لو كانت هناك جائزة أوسكار لأحسن مراوغ في العالم لمُنحت لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالتزكية، فمجرم الحرب المُلاحق قضائيًا والمطلوب اعتقاله بأمر المحكمة الجنائية الدولية يجيد فن المراوغة بخبث عبقري، ساعده على ذلك خبراته الطويلة وسنوات عمره التي قضاها داخل سراديب السياسة العنصرية لدولة الاحتلال.
وكشفت حرب غزة الراهنة تلك الموهبة بصورة جلية، فنتنياهو يجيد التمثيل بجدارة، ولديه من الإمكانيات والقدرات ما يساعده على الخداع والتضليل وقلب الحقائق بإتقان شديد، وهو ما أهله لأن يهمين على السلطة في “إسرائيل” لأكثر من 15 عامًا، ليصبح بذلك رئيس الوزراء الأطول في تاريخ الكيان المحتل.
واعتاد نتنياهو على مدار أشهر الحرب الـ13 الاستعانة باستراتيجية “القفز” في مواجهة الفشل والتحديات والضغوط التي يتعرض لها، حيث الهروب من المأزق بتغيير الدفة، وتبديل المسار، وفتح جبهات أخرى، يحاول من خلالها تخدير المشهد وتبطيء حدة الانتقادات وامتصاص الاحتقان والغضب، بما لا يثنيه عن المضي قدمًا في طريقه نحو تحقيق مجده الشخصي المزعوم والهروب من فخ الملاحقات القضائية وتعزيز مكاسبه الشخصية.
ولم يكن التأرجح على طاولة المفاوضات بين الساحتين الفلسطينية واللبنانية، ولا التسريبات التي تخرج بين الحين والآخر من داخل مكتبه، سوى تكريس لقدراته الخداعية وفنون المراوغة التي يجيدها، لكسب المزيد من الوقت وكسر موجة الضغوط التي يتعرض لها ميدانيًا وسياسيًا، وإبقاء المشهد ملتهبًا أطول فترة ممكنة، بما يخدم مصالحه وطموحاته السياسية.
المفاوضات.. سلاح المراوغة الأبرز
منذ خرق جيش الاحتلال لهدنة نوفمبر/تشرين الثاني 2023 والتي جاءت بعد أكثر من 46 يومًا على بداية الحرب في غزة، بات واضحًا أن هناك نية مبيتة من نتنياهو بمواصلة المعركة واستمرارها أيًا كان الثمن، لكنه بين الحين والآخر كان يتعرض لضغوط قوية من عائلات الأسرى والمحتجزين الذين لا يكلون من مطالبته بإبرام صفقة تبادل وإنقاذ الأحياء من المحتجزين، محذرين دومًا من تداعيات استمرار القتال على حياة الكثيرين من أبنائهم لدى المقاومة.
لم يأبه نتنياهو المُنساق من اليمين المتطرف لما يتعرض له من ضغوط، مشددًا على مواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها المزعومة (القضاء على حماس وتحرير الأسرى وضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا للداخل الإسرائيلي) وهي الأهداف التي فشل في تحقيق أي منها بعد أكثر من 415 يومًا من الحرب.
ويومًا تلو الآخر تتصاعد الضغوط التي تعززت أكثر مع انضمام قادة المعارضة لعائلات الأسرى، هذا مع العجز عن تحقيق أي انتصار ميداني يعزز به نتنياهو موقفه ويبرر استمراره في تلك الحرب التي باتت بلا رؤية أو هدف، فبات العزف على وتر أرقام الضحايا من الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء، وحجم الدمار والخراب الذي لم يترك مترًا واحدًا في غزة، وتغول آلة القتل والتنكيل التي طالت الشجر والحجر والبشر، هو ساحة التفاخر الوحيدة لإقناع الداخل الإسرائيلي بنجاحاته المزعومة في تلك الحرب.
