بعد 675 يومًا من التحقيق في القضية الأكثر جدلا على الساحة الأمريكية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، أسدل روبرت مولر الستار عن قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة واحتمالية تورط الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وعدد من مساعديه، في القضية وذلك بعد إرساله التقرير الختامي لوزارة العدل.
التقرير الذي استغرق إعداده 22 شهرًا تم تسليمه امس الجمعة للمدعي العام وليام بار الذي سيقرر حجم المعلومات التي سيطلع عليها الكونغرس ووسائل الإعلام، وسط تباين ردود الفعل حول مضمونه الذي بات من الواضح أنه طي الكتمان في غياب المعلومات التفصيلية عنه ومن المرجح أن يستمر لذلك بعضا من الوقت.
الكثيرون يرون أن ترامب ربما يتنفس الصعداء إثر الإعلان عن انتهاء التقرير بعد عامين من السجال والهجوم المتبادل بشأنه، خاصة بعدما أثير بشأن عدم تضمنه اتهامات جديدة بحق الرئيس ومساعديه، غير أن العديد من القرائن الأخرى ربما تشير إلى خلاف ذلك.
حالة من التوجس من نتائج التقرير تخيم على الشارع الأمريكي، لاسيما بين المعسكرين الديمقراطي والجمهوري، وبدلا مما ذهب إليه البعض بشأن اتضاح الرؤية بصورة كاملة عقب الانتهاء منه وتسليمه إذ بحالة من الارتباك والفوضى تسيطر على الأجواء، وسط عديد من علامات الاستفهام التي تطل برأسها بشأن مستقبل التقرير وما يحمله من سيناريوهات بعضها قد يؤثر على مستقبل ترامب السياسي وحظوظه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
التقرير بصورته الحالية قابل للتأويل بأكثر من شكل، ففي الوقت الذي ربما يقرأه أنصار ترامب بأنه ايجابي وانتصار لموقفهم في ظل عدم وجود اتهامات جديدة يراه الفريق الأخر غير ذلك، وهو الأمر الذي جعل الصورة أكثر غموضا عما كانت عليه قبل تسليمه
ماذا قدم مولر في تقريره؟
المعلومات الأولية التي ساقها التقرير تمحورت حول توجيه مولر اتهامات ضد ما لا يقل عن 34 شخصًا وثلاث شركات، بخصوص التواطؤ مع الروس في التدخل في الانتخابات، تلك الاتهامات تشمل عددا من الشخصيات المقربة من ترامب على رأسها مستشار الأمن القومي السابق، ومحاميه الشخصي، ورئيس حملته الانتخابية ورنائبه.
تلك الاتهامات الموجهة أسفرت مجمعة عن أكثر من عشر سنوات من عقوبات السجن بحق المتهمين، وهو ما أشار إليه جوش غيرستين ودارين صامولوشن، في تقرير لهما على موقع “politico ” اليوم السبت، كاشفين أن مولر وجه اتهاما لـ 12 من مسؤولي الاستخبارات الروسية باختراق حملة المرشحة الرئاسية الخاسرة هيلاري كيلنتون ، وسرقة رسائل البريد الإلكتروني الخاص بها ونشرها من خلال ويكليلكس وغيرها من وسائل النشر الالكترونية.
الكاتبان أشارا إلى أنه من السابق لأوانة إصدار الحكم النهائي بشأن تورط ترامب في تلك الفضيحة، خاصة وأن مولر وإن كشف عن أدلة بارزة إلا أنها لا تكفي لتقديم لائحة اتهام، وليس هذا وفقط، بل ربما يتم تجاهل أي ذكر لمثل تلك الأدلة، حيث نادراً ما تنشر وزارة العدل النتائج التي لا ترقى إلى مستوى لائحة الاتهام الجنائية.
وفي الوقت ذاته أفادت وسائل إعلام أميركية أن مولر لن يوصي باتهام المزيد من الأشخاص في تحقيقه حول التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية عام 2016، بعد تقديمه تقريره، فيما أشار مسؤول رفيع بوزارة العدل لوسائل الإعلام إنه بعد توجيه اتهامات إلى 34 شخصا -بينهم ستة من مساعدي الرئيس السابقين- فإنه لا يتوقع توجيه اتهامات جديدة.
