عاشت البلدان العربية على مدار تاريخها المشترك وخاصة في العصر الحديث وهي تحلم بشعارات ونزعات قومية، حتى قبل ظهورها في أفكار واضحة، خمسينيات القرن الماضي، بالتوازي مع الحقبة الناصرية، ورغم ذلك، يعيش كل بلد عربي حتى الآن، تقسيماته الإدارية الخاصة به، حسب ثقافته الاجتماعية ونظامه السياسي والاقتصادي الذي شكل هويته لتكييف البيئة المحلية لإدارة المدن، سواء عبر نظام مركزي أم لامركزي.
وتعتمد جميع البلدان العربية وخاصة في شكلها الحديث على آليات الإدارة المحلية، وتنوع في الاختصاصات بين السلطة المركزية والمحلية، والمجالس المنتخبة من المواطنيين، وإن كانت لا تمارس دورها حسب الأنظمة المحلية المتعارف عليها بالدول الحديثة، بما يعني أن أغلب المحليات الموجودة في الوطن العربي وشمال إفريقيا شبه مركزية، من الرياض للقاهرة لتونس والجزائر.
من الخليج.. الرياض نموذجًا
تعيش السعودية نقلة نوعية في نظامها الإداري والمحلي المخصص لإدارة شؤون المدن، ورغم حداثته نسبيًا وتدشينه في سبعينيات القرن الماضي، فإنه من أفضل الأنظمة المحلية وضوحًا بالمنطقة، في ظل ارتكازه على أطر عقائدية سواء كانت اجتماعية أم دينية، بجانب الاستناد بأكبر قدر إلى تاريخ أنظمة الحكم في الدول الإسلامية لتطعيم النظم الجديدة بها.
ينتمي النظام الحاكم في السعودية إلى شريحة أنظمة الملكية المطلقة، ورغم تأخره على مستوى الحداثة السياسية، فإنه يقسم البلاد إلى 13 منطقة ويضع على رأس كل منها حاكم يعين بقرار من الملك، يكون الغالبية العظمى منهم من “آل سعود”، وهو ما يضع مبررًا منطقيًا لوضع سلطات واسعة في يدهم لإدارة المدن، حتى بشكل أوسع وأكبر من البلدان العربية الجمهورية، على اختلاف أنظمتها السياسية وموقفها من الديمقراطية وآليات الحكم المحلي.
يحاول الطاقم المسؤول عن أمانة الرياض تطبيق نظام لامركزي، بداية من الهيكل التنظيمي الذي يتبع أسلوب التنظيم الرأسي الاستشاري، ويضع السلطة العليا في المدينة بيد رأس التنظيم
أدخلت الممكلة تعديلات كبيرة منذ عام 2002، وأَضافت صلاحيات جديدة لوزارة الشؤون البلدية والقروية، وصنفت البلديات إلى فئات “أ” و”ب” و”ج” والقرى إلى فئات “ب” و”ج” و”د” وكلفتها بمهام سلطات المياه والصرف الصحي وتخطيط المدن والبلدات وتطوير وصيانة البنية التحتية كالطرق والمجاري، وهو نظام مختلف عن مصر وتونس، إذ يضع هذه الآليات في يد وزارة مختصة، تخضع الوحدات الإدارية المحلية إلى إعادة تصنيف كل 3 سنوات بناء على عدد السكان والمتغيرات الحياتية والاجتماعية.
في منطقة الرياض تحديدًا، وهي عاصمة المملكة العربية السعودية وواحدة من المدن التي تتبني نظامًا فريدًا يجعل منها قبلة للسكان من جميع المناطق المجاورة، بل ومن جميع أنحاء العالم، تتبنى آليات لامركزية في إدارة مؤسساتها وهيئاتها، تتلخص في الكهرباء والمياه والصرف الصحي والتنمية العقارية، بجانب مطار الملك خالد الدولي وقصر الحكم والحي الدبلوماسي.
تدار الرياض عبر مؤسسات الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض التي أنشئت عام 1974، وتلخصت في مجلس يترأسه أمير منطقة الرياض وينوب عنه نائبه، فيما يتولى أمين الأمانة العامة، متابعة أعضاء الأحياء المختلفة التابعة للمدينة، ويختص المجلس بالسياسة العليا لتطوير المدينة، وإقرار خطة تنميتها والبرامج الزمنية للتنفيذ والتنسيق بين مختلف الجهات التي تزاول نشاطها بالمدينة.
يحاول الطاقم المسؤول عن أمانة الرياض تطبيق نظام لامركزي، بداية من الهيكل التنظيمي الذي يتبع أسلوب التنظيم الرأسي الاستشاري، ويضع السلطة العليا في المدينة بيد رأس التنظيم، فيما تمر تقارير المستشارين عبر لجنة عليا أولاً تتولى رسم السياسة العليا وإقرار خطة التنمية، بالتعاون مع وكيلين، أحدهما للمشاريع والتعمير والآخر للخدمات، بجانب مدير عام للشؤون المالية.
