“سنكسب الانتخابات المحلية في كردستان، وسنهزم حزبي العدالة والتنمية والحركات القومية في مدن الغرب” سيزاي تميلي رئيس حزب الشعوب الديمقراطية بالشراكة.
“في دولتي توجد مناطق شرق الأناضول وجنوب شرق الأناضول، ومنطقة البحر الأسود ومرمرة وإيجه، أما كردستان فلا وجود لها” رجب طيب أردوغان رئيس الجمهورية التركية.
أيام قليلة تفصل الناخب التركي عن المشاركة في الاستحقاق الانتخابي الرابع خلال 3 سنوات، فبعد الاستفتاء على الدستور عام 2017 والانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2018، تذهب تركيا نحو إكمال بناء النظام السياسي التركي بانتخاب الهيئات والمجالس المحلية في ظل أزمة اقتصادية وحالة حادة من الاستقطاب الداخلي بين القوى السياسية عكستها طبيعة الموضوعات المتناولة في السجال الانتخابي التي تركزت على موضوعات سياسية كبرى تتجاوز هموم واستحقاقات الانتخابات المحلية.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال جولة انتخابية
فمشاركة الرئيس التركي بثقله في الدعاية الانتخابية لحزب العدالة والتنمية من خلال اللقاءات الشعبية التي ينظمها في المحافظات التركية، عمل على توجيه الرأي العام التركي نحو القضايا الكبرى في محاولة لتجاوز المسائل الاقتصادية وحالة التذمر الناتجة عنها، وفي هذه الأجواء المشحونة عاد النقاش بشأن مصطلح “كردستان” بعد تصريحات رئيس حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، لتشهد الساحة السياسية في تركيا سجالًا بخصوص المصطلح ومشروعية استخدامه.
مصطلح “كردستان” من الحظر إلى الحظر
لسنوات طويلة ظل استخدم لفظ “كردستان” رديفًا لجهود حزب العمال الكردستاني في محاربة الدولة التركية ومساعيه الانفصالية ابتداءً، وصولًا للحكم الذاتي، حيث يطلق الحزب على مناطق جنوب شرق وشرق الأناضول وصف “كردستان”، فيما ترفض الدولة التركية هذه التسمية، فقاموس الدولة التركية لا يحتوي إلا على الجنوب الشرقي أو شرقي تركيا كوصف لهذه المناطق.
قبيل البدء في عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني عام 2013، صرح الرئيس التركي أردوغان في معرض رده على استخدام لفظ “كردستان” قائلًا إن على حزبي الشعب الجمهوري والحركات القومية قراءة محاضر اجتماعات مجلس النواب التركي وخطابات مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك التي استخدم فيها مصطلح “كردستان”
شكل صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، وسياسات الانفتاح تجاه المسألة الكردية والأكراد في تركيا بالإضافة لعمليات الدمقرطة ومواءمة معايير كوبنهاغن فرصة لخلق مجال عام أكثر حرية وثقة سمح بإعادة المصطلح للتداول مرة أخرى، فخلال زيارة الرئيس التركي السابق عبد لله غول للعراق عام 2009 استخدم غول وصف “كردستان العراق” بدلًا من استخدام مصطلح حكومة شمال العراق، الأمر الذي أثار عاصفة من ردود الفعل بين الصحفيين والأحزاب التركية، رد غول أن هذه التسمية هي المعتمدة دستوريًا في العراق، مؤكدًا تمسكه بوحدة بلاده ورفضه أي جهود لتقسيم البلاد.
وقبيل البدء في عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني عام 2013، صرح الرئيس التركي أردوغان في معرض رده على استخدام لفظ “كردستان” قائلًا إن على حزبي الشعب الجمهوري والحركات القومية قراءة محاضر اجتماعات مجلس النواب التركي وخطابات مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك التي استخدم فيها مصطلح “كردستان”، وفي هذا السياق وافقت المحكمة الدستورية عام 2014 على تأسيس حزب حمل اسم “حزب كردستان الديمقراطي”.
شكلت نهاية “عملية السلام” بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية عام 2015، بداية لأحداث عاصفة أدخلت البلاد مرة أخرى في حالة من الاشتباك المسلح بين مقاتلي حزب العمال الكردستاني وقوى الأمن والجيش التركي، الأمر الذي حمل حزب العدالة والتنمية على تبني خطاب الدولة التركية تجاه المسألة الكردية والذهاب في تقارب مع حزب الحركات القومية، ما ترك أثرًا على الخطاب السياسي للحزب تجاه المسألة الكردية ليصبح أكثر محافظة وقربًا من خطاب الدولة التركية التاريخي.
سلوك الدولة التركية الحاليّ أصبح أكثر انفتاحًا واتساقًا مع مفاهيم الحريات وحقوق الإنسان مقارنة بسنوات التسعينيات والثمانينيات
وخلال اجتماع في البرلمان التركي لمناقشة الميزانية عام 2017، استخدم النائب عن ولاية شانلي أورفة عثمان بايديمير من حزب الشعوب الديمقراطية الكردية، مصطلح “كردستان” ما تسبب بمعاقبته بالتغريم والحرمان من حضور عدد من الجلسات، ليعود النقاش بشأن المصطلح مجددًا للحضور على المستوى العام، أو على الأقل التضييق على مستخدميه، فسلوك الدولة التركية الحاليّ أصبح أكثر انفتاحًا واتساقًا مع مفاهيم الحريات وحقوق الإنسان مقارنة بسنوات التسعينيات والثمانينيات.
