تتمتع بلدية تونس بمكانة كبرى في الجمهورية التونسية، خاصة أنها المركز السياسي والمالي الأبرز في البلاد، لما تحتويه من مؤسسات سياسية سيادية لها القول الفصل في البلاد، ومنشآت مالية كبرى تتحكم في المجال المالي للدولة منذ زمن طويل، بعد أن كان دورها ينحصر في أنها الأرض الخلفية لمدينة قرطاج التاريخية.
تاريخ البلدية
تأسست بلدية تونس قبل أكثر من 160 سنة، في 30 من أغسطس/آب سنة 1858، وتم إنشاؤها بمرسوم محمد باي بن حسين، باي تونس في ذلك الوقت، وهي بذلك أول بلدية في دولة تونس، وكان الجنرال حسين رفيق الوزير المصلح خير الدين باشا، أول رئيسًا لها وشغل هذا المنصب بين 1858 و1865، ومنذ إنشائها تداول على بلدية تونس 33 رئيسًا.
تمتد بلدية تونس التي كانت قديمًا قرية بربرية صغيرة (Oppidum Tunicense) فوق الربوة المنحدرة في يسر حتى ضفاف البحيرة، وتمثل هذه البلدية واحدة من تلك المواقع التي حبتها الجغرافيا واصطفاها التاريخ لتمنح اسمها للقارة الإفريقية جمعاء.
يعتبر الحكم المحلي تجربة جديدة وغير مسبوقة في تونس، لما ينطوي عليه من توجه نحو اللامركزية وتوزيع السلطة
قبل سنة 1858 وصدور الأمر العلي القاضي بتأسيس بلدية الحاضرة (أي بلدية تونس)، كان يوجد منصب شيخ المدينة الذي كان يعينه باي تونس من بين الأعيان والبارزين في المنطقة، أساسًا من عائلات كبار التجار أو من العلماء أو ملاك الأراضي.
أمر التأسيس، أعطى إدارة البلدية لمجلس مكون من 14 عضوًا (رئيس ونائب له و12 عضوا من الأعيان)، وأقر النص المحدث لها تجديد ثلث أعضاء المجلس كل سنة، ويتم اختيار المغادرين في أول سنتين بالقرعة، يمكن كذلك تجديد عضويتهم مرة واحدة.
غداة بداية الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية، صدرت العديد من القوانين التي تحدد عمل البلدية وصلاحيتها وأيضًا أعضائها وتقسيمهم، وكيفية اختيارهم، وعقب نهاية الاستعمار أصبح شيخ المدينة يعين من رئيس الجمهورية، وتعتبر سعاد عبد الرحيم التي انتخبت رئيسة لبلدية تونس في يوليو/تموز 2018، أول رئيسة بلدية منتخبة في تونس.
الجنرال حسين أول رئيس لبلدية تونس
في كل أنحاء البلاد، كان رئيس البلدية يختار من المواطنين الذين تم انتخابهم، إلا في بلدية تونس العاصمة، حيث يتم انتخاب المجلس البلدي، لكن رئيس البلدية (شيخ المدينة) يُختار من بين المنتخبين من رئيس الجمهورية.
وكان لشيخ مدينة تونس حظوة كبرى، حيث كان يحضر في مجلس الوزراء في زمن الرئيس الحبيب بورقيبة وهو تقليد قديم من العهد الحفصي، وكان من العرف أيضًا أن يُعين شيخ المدينة تونس بعد سنوات من اعتلائه هذا المنصب، وزيرًا أولًا أو في مناصب وزارية بارزة.
من الاعتناء بالنظافة وتوفير الأمن إلى الحكم المحلي
اقترن تأسيس بلدية تونس بمسألة تنظيف المنطقة التي تقع تحت تصرفها، فقد كانت كثيرة الأوساخ، فهي تتوسط سبخة السيجومي والبحيرة، كما اقترن أيضًا بتوفير الأمن والاستقرار اللذين كانا مطلبًا أساسيًا للأهالي في ذلك الوقت، فهي بذلك محاولة لتنظيم الحياة الاجتماعية في رحابها ولضبط العلاقات بين سكانها العرب والأجانب الذين أكثروا من الهرج والتطاول على حياة التونسيين والسلطة التونسية ذاتها.
وبعد الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، أصدرت السلطات التونسية أمرًا مؤرخًا بتاريخ 14 من مارس/آذار1957 يتعلق بالمجالس البلدية، الذي نظم طريقة عمل البلديات في كامل التراب التونسي بشكل رسمي وأجريت حينها أول انتخابات بلدية، ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم شهدت تونس 14 جولة انتخابات بلدية، لكن كلها صورية باستثناء الأخيرة في مايو/أيار 2018.