لكن يبدو أن لغة الأرقام التي يستعين بها نتنياهو لتمرير نصره المزعوم لم تقنع عائلات الأسرى ولا المعارضة ولا النخبة في الداخل، فضلًا عن تعريضه لسمعة الكيان المحتل عالميًا لمزيد من التشويه فبات معزولًا وملاحقًا قضائيًا ومجرمًا في قفص الاتهام أمام المحاكم الدولية، وهنا كان لا بد من تهدئة الأجواء ومحاولة امتصاص موجات الغضب المتصاعدة، وكان ذلك عبر مسارين:
الأول: فتح جبهات قتال جديدة.. فأمام العجز عن تحقيق الأهداف المرجوة من الحرب في قطاع غزة، وتصاعد الانتقادات لإدارة تلك الحرب، لجأ نتنياهو ومجلس الكابينت إلى فتح جبهة قتال جديدة ناحية الشمال مع “حزب الله”، وتارة مع اليمن وثالثة مع العراق ثم إيران، وتضخيم الخطر الذي تمثله تلك الجبهات وضرورة التصدي لها وتوحيد المواقف لأجل هذا الهدف الذي يحاول من خلاله لملمة شتات الجبهة الداخلية الممزقة.
الثاني: التأرجح على حبل المفاوضات بين لبنان وغزة.. أما المسار الثاني وهو الأكثر شيوعًا على أجندة نتنياهو، فيتعلق بالمفاوضات التي لم يُحرز أي تقدم بشأنها رغم أنها لم تتوقف منذ بداية الحرب، وتعامل رئيس الوزراء الإسرائيلي مع العملية التفاوضية كـ”مخدر” لتهدئة الرأي العام وامتصاص غضب المحتجين من عائلات الأسرى وتجنب الصدام مع المعارضة التي تطالبه على مدار الساعة بوضع المحتجزين على قائمة الأولويات بعدما بات واضحًا أنهم خارج الحسابات بالمرة.
فمع كل تصعيد من الشارع بشأن الأسرى، يكون رد الفعل الإعلان عن جولة مفاوضات جديدة، يصاحبها جلوس مع عائلات الأسرى وإيصال رسائل طمأنة وتهدئة وامتصاص للغضب، تستغرق بعض الوقت، وتمنح جيش الاحتلال أريحية المزيد من التغول والتدمير، ثم كالعادة لا تثمر عن أي شيء، في ظل صلف المفاوض الإسرائيلي، ليلقي بعدها نتنياهو الكرة في ملعب حماس والمقاومة وتحميلهما مسؤولية فشل المفاوضات وتعثر إبرام صفقة للتبادل، وهكذا دواليك على مدار أكثر من عام كامل.
ومع فتح جيش المحتل جبهة قتال جديدة شمالًا مع “حزب الله”، باتت خيارات المراوغة إزاء مسألة التفاوض مع نتنياهو أكثر تعددية، فحين تتصاعد الضغوط بشأن المفاوضات مع حماس في غزة تقفز الحكومة الإسرائيلية لساحة التفاوض مع “حزب الله” بزعم إعادة سكان الشمال البالغ عددهم أكثر من نصف مليون مستوطن، تضاعف هذا الرقم مؤخرًا بعد وصول صواريخ الحزب للعمق الإسرائيلي في حيفا وتل أبيب.
والعكس صحيح، فكلما تأزم الوضع على الجبهة الشمالية أمام إصرار نتنياهو ويمينه المتطرف على إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف “حزب الله”، وما يعقبه من ضغوط لفرض التهدئة لعودة النازحين من المستوطنين، أرباب ملاجئ وفنادق تل أبيب، يلجأ رئيس الحكومة إلى فتح ملف المفاوضات مع حماس والمقاومة في غزة كـ”مخدر” لتخفيف حدة الانتقادات وتسكين الرأي العام الغاضب.
وهكذا يتراقص نتنياهو على سلالم المفاوضات، متأرجحًا بين سلمتي لبنان وغزة، لكسب المزيد من الوقت، على أمل تحقيق أهدافه وطموحاته الشخصية وإنقاذ مستقبله السياسي عبر انتصار ميداني – بعيدًا عن طاولة المفاوضات – يغسل به سمعته الملوثة وينقذ حريته المشروطة بما حققه من نتائج في تلك الحرب.
التسريبات.. شماعة الفشل
إن كانت المفاوضات هي مخدر نتنياهو لامتصاص غضب الشارع واحتواء عائلات الأسرى وتجنب احتمالات الصدام مع المعارضة، فإن التسريبات هي شماعته الأبرز لتبرير الفشل والعجز عن تحقيق الأهداف الحقيقية للحرب بعيدًا عن الانتصارات الزائفة التي يحاول الترويج لها معتمدًا على لغة الأرقام والإحصائيات حول أعداد الضحايا وحجم الدمار والخراب الذي يُحدثه جيش داخل القطاع.