متلازمة سيفر.. العدو القادم لتدميرك
انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية واحتلال معظم أراضيها وتقسيم القليل المتبقي، وبحلول عام 1920 وُقعت معاهدة سيفر التي قسم بموجبها الأناضول إلى عدد من الدول (الأرمنية والكردية والتركية) بالإضافة إلى مناطق نفوذ واحتلال لدول أجنبية أخرى، لتضع جهود الحركة الوطنية التركية حدًا لمشروع سيفر ويتم توحيد الأناضول وبناء الجمهورية التركية على هضبة الأناضول، لكن آثار الاتفاقية ظلت راسخة في وعي الجماعة التركية المصابة بـ”متلازمة سيفر” التي تستدعي لحظة تاريخية كانت فيها الأمة التركية تحت خطر الفناء والتفتت لتستفز الوعي الجمعي لهذه الجماعة للدفاع عن وجودها وبقائها أمام الأخطار الداخلية والخارجية.
عاد السجال بشأن مصطلح “كردستان” ليحتل مكانًا في الحملات الانتخابية البلدية بعد تصريح رئيس حزب الشعوب الديمقراطية الكردية القائل: “سوف نكسب الانتخابات المحلية في كردستان، وسوف نهزم حزبي العدالة والتنمية والحركات القومية في مدن الغرب”
لسنوات طويلة عُززت متلازمة سيفر في الوعي التركي بواسطة مؤسسات وهيئات الدولة التركية خاصة المؤسسة العسكرية التي أرادت للوعي التركي أن يبقى أسير الخطر القادم، كما استخدمت متلازمة سيفر من حركات وقوى سياسية تركية كل حسب أجندته السياسية والفكرية، فالكمالية رأت في الإسلام السياسي أداة العدو الخارجي لاختراق الدولة التركية وتدميرها وقبل الإسلام السياسي رأت الكمالية في القوى اليسارية أداة الاختراق هذه، ولاحقًا تربع حزب العمال الكردستاني كشاخص لمتلازمة سيفر.
صورة توضيحة لخريطة المعاهدة
مصطلح “كردستان” في السجال الانتخابي من جديد
عاد السجال بشأن مصطلح “كردستان” ليحتل مكانًا في الحملات الانتخابية البلدية بعد تصريح رئيس حزب الشعوب الديمقراطية الكردية القائل: “سوف نكسب الانتخابات المحلية في كردستان، وسوف نهزم حزبي العدالة والتنمية والحركات القومية في مدن الغرب”، بالإضافة إلى حادثة الميكروفون المفتوح في مدينة بالكسير، حيث نسي مرشح حزب الشعب الجمهوري لبلدية أيردميت في ولاية بالكسير سلمان أرسلان، في أثناء حديثه مع النائب عن حزب الشعب الجمهوري أنصار آي تيكن ورجل أعمال كردي، أن مكبر الصوت ما زال مفتوحًا، إذ سأل أرسلان رجل الأعمال لمن سيعطي صوته في الانتخابات المقبلة، ليجيب الأخير بالقول إنه سوف يمنح صوته لـ”كردستان” ليرد آي تيكن بالقول: “أنت تتحدث عنا إذًا”.
استغل حزب العدالة والتنمية هذه التصريحات ليشن أردوغان هجومًا على التحالف الجمهوري متهمًا إياه بالسعي لتقسم البلاد، ليعود أردوغان ويؤكد أن بلاده لا تعرف إقليمًا باسم كردستان، ومن يرغب بالعيش في كردستان عليه الذهاب إلى شمال العراق.
لماذا “كردستان” الآن؟
يشكل مصطلح “كردستان” آخر المركّبات الحية الباقية من اتفاقية سيفر التي منحها تمرد حزب العمال الكردستاني على الدولة التركية الحياة مجددًا، ليصبح المصطلح مؤشرًا خطرًا في الوعي التركي المصاب بمتلازمة سيفر، فاستدعاء مصطلح كردستان بصورته الحاليّة في الانتخابات البلدية لا يحمل فقط معنى المزايدة السياسية تجاه فصيل أو سياسي معين بقدر ما يحمل استدعاءً للحظة تاريخية عاشت فيها النخبة التركية تحت خطر خسارة مجالها الحيوي ووقوعها تحت نير التقسيم والاستعمار.
فاستدعاء النقاش عن مصطلح كردستان في الانتخابات المحلية لا يحيل إلى نقاش قانوني أو حقوقي بقدر ما يحيل إلى مقاربة وجودية ترى فيها مجموعة من الناس والنخب خطرًا وجوديًا يريد الانقضاض على وحدة الأمة وسلامة أراضيها، ولا يوجد أفضل من خطر وجودي لجمع الناس خلف مشروع سياسي ما!