أفرزت انتخابات مايو المحلية الماضية أول امرأة تترأس بلدية العاصمة في الدول العربية
تلا هذا الأمر، القانون عدد 33 لسنة 1975 المؤرخ في 14 من مايو/آيار 1975 المتعلق بإصدار القانون الأساسي للبلديات، الذي ألغى جميع الأوامر السابقة، وله حصريًا مهمة تنظيم عمل البلديات وتركيبتها، وقد تم تنقيحه في عدة مناسبات (1991، 1995 و2008).
بعد الثورة، حلت كل المجالس البلدية وعوضت بنيابات خصوصية اقترحها نواب المحافظة في المجلس التأسيسي المنتخب في 2011 للعمل مؤقتًا في انتظار إجراء الانتخابات البلدية، يذكر أنه في بعض البلديات تم تغيير النيابات الخصوصية مرات عديدة.
ومع إقرار مجلة الجماعات المحلية الجديدة من مجلس النواب التونسي، التي بمقتضاها أصبح عمل البلديات ينظم بالاعتماد على مبدأ اللامركزية الذي يقره الدستور التونسي في فصله الـ131، وتحديدًا بابه السابع الخاص بالسلطة المحلية، أصبح للبلديات دور أكبر في البلاد التونسية.
مقر بلدية تونس
يعتبر الحكم المحلي تجربة جديدة وغير مسبوقة في تونس، لما تنطوي عليه من توجه نحو اللامركزية وتوزيع السلطة وإعطاء صلاحيات موسعة للمواطنين في إدارة شوؤنهم الذاتية عبر المجالس المحلية والجهوية المنتخبة.
وينص الفصل 131 ضمن الباب السابع من الدستور التونسي على أن “السلطة المحلية تقوم على أساس اللامركزية التي تتجسد في جماعات محلية تتكون من بلديات وجهات وأقاليم، يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وفق تقسيم يضبطه القانون”.
وتتمتع الجماعات المحلية استنادًا إلى الفصل 132 من الدستور بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقًا لمبدأ التدبير الحر، وتمكن للجماعات المحلية، في إطار الميزانية المصادق عليها، حرية التصرف في مواردها بحسب قواعد الحوكمة الرشيدة وتحت رقابة القضاء المالي.
أول امرأة تتولى منصب شيخة مدينة تونس
تحولها من الاعتناء بالنظافة وتوفير الأمر إلى الحكم المحلي، حمل معه أيضًا تحولاً آخر هو الأول في المنطقة العربية، فقد أفرزت انتخابات مايو المحلية أول امرأة تترأس بلدية العاصمة في الدول العربية، ونتحدث هنا عن سعاد عبد الرحيم.
انتخبت سعاد عبد الرحيم (54 سنة) التي تصدرت لائحة حزب النهضة الإسلامي في الانتخابات البلدية الأخيرة، رئيسة لبلدية العاصمة التونسية، لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب بعد أن كان حكرًا على الرجال، وسعاد عبد الرحيم نائب سابق بالبرلمان التونسي عن حزب النهضة الإسلامي وساهمت في صياغة الدستور الجديد لتونس.
سعاد عبد الرحيم
عُرفت عبد الرحيم التي تدير شركة أدوية مهمة في تونس، وهي أم لطفلين، بأخلاقها خلال مرورها في مجلس نواب الشعب ما بين 2011 و2014 ضمن كتلة حركة النهضة، ونشطت خلال سنوات الدراسة الجامعية ضمن “الاتحاد العام التونسي للطلبة”، النقابة الطلابية التي تم حلها زمن حكم زين العابدين بن علي.
منذ 2014، ابتعدت عبد الرحيم عن الأنظار وعملت محللة سياسية في تليفزيون خاص لأشهر قليلة/ وتؤكد عبد الرحيم المحبذة من قواعد “النهضة”، ضرورة “إنجاح اللامركزية لاستعادة ثقة المواطن والشباب”، إلا أنها تواجه العديد من العقبات، خاصة أن أغلب القوانين التي نصت عليها الجماعات المحلية الجديدة لم تفعل بعد ولا يوجد إرادة لتفعيلها.
مركز السلطة السياسية
تعتبر بلدية تونس التي ترأسها حاليًّا سعاد عبد الرحيم عن حركة النهضة الإسلامية، مركزًا للسلطة السياسية في البلاد التونسية، حيث تحتوي على أهم مقرات السيادة السياسية التي لها القول الفصل في البلاد.