ومن أجل تقنين الفساد، يوجد مبنى مستقل لجميع الإدارات والأقسام، وهو يعمل بمعزل عن مقر الأمانة الرئيسي، بجانب استقلال الإدارة العامة للتشغيل والصيانة المسؤولة عن صيانة الطرق والكباري والأرصفة والإنارة والصيانة العامة والمشاريع، في الرياض بمبنى آخر، للتحرر من قيود الروتين، عبر صلاحيات واسعة يمكلها مديرها العام، لاتخاذ القرار بحرية بعيدًا عن الآليات البيروقراطية، وكذلك تستقل إدارة الزراعة والحدائق والتجميل بقرارها، لتشجير شوارع المدينة وميادينها وحدائقها العامة وحدائق وملاعب الأطفال، وهكذا يكون كل كيان مسؤولاً عن خطته المعتمدة مسبقًا، كل داخل نطاق تخصصه وفي إطار الخط العام لنشاط الأمانة.
العراق.. بغداد
يتبع العراق أيضًا نظامًا لامركزيًا، ويمكن رصده في التقسيم الإداري لمدينة بغداد العاصمة التي تنقسم إلى 10 قطاعات، تتوزع على 3 مديريات عامة و10 معاونيات على مستوى كل مديرية عامة، وتعمل هذه الدوائر جميعها على تحقيق أهداف أمانة العاصمة المكلفة بتنفيذها في بغداد.
كانت بغداد تضم 130 مجلس قضاء، وتم تخفيضها بنسبة 30% لتصبح 87 مجلسًا فقط، وفق سياسة الحكومة لضغط الإنفاق الحكومي، بجانب الاستفادة الأمنية من تقسيم العاصمة إلى وحدات إدارية، يسهل السيطرة عليها، لا سيما أن العاصمة بغداد في نمو مستمر
في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2016، طرح مشروع للتقسيم الإداري الجديد للعاصمة العراقية من أجل التصويت عليه، وشمل 20 قضاءً و67 ناحيةً، وكان المجلس نفسه صوت في وقت سابق على تحويل ناحية بغداد الجديدة إلى ثلاثة أقضية هي: المعامل والغدير وبغداد الجديدة، وفصل منطقة الشعب عن الأعظمية وجعلها قضاءً مستقلاً، وفصل منطقة الكرادة عن الزعفرانية كقضاء مستقل، فيما تحولت مدينة الصدر بموجب نفس التقسيم إلى قضاءين هما: الصدر الأول والثاني، يتبع كل واحد منهما خمس نواحي بحسب القطاعات، وكل قاطع تحول إلى قضاءين على الأقل.
كانت بغداد تضم 130 مجلس قضاء، وتم تخفيضها بنسبة 30% لتصبح 87 مجلسًا فقط، وفق سياسة الحكومة لضغط الإنفاق الحكومي، بجانب الاستفادة الأمنية من تقسيم العاصمة إلى وحدات إدارية، يسهل السيطرة عليها، لا سيما أن العاصمة بغداد في نمو مستمر.
مصر.. القاهرة
تتبع مصر نظامًا خاصًا في الإدارة المحلية، عبر تقسيم أراضيها إلى محافظات ومراكز ومدن وأحياء وقرى، ولكل منهم مجلس تنفيذي ومجلس شعبي محلي، يكون مهمتهم جميعًا تنفيذ السياسة العامة للدولة والخطة التي تم إقرارها لإدارة المرافق العامة الواقعة في دائرتها، وكل حسب نطاق اختصاصاته، تحددها لائحة تنفيذية، توضح تدريجيًا هرم السلطة بداية من سلطات المحافظ الذي يتولى مسؤولية اتخاذ القرار في شأن جميع المرافق العامة الواقعة بنطاق وحدات الحكم المحلي بمقتضى القوانين واللوائح.
بحسب قانون الحكم المحلي في مصر، يترأس المحافظ جميع الأجهزة والمرافق المحلية، كما يتولى الإشراف على المرافق القومية بدائرة المحافظة وكذلك جميع فروع الوزارات التي تنقل اختصاصاتها إلى الوحدات المحلية فيما عدا الهيئات القضائية
كانت القوى السياسية قد طالبت بالتحول إلى مفردات الحكم المحلي، وخاصة بعد ثورة 25 يناير، حتى تتولى كل مدينة مزيدًا من المسؤولية والمساءلة، خلافًا لدستور 1971 الذي وضع القوانين المنظمة للإدارة المحلية، ثم تعديلات القانون المعمول به وهو 43 لسنة 1979 وما تلاه من تعديلات، نهاية بدستور 2014 الذي تناول الإدارة المحلية في فصل مستقل، ولكنه لم يتنازل عن مصطلح الإدارة المحلية، بدلاً من الحكم المحلي.
