تعج ساحات المدن الجزائرية وقراها على امتداد كل التراب الجزائري باحتجاجات مناوئة للسلطة القائمة، بدأت في البداية بمطلب واحد متفق عليه تمثل في لا للعهدة الخامسة للرئيس الحاليّ عبد العزيز بوتفليقة وسرعان مع تصاعدت الأصوات بضرورة رحيل النظام كله، وانطلقت الخطابات السياسية الحماسية التي أطلقتها بعض الوجوه التي تقدم على أساس أنها شخصيات وطنية، لترفع من سقف المطالب الجماهيرية.
الجميل في هذا أن سماء الحراك السياسي بالجزائر تعج بمصطلحات الحرية والحقوق وإعلاء شأن القانون والعيش الكريم، لكن هذا الجو الحضاري تعكره أصوات أخرى بدأت ترتفع تؤمن وتعتقد بالإقصاء واستبعاد آخرين، وتتصور أن مقاومة تطرف جهة ما تستوجب بالضرورة تطرفًا مضادًا وخطابًا مناوئًا أشد تعصبًا.
تختلط هذه الأصوات بأصوات ترى أن منازلة استبداد السلطة وإنهاء حكم الزمر والعصابات لن ينجح إلا من خلال تدمير وإفناء كل المكونات الاجتماعية التي لا تشارك الحراك السياسي نفس التوجه ونفس الأفكار ناهيك عن تلك المكونات غير المنحازة لغير خيار الحراك السياسي.
على ضوء هذه الاحتجاجات والمطالب وما يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي المتمثلة في موقع الفيسبوك منذ بداية الحراك، فعلينا أن نتساءل ماذا نريد بالضبط من هذا الحراك السياسي؟
الأخطر من كل هذا أن ترتفع أكثر بعض الأصوات لترتسم من خلال خطاب الكراهية والانتقام، وتروج لحل للأزمة الحاليّة والمخرج الوحيد لها هو الانتقام من كل الذين كانوا في الحكم أو تقلدوا يومًا منصب مسؤولية ومن كل الذين لهم أي صلة بهم، بل يذهب آخرون أكثر من هذا إلى اعتبار أن مفهوم النظام السياسي يشمل السلطة والمؤسسات القائمة وحتى مؤسسة الجيش، ويروجون لهذا تحت مبرر أن نجاح الحراك السياسي يرتبط بهذا المسعى والهدف، وإلا فإن النظام السياسي سيلتف حول حراكهم، وأنهم لن ينتصروا بغير الانتقام والقصاص كما يقولون.
وعلى ضوء هذه الاحتجاجات والمطالب وما يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي المتمثلة في موقع الفيسبوك منذ بداية الحراك، فعلينا أن نتساءل ماذا نريد بالضبط من هذا الحراك السياسي؟ هل يسعى الجميع للانتقام وركوب موجة الكراهية والحقد وروح الانتقام؟
الانتقام والعمل السياسي
إن الزمرة الحاكمة ومن لف لفهم مذنبون لا محالة في حق الشعب الجزائري وفي حق تقدم وتنمية وتطور البلد، وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها أو إخفائها أو حتى مناقشتها تحت أي مبرر كان، في المقابل فإن الإجابة عن سؤال ماذا نريد من هذه الاحتجاجات وهذا الحراك كفيلة بتبيان خط مسار هذا الحراك والتنبؤ بمخرجاته، فإذا كنا نسعى للتخلص من كل ممارسات الماضي ومن القواعد التي بنيت على أساسها التعاملات الاجتماعية والسياسية، والاتجاه نحو المستقبل لبناء دولة الحق والقانون، فالسبيل إلى ذلك يجب أن يكون خاليًا من أي حقد أو كراهية أو تعصب، ويجب التخلص من روح الانتقام.
إن تأييد الحراك السياسي والوقوف معه وأن نكون صفًا واحدًا من أجل جزائر الغد، من أجل جزائر الشفافية والديمقراطية ودولة الحق والقانون أمر لا يختلف فيه عاقلان
فالانتقام من الخصوم ساعة الانتصار يعد سقوطًا أخلاقيًا، فالمناهض للظلم والعدوان ومقاومة الاستبداد يجب أن يكون متقدمًا أخلاقيًا على خصومه وعلى المستبدين من خلال التبشير بمستقبل الحب والعيش بسلام وأمن، وبمستقبل لا يظلم فيه أحد ولا ينتقص من كرامته وحريته ولا يمس في دينه وعرضه بسبب معتقده السياسي والديني وبسبب معتقده الفكري وطبقته الاجتماعية.
إن الانتصار الحقيقي يتحقق فقط عندما يتم تبني رؤية تقوم على الأخلاق الحميدة والمثل الإنسانية العليا التي تسعى للانتصار لقيم الخير والعدالة وتجاوز الأحقاد، والنظر إلى المستقبل بروح البناء وبقيم العيش المشترك.
