله بن الحباب بإتمام عمارته عام 116 هجريًا خلال العصر الأموي، واستغرق بناؤه أعوامًا عدة حيث تميز بفخامة بنائه وحسن زخرفته.
جامع الزيتونة الأعظم
يعود السبب الرئيس في تسميته بهذا الاسم حسب العديد من الروايات لأنه بُني على مساحة جغرافية تحوي في قلبها شجرة زيتون واحدة، فأصبح اسمه استئناسًا بهذه الشجرة، وتصل مساحة الجامع الإجمالية إلى خمسة آلاف متر مربع، ويحتوي على تسعة مداخل و160 عمودًا أصليًا جُلب من أطلال مدينة قرطاج القديمة، ويحوي مئذنةً يصل ارتفاعها إلى 43 مترًا، ويقوم على الجامع هيئةٌ تعرف باسم مشيخة الجامع الأعظم.
فضلاً عن جامع الزيتونة، نجد جامع يوسف داي المعروف أيضًا باسم جامع سيدي يوسف هو أول جامع حنفي في تونس بعد الفتح العثماني ويسميه البعض جامع البشامقية، تم بناؤه سنة 1612 ميلاديًا في عهد يوسف داي وهو أول مسجد يبنى على طريقة العمارة العثمانية ويحتوي قبر مؤسسه.
ومن بين معالم مدينة تونس أيضًا، جامع حمودة باشا المرادي الذي يعرف باسم جامع سيدي بن عروس وذلك لقربه من ضريح هذا الرجل التقي، وقد بناه حمودة باشا المرادي سنة 1655 ميلاديًا، وهو الجامع الثاني الذي يتبع المذهب الحنفي بتونس، يمتاز بمئذنته ذات الأضلع الثمانية، أما التربة التابعة له فهي مقبرة لمؤسس الجامع ولأفراد عائلته.
جامع حمودة باشا
قريبًا من هذا الجامع، نجد جامع القصبة الذي أمر ببنائه السلطان الحفصي أبو زكرياء الأول وذلك بداخل القصبة التي كانت تضم أيضًا مقر الحكم والقصر، وكان يسمى في العهد الحفصي باسم جامع الموحدين، كانت البناية في الأصل عبارة عن مسجد صغير لحي، لتتحول إلى جامع تقام فيه صلاة الجمعة، في الوقت الذي كانت فيه هذه الوظيفة تقتصر على جامع الزيتونة.
زوايا
إضافة إلى المساجد، ساهمت الزوايا والأضرحة التي أقيمت للأولياء الصالحين من المتصوفة في نشر الدين الإسلامي، ومن تلك الزوايا، نجد زاوية سيدي محرز، وتوجد في نفس النهج الذي يحمل اسم الولي الصالح محرز بن خلف الملقب بسلطان المدينة وهو مولود بمدينة أريانة (بضاحية تونس) في أواسط القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي، وكان ورعًا مشهورًا بكرمه وتقاه.
زاوية سيدي محرز
قضى سيدي محرز حياته يعلم القرآن ولهذا عرف بالمؤدب، وهو مدفون في المحل الذي كان يلقي فيه دروسه حيث بنيت الزاوية، ويكن التونسيون اليهود لهذا الولي بالغ التقدير لأنه حماهم وأسكنهم في حومة الحارة بالقرب من مسكنه بعد أن كانوا يسكنون خارج أسوار المدينة.
ومن تلك الزوايا أيضًا، نجد زاوية سيدي بن عروس أو زاوية سيدي أحمد بن عروس، وهي زاوية من زوايا مدينة تونس، أصبح اليوم جزءًا منها مكتبة عمومية وجزءًا آخر مقرًا لرابطة الجمعيات القرانية، وهي معلم مصنف منذ 16 من نوفمبر/تشرين الثاني 1928، وقد أمر ببنائها السلطان الحفصي أبو عمرو عثمان سنة 1434 ميلاديًا للشيخ الصالح الولي أحمد بن عروس.
مدارس
لم تكن المدارس أقل شأنًا في نشر الإسلام بمدينة تونس وبلاد المغرب عمومًا، وتعتبر المدرسة الشماعية أو مدرسة الشَماعِين أبرزهم، وهي أول مدرسة تم بناؤها في مدينة تونس وفي بلاد الغرب الإسلامي، وهي تعود إلى العهد الحفصي.
وقد جعل السلطان الحفصي أبو زكرياء يحيى الأول هذه المدرس قرب قصره وقرب جامع الزيتونة، ويتفق المؤرخون على أن المدرسة الشماعية مثلها مثل بقية المدارس الحفصية الأخرى، كانت تهدف إلى نشر المذهب الموحدي وهو المذهب الرسمي للدولة، وتكوين إطارات ذات كفاءة للإدارة.
المدرسة الشماعية
ضمن المدارس أيضًا، نجد المدرسة العاشورية، وهي إحدى مدارس مدينة تونس التي بنيت خلال العهد العثماني، وقد استمدت المدرسة العاشورية اسمها من الحي الذي تقع فيه، والمسمى بحي حوانت عاشور قرب الحفصية، وهي المدرسة الوحيدة التي بها مئذنة، ويوجد خارجها كتاب.
ساهمت المدارس في نشر الدين الإسلامي
تعود المدرسة العاشورية إلى أواسط القرن الثامن عشر للميلاد، مثلها في ذلك مثل مدارس أخرى أسسها علي باشا في نفس الفترة تقريبًا ومن بينها المدرسة الباشية والمدرسية السليمانية، أما العاشورية، فهي أقدم مدرسة أسسها علي باشا وكان ذلك عام 1160هـ/1746، وجعلها لطلبة المذهب المالكي القادمين من داخل البلاد، رغم أن المذهب الرسمي للدولة هو المذهب الحنفي، بما يعنيه ذلك من محاولته كسب الرأي العام الشعبي حيث إن أغلب التونسيين من المالكية.
بهذه المعالم والمؤسسات الدينية الزاخرة والتاريخ الكبير والأعلام المهمة، اكتسب مدينة تونس مكانة كبرى في منطقة المغرب العربي منذ بداية تأسيسها إلى الآن، فقد أسهمت في نشر الدين والثقافة الإسلامية وساهمت في سيادة هذا الدين القويم في هذه المنطقة.