وبحسب قانون الحكم المحلي في مصر، يترأس المحافظ جميع الأجهزة والمرافق المحلية، كما يتولى الإشراف على المرافق القومية بدائرة المحافظة وكذلك جميع فروع الوزارات التي تنقل اختصاصاتها إلى الوحدات المحلية فيما عدا الهيئات القضائية، بحيث يكون الوسيط بين الحكومة المركزية ووحدات الحكم المحلي في محافظته، وعلى وجه الخصوص القاهرة التي تحاول تطبيق نظام لامركزي، يتلخص في المجلس التنفيذي لمحافظة القاهرة الذي يرأسه المحافظ مباشرة، ويضم أمانة السكرتير العام، وبعضوية نواب المحافظة الأربع في مجلس النواب، ورؤساء الأحياء الـ”16″، كما يضم المجلس ممثلي الوزارات المختلفة وبعض الهيئات ذات الصلة.
بجانب المجلس التنفيذي، يأتي دور المجلس الشعبي المحلي للمحافظة، ويشكل من 192 عضوًا، تحجز المرأة مقعدًا واحدًا، بجميع الأقسام الإدارية بالمحافظة، على أن يضم كل حي عدد من أقسام الشرطة البالغ عددها 32 قسمًا ويعتبر كل حي وحدة إدارية مستقلة، وأسفل المجلس الشعبي، يوجد مجلس تنفيذي لكل حي يقوده رئيس الحي والسكرتير العام، وبعضوية ممثلي الوزارات والجهات المختلفة ذات العلاقة، نهاية بالمجالس الشعبية المحلية للأحياء بالقاهرة، وتشكل من ثمانية أعضاء عن كل قسم من أقسام الشرطة منهم مقعد للمرأة حسب عدد الأقسام التي يتكون منها الحي، وعلى هذا الأساس يتراوح عدد اعضائها بين 16- 24 عضوًا.
قسنطينة.. الجزائر
تتبع الجزائر أسلوبًا لامركزيًا أيضًا، يقسم البلاد إلى وحدات متدرجة، يرأس كل ولاية “الوالي”، وتقسم دوائر والدوائر إلى بلديات، والأخيرة وحدة لامركزية في الدولة تتمتع بالشخصية المعنوية، فيما يضم المجلس الشعبي البلدي صلاحيات أكبر عن جيرانه، بداية من انتخابه لمدة خمس سنوات، مرورًا باختصاصاته التي تشمل إدارة أملاك البلدية وإبرام العقود وتوفير الحماية المدنية وإنشاء المرافق العامة وإقرار الميزانية، وبجانب المجلس الشعبي، هناك هيئة تنفيذية، تضم أعضاء منتخبين من المجلس الشعبي البلدي، وفقًا لعدد السكان، وذلك لتطبيق قرارات المجلس على أرض الواقع.
يحصن القانون الهيئات البلدية ضد انحراف سلطات الوصاية، ويعطيها الحق في الطعن على قراراتها، إذا تعدت على استقلالها، سواء بالطريق الإداري أم بالتظلم أمام رئيس الوالي وهو وزير الداخلية، نهاية بالتقاضي
في قسنطينة، يضم مجلسها البلدي 14 لجنة تؤدي المهام السابق الإشارة إليها، ويرأس كل لجنة، نائب من نواب الرئيس الـ14، وكل رئيس يتعامل مع مدير إداري ينفذ مداولات المجلس، وفقًا لعدد سكان البلدية، ويجتمع بدعوة من الرئيس كلما تطلبت شؤون البلدية ذلك، ويمارس الوالي سلطة الوصاية كما معروف في القانون الجزائري، ويكون من حقه الإشراف على أعمال البلدية، كما يملك الرقابة على المجلس الشعبي البلدي والرقابة أيضًا على القرارات التي تصدر عن المجلس بعد المداولة.
في المقابل، يحصن القانون الهيئات البلدية ضد انحراف سلطات الوصاية، ويعطيها الحق في الطعن على قراراتها، إذا تعدت على استقلالها، سواء بالطريق الإداري أم بالتظلم أمام رئيس الوالي وهو وزير الداخلية، نهاية بالتقاضي.
المغرب.. الدار البيضاء
يتبع المغرب نظامًا لامركزيًا أيضًا في الإدارة المحلية، وتنظيم إداري حديث، ولكنه يتخذ من مبادئ الإسلام طريقة للإدارة عن طريق الشورى التي يتضمنها الدستور المغربي، وفق الأعراف الاجتماعية، بمطعمات ديمقراطية، عن طريق تشكيل مجالس يتم تكليفها بتسيير الجماعات المحلية بالاقتراع العام المباشر.
في الدار البيضاء، توجد 5 عمالات على رأس كل واحدة منها عامل، ومنهم يتم اختيار “الوالي” للتنسيق بين هذه العمالات، وتدبير المصالح اللامركزية، ومراقبة إنجاز المهام ونشاط الموظفين واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة حال رصد أي مخالفة، وهو لا يختلف في ذلك عن مسالك الدول العربية في التوجه نحو اللامركزية بالإدارة المحلية، وإن كانت السلطات في الغالب من نصيب الوالي، إلا أنها تعطي الاعتبار للشكل الحديث للامركزية، باعتباره من أهم مظاهر الدولة الحديثة التي توزع وظائفها ومهامها ومسؤولياتها على الأجهزة الإدارية المختلفة.