الرئيسان الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين
إرتباك أكثر منه توضيح
من المرجح أن يثير إتمام التقرير مزيدًا من الارتباك أكثر من الوضوح ، حيث يظل التقرير نفسه سريًا بينما يناضل الرئيس وخصومه من أجل تحقيق مكاسب سياسية، بحسب المحلل ديفيد روهد، الذي أشار في تقرير له على موقع ” Newyorker” أن الكرة باتت الأن في ملعب المدعي العام ، وليام بار ، الذي أدى اليمين الدستورية في 14 فبراير ، والذي يتمتع بالسلطة القانونية لإصدار نسخة غير سرية من التقرير.
روهد أشار إلى أنه خلال جلسة مجلس الشيوخ في يناير الماضي حول نتائج التقرير ومدى ما وصل إليه ، قال “سأقوم بتوفير أكبر قدر ممكن من المعلومات، بما يتماشى مع القواعد واللوائح التي تشكل جزءًا من اللوائح القانونية المعمول بها” مضيفًا “بموجب القواعد الحالية ، يفترض أن يكون هذا التقرير سريًا “.
ومن المقرر أن يُطلب من بار تقديم ملخص لتقرير مولر إلى الكونغرس، وفي رسالة له قال: “أنا أراجع التقرير وأتوقع أنني قد أكون في وضع يسمح لي بتقديم النصح للكونغرس بشأن الاستنتاجات الرئيسية للمستشار الخاص في أقرب وقت ممكن في نهاية هذا الأسبوع.”
أفضل ما يمكن توقعه هو مستند موجز يوضح بعض الملعومات التي تضمنها والتي لا تضيف جديدًا عما تم الكشف عنه خلال الأشهر الماضية
وبعد ساعات قليلة من تسليم التقرير لوزارة العدل أصدر السناتور مارك وارنر ، نائب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ بيانًا، قال فيه “يجب تقديم تقرير مولر للكونجرس على الفور ، ويجب على النائب العام أن يعد بسرعة رفع السرية عنه، نسخة من التقرير للجمهور. لن يكفي أي شيء أقل من ذلك “.
وفي السياق ذاته دشن بعض الديمقراطيين بمن فيهم رئيسة مجلس النواب ، نانسي بيلوسي ، هاشتاغ #ReleaseTheReport (لن يتم نشر التقرير) في إشارة إلى شكوك حول قيام المدعي العام بنشر تفاصيل التقرير، في مقابل ما يثار بشأن مطالبة الجمهوريين بوضع حد لما يسمونه “تحقيقات مضللة للرئيس”، إلا أن النتيجة الأولية لهذا السجال ربما تكون الفوضى بحسب روهد.
التقرير بصورته الحالية قابل للتأويل بأكثر من شكل، ففي الوقت الذي ربما يقرأه أنصار ترامب بأنه ايجابي وانتصار لموقفهم في ظل عدم وجود اتهامات جديدة يراه الفريق الأخر غير ذلك، وهو الأمر الذي جعل الصورة أكثر غموضا عما كانت عليه قبل تسليم التقرير.
مستقبل التقرير.. إلى أين؟
ستتضح الصورة بشكل تدريجي خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فيما يتعلق بمستقبل التقرير، حيث تعهد الديمقراطيون في مجلس النواب باستدعاء التقرير المقدم ، وإذا رفض بار تسليمه ، فسيتم استدعاء مولر نفسه للإدلاء بشهادته، الأمر الذي ربما ستبب في أزمة دستورية طويلة الأمد ونزاع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
البعض ذهب في قراءته لمستقبل التقرير إلى أن أفضل ما يمكن توقعه هو مستند موجز يوضح بعض الملعومات التي تضمنها والتي لا تضيف جديدًا عما تم الكشف عنه خلال الأشهر الماضية، مستبعدين نشر أي معلومات من شأنها أن تثير البلبلة، ذلك لأن سياسة وزارة العدل لا تتمثل في بث الغسيل القذر للناس إذا لم يؤد ذلك إلى توجيه اتهام جنائي.
أما فيما يتعلق بعلاقة البيت الأبيض بالتقرير وإمكانية حصوله على نسخة منه، فهناك احتمالية لذلك لمراجعته قبل إرساله إلى الكونغرس، ما يعني احتمالة لعب دورا صارما بشأن المعلومات الواردة فيه وحجب بعضها عن الجمهور، وهو الأمر الذي نفاه رودي جولياني ، عضو الفريق القانوني الشخصي للرئيس في تصريحاته لـ POLITICO أول أمس الخميس قائلا إنه لا يتوقع أن يحصل البيت الأبيض ولا محاميي ترامب على فرصة لمراجعة التقرير الموجز قبل إصداره إلى الكونغرس.