ويعتبر الحي العريق المسمى القصبة، حاضرة الإدارة والحكم في تونس، ويوجد فيه إلى اليوم قصر الحكومة حيث مكتب رئيس الوزراء أو الوزير الأول – في فترة حكمي بن علي وبورقيبة – وقد أقام فيه الحفصيون الذين حكموا تونس نيابة عن الموحدين ما بين 1229 و1574 ميلادية.
ساحة الحكومة بالقصبة
تعاقب عليها الدايات من 1598 إلى 1630 والبايات من 1631 إلى 1957 ميلادية، ثم جاء عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من 1957-1987 ثم عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي من 1987 -2010، وحكومات بعد الثورة، فكلها اتخذت القصبة مقرًا لرئاسة الحكومة.
ويدخل الزائر، المدينة القديمة من ميدان تتحلق حوله دوائر الحكم، وأشهرها رئاسة الوزراء كما ذكرنا، وأيضًا وزارات المالية والدفاع والشؤون الدينية والتربية ومقر بلدية تونس، وغيرها من المقرات السيادية الأخرى التي شكلت حلقة حول ساحة القصبة.
مركز البلاد المالي
فضلاً عن كونها مركزًا للقرار السياسي ومقرًا للحكم وتدبير شؤون البلاد، تعتبر بلدية تونس مركز البلاد المالي، ويعد شارع محمد الخامس، الشارع الجميل العريض الطويل المثقل بالتاريخ حيث يمتزج الحاضر بالماضي، مركزًا للبنوك والمنشآت المالية في البلاد، ويعتبر هذا الشارع الذي كان يسمى قبل الاستقلال بشارع قامبطا (اسم محامٍ ورجل سياسة فرنسي)، أحد أهم شوارع تونس العاصمة، وسمي باسم العاهل المغربي محمد الخامس لدى زيارته لتونس عام 1957.
يعد شارع محمد الخامس بالعاصمة أحد العناوين البارزة لتقدم تونس وصورة معبرة عما يميز الاقتصاد الوطني اليوم من حيوية كبرى رغم الأزمات التي مر بها
أصبح شارع محمد الخامس اليوم القلب النابض لتونس في مجال المال والأعمال باعتباره يحتضن مقرات أبرز المؤسسات المالية في البلاد على غرار البنك المركزي التونسي 1979 والشركة التونسية للبنك 1987 والبنك التونسي للتضامن 1997، بالإضافة إلى البنك الوطني الفلاحي منذ سنة 1959 ومقرات نحو عشرة بنوك أخرى تونسية وأجنبية اختارت التمركز بهذا الشارع وعدد من المقرات كبرى شركات التأمين بالبلاد.
كما تحتضن عمارة الوطن وهي أعلى مبنى بالعاصمة يشمل على 17 طابقًا ومقر المجلس الاقتصادي والاجتماعي فضلاً عن مبنى وزارة السياحة إحدى أهم وزارات الدولة ذات الصبغة الاقتصادية، وتحتضن الشوارع المتاخمة لشارع محمد الخامس بدورها مؤسسات بنكية ومالية أخرى تونسية وأجنبية على غرار بورصة القيم المنقولة بتونس والبنك الإفريقي للتنمية.
يمتد شارع محمد الخامس إلى ساحة 14 جانفي التي تعد همزة وصل بينه وبين شارع الحبيب بورقيبة ليضم كذلك مقرات العديد من المؤسسات العمومية ذات الطابع الاقتصادي والمالي منها الديوان الوطني للسياحة والديوان الوطني للزيت ووكالة النهوض بالصناعة والديوان التونسي للتجارة.
تحتوي بلدية تونس على العديد من المؤسسات المالية
يعد شارع محمد الخامس بالعاصمة أحد العناوين البارزة لتقدم تونس وصورة معبرة عما يميز الاقتصاد الوطني اليوم من حيوية كبرى رغم الأزمات التي مر بها الاقتصاد في فترات متتالية، وتحولت ساحة “قامبطا” القديمة التي كانت قبل الاستقلال أرضًا مهملة تتجمع فيها المياه الراكدة، إلى أحد أبرز شوارع العاصمة الأكثر حركية وريادة، لما يحتويه من مبان عصرية ومنشآت مالية ومحلات تجارية.
فضلاً عن شارع محمد الخامس، توجد العديد من المؤسسات المالية والتجارية في شارع الحبيب بورقيبة، حيث اختارت بنوك عديدة أن يكون مقرها الاجتماعي في قلب بلدية تونس لما تتمتع به من مكانة كبرى في البلاد منذ فترة طويلة.