وتركز خطاب العجز الذي تبناه رئيس الحكومة الإسرائيلية خلال الأشهر الأولى من الحرب على مزاعم تسريب ما يُدار داخل جلسات الكابينت واللجان الأمنية حول سير الحرب وإدارتها، وتحميلها مسؤولية الفشل في تحقيق أهداف المعركة الثلاثة، ومن ثم دخل في صدامات مباشرة مع ممثلي المؤسسة العسكرية في مجلس الحرب المصغر، وصلت إلى إجراء تفتيش ذاتي لهم ومنعهم من اصطحاب هواتفهم النقالة في الاجتماعات.
وتُعد قضية التسريبات الأخيرة التي وجه بشأنها المدعي العام الإسرائيلي إلى مساعد نتنياهو، إيلي فيلدشتاين، اتهامات بتسريب وثائق سرية لمعلومات عسكرية حساسة تخدم المقاومة وتضر بأمن “إسرائيل”، أحدث فصول تلك المسرحية المعتادة، والتي باتت محفوظة عن ظهر قلب، حيث حاول نتنياهو كالعادة توظيفها للقفز على الفشل الذي يعاني منه داخل القطاع والتسويف إزاء إبرام صفقة تبادل.
التحقيقات كشفت أن تلك الوثائق السرية خرجت من مكتب نتنياهو وسُلمت إلى مجلة “بيلد” الألمانية، لتفادي الرقابة المحلية على النشر إذا ما تم تسليمها لوسيلة إعلام عبرية، ومن ثم نشرت المجلة مقالًا في سبتمبر/أيلول الماضي، استند إلى تلك الوثائق التي تشير إلى مخطط حماس ممارسة “ضغوط نفسية” على عائلات الرهائن في محاولة لانتزاع تنازلات من نتنياهو.
رئيس وزراء الاحتلال زعم أن جهات داخلية وخارجية سربت تلك المعلومات التي وصفها بالحساسة وساهمت بـ”تقويض” أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، على حد قوله، مستبعدًا أن يكون مساعد مكتبه هو من يقف خلفها، فيما تتهم المعارضة نتنياهو بأنه من يقف خلف تلك التسريبات – لاسيما أنها تخدم رؤيته السياسية إزاء موضوع الأسرى – من أجل تخفيف الضغط على حكومته، والتهرّب من المسؤولية عن إفشال جهود التوصل إلى اتفاق لتبادل أسرى.
وكعادته في تبني سياسة الهجوم خير وسيلة للدفاع، زعم نتنياهو أن تلك التسريبات تستهدف سمعته الشخصية في المقام الأول، وزيادة الضغوط السياسية والشعبية التي يتعرض لها داخليًا وخارجيًا، داعيًا إلى فتح تحقيق عاجل مع وسائل إعلام دولية نشرت تلك التسريبات، التي تثبت صحة موقفه المتشدد من صفقة الرهائن كما علق هو على المقال المنشور في المجلة الألمانية.
وهكذا يواصل نتنياهو مسرحية التسويف المملة، مستعينًا بقدراته الخارقة في الخداع والتضليل والمراوغة، عبر تخدير الرأي العام الداخلي وتبريد غضب الشارع وفرملة قطار التصادم مع المعارضة، تارة عبر المفاوضات وأخرى عبر التسريبات، ليمنح نفسه الوقت الكافي على أمل تحقيق الانتصار المزعوم الذي يضمن به حريته ومستقبله السياسي بعد أن تضع الحرب أوزارها.
تحصيلًا لما سبق، تبقى مسألة التوصل لاتفاق تهدئة مع “حزب الله” على الجبهة الشمالية أو صفقة تبادل مع المقاومة في غزة، خارج حسابات نتنياهو في الوقت الراهن، وأن كل ما يثار ليس إلا جرعات تخدير لإطفاء النار المشتعلة، في انتظار تغيير جذري يقلب الطاولة ويدفعه نحو نزع قناع المراوغة والجلوس جديًا على طاولة التفاوض لحسم الأمر، ولن يخرج هذا التغيير عن أحد أمرين، إما الميدان أو رغبة الرئيس الأمريكي الفائز في الانتخابات الأخيرة، دونالد ترامب، في بداية ولايته الرئاسية الجديدة بانتصار سياسي يحسب لسياسته الخارجية.