من الصعب توجيه اتهامات جنائية للرئيس، مساءلته عمل سياسي يقوم به الكونغرس. لذا أقول إنه من المبكر الحكم على نتائج انتهاء التحقيقات قبل الاطلاع على محتوى التقرير
ابتهاج وترقب
انقسم الشارع الأمريكي حيال التقرير بين مبتهج ومترقب، فمن جانبه، رأي أنصار ترامب أنه يمثل نهاية سعيدة للرئيس الذي دارت حوله شبهات إعاقة العدالة، وشبهات أخرى تتضمن كبار مساعديه مثل صهره جاريد كوشنر وابنه دونالد ترامب جونيور محورها التواطؤ مع روسيا.
أحد مستشاري الرئيس وصف أخبار انتهاء التقرير وتسليمه بأنها “يوم عظيم لأميركا” لافتا إلى أن إسدال ستار التحقيقات دون توجيه اتهامات إضافية “انتصار كبير للرئيس ترامب الذي أكد ومنذ البداية على عدم إعاقته العدالة وعلى عدم تواطئه مع الروس”.
أما الإعلامي شون هانيتي – المذيع بمحطة فوكس الإخبارية، وأحد أبرز الداعمين لترامب فعلق قائلا إن “الاعلام المعادي لترامب ضلل الشعب الأميركي خلال العامين الماضيين مدعيا تواطؤ ترامب مع الروس. والآن ومع انتهاء تحقيقات مولر، هل يعترف ذلك الإعلام بانتصار ترامب”.
وفي الجهة الأخرى غرد الفريق المناوئ لترامب خلاف ما ذهب إليه أنصاره فيما يتعلق بقراءة التقرير بشكل كامل، وهو ما أشارت إليه خبيرة قانونية فضلت عدم ذكر اسمها تحدثت لـ “الجزيرة” بأن “الموضوع لن ينتهي مع عدم توجيه اتهامات جديدة. قد يكون هناك ما يضر بترامب ويخضعه للمساءلة السياسية إذا تم الكشف عما يدين الرئيس دون توجيه اتهامات التزاما بلوائح وزارة العدل التي تمنع توجيه اتهامات للرئيس أثناء وجوده بالسلطة”.
الخبيرة أضافت أنه “من الصعب توجيه اتهامات جنائية للرئيس، مساءلته عمل سياسي يقوم به الكونغرس. لذا أقول إنه من المبكر الحكم على نتائج انتهاء التحقيقات قبل الاطلاع على محتوى التقرير”، واتفق معها في الرأي جون دين، المستشار القانوني السابق بالبيت الأبيض، قائلا “رغم عدم توجيه اتهامات جنائية إضافية، علينا الانتظار لمعرفة محتوى التقرير”.
أما جوليت كاييم، المساعدة السابقة لوزير الأمن الداخلي،فأكدت أنه “وطبقا لقواعد وزارة العدل لا يستطيع مولر توجيه اتهامات جنائية للرئيس، ولذلك علينا الانتظار لمعرفة ما إذا احتوى التقرير على ما يدين الرئيس ترامب أو يشير إلى تعاونه مع روسيا أو التواطؤ معها أثناء الانتخابات الأخيرة”.
الديمقراطيون لن يتركوا الأمر يمر هكذا، فهناك ضغوط لعرض تفاصيل التقرير كاملا على الكونغرس دون الاكتفاء بملخص عام قد يغض الطرف عن الكثير من الحقائق، يتناغم هذا مع رغبة شعبية في عرض كافة المعلومات التي تضمنها التقرير عن إخفاء أي منها، وهو أكده استطلاع رأي أجرته أجرته محطة “سي أن أن” بين 14 و17 من مارس/آذار الجاري عن رغبة 87% من الأميركيين في رفع السرية عن تقرير مولر، والسماح بالشفافية الكاملة، ونشره كاملا بغض النظر عما يحتويه من نتائج، في حين وافق فقط 9% من الأميركيين ألا يتم نشر التقرير كاملا.
وهكذا وعكس ما كان يتوقعه البعض بأن الانتهاء من التحقيقات وتسليم التقرير من شأنه أن يميط اللثام عن الجدل بشأن تورط ترامب وفريقه في التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية فإذ بالأمور تتجه نحو مزيد من الغموض والارتباك، فكل يقرأ التقرير وفق مصالحه الخاصة، لتبقى الأيام القادمة هي المحك الرئيسي لاختبار مصداقية قراءة كل فريق.