إن تأييد الحراك السياسي والوقوف معه وأن نكون صفًا واحدًا من أجل جزائر الغد، من أجل جزائر الشفافية والديمقراطية ودولة الحق والقانون أمر لا يختلف فيه عاقلان، أما الوقوف في وجه ثقافة إشاعة الفوضى وثقافة الغوغاء وثقافة الانتقام فيعد من قبيل تصحيح المسار وضبط الجموع وتوعيتها، فالانتقام لا يمكنه أن يكون من الأخلاق السياسية السوية لمشروع دولة الحق والقانون التي نسعى لبناءها ونحلم بها منذ أكثر من ستين سنة.
في العصر الحديث فإن الممارسة السياسية ارتبطت كذلك بروح الانتقام من الخصم السياسي من خلال تشويه سمعته والتعرض لعرضه وتفاصيل حياته الخاصة جدًا
لقد كانت إستراتيجية السلطة منذ عشرين سنة هي إشاعة ثقافة الكراهية وحب الانتقام من الخصوم وإذلالهم، واستعملت إستراتيجية فرق تسد وغيرها من الأدوات اللاأخلاقية في العمل السياسي، وعليه فالتغيير وبناء الدولة التي حلم بها الشهداء الأبرار دولة الحق والعدالة يتطلب عدم استخدام نفس الأدوات ونفس الإستراتيجيات، وإلا فما معنى التغيير؟
صور الانتقام
إن صور الانتقام تنتشر في كل مكان أو تقريبًا في الثقافة المعاصرة، إنها تعود دائمًا كفكرة مهيمنة وكعلامة مائية للحدث كما تنقله لنا وسائل الإعلام من صحف ومجلات وتليفزيون وإنترنت وحتى أفلام الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال.
ففي كل مرة تظهر صورة العدو الذي يجب إزالته ويتم تقديم تلك الصور كانتصار مضاد للقسوة والظلم الذي لا يقاوم ولا يحتمل، إن الإغراء السياسي لحلم الانتقام ينبع من ثقافة المجتمعات القديمة كمجتمع القبائل العربية بمنطقة شبه الجزيرة العربية الذي اختلط بقيم الإسلام السمحة لتفسر النصوص القرآنية على ضوء تلك الموروثات وتنتقل إلى مجتمعنا من خلال تراث يوصف على أنه الإسلام.
وفي العصر الحديث فإن الممارسة السياسية ارتبطت كذلك بروح الانتقام من الخصم السياسي من خلال تشويه سمعته والتعرض لعرضه وتفاصيل حياته الخاصة جدًا، على أساس أن ممارسة السياسة تقوم على أساس فن الممكن، وفي البحث عن الممكن، فالميكيافيلية هي المرجع الأساسي التي تستبعد كل ما هو أخلاق من السياسة.
وفق الخلفية الثقافية والسياسية فقد يكون الانتقام مطية للحسابات السياسية وتصفية حسابات سياسية قديمة
من جهة أخرى فالملاحظ سيلاحظ أن الانتقام يتغذى من الممارسة السياسية التي تنشر الكراهية السياسية التي نلاحظها في كره الأجانب والسعي إلى الانتقام منهم على أسس سياسية عرقية دينية، كما نلاحظ أن هذا الانتقام تظهر صوره في انزلاقات بعض الصراعات المحلية الوطنية والدولية التي تأخذ إلى القتل الجماعي من منطلق انتقامي مبني على أسس عرقية كما حدث برواندا مثلاً.
بفحص الممارسة الاجتماعية والثقافات المعاصرة سنجد أن المواجهة مع التماثلات الكلاسيكية للانتقام يظهرها فيرونيك نهوم قراب (Véronique Nahoum Grappe) على أن الكراهية السياسية تعتمد على تخيلات وأكاذيب ينكرها الواقع ومن الضروري محاربتها بأسلحة القانون والأخلاق.
الانتقام السياسي والأحقاد القديمة
وفق الخلفية الثقافية والسياسية فقد يكون الانتقام مطية للحسابات السياسية وتصفية حسابات سياسية قديمة، على الأقل فإن فرضية سياسي قديم مؤثر تحت اسم مستعار كآخرين أو عسكري قديم متقاعد وما أكثرهم أو رجال أعمال أو حتى مستفيدين من الوضع الذي كان قبل مجيء بوتفليقة الذين أُبعدوا بعد مجيئه تؤيد فرضية نشر ثقافة الانتقام الراديكالي الذي لا يفرق بين البناء والهدم.
إن فرضية إشاعة الانتقام من كل الذين كانوا في السلطة أو كل أركان النظام السياسي الجزائري على حد توصيف البعض من قبيل من كانوا بالأمس في السلطة فرضية تبقى قائمة ولا يجب دحضها ونفيها، فمنظومة الحكم في الجزائر ومنذ الاستقلال قائمة في معظم مشاريعها على رسم المشاريع والأجندات السياسية بخلفية تصفية الحسابات السياسية أكثر منها بخلفية صناعة مشاريع في فائدة البلاد والعباد.
إن الحراك السياسي أو الحراك الشعبي أين كان توصيفه واسمه وهدفه الأسمى بناء دولة لا يكون فيها سيدًا إلا القانون العادل والمنصف يتطلب نهجًا جديدًا يختلف تمامًا عن نهج السلطة
والكثير من المواقف السياسية تتخذ بناء على خلفية انتقامية من الخصم سواء الذي كان في الحكم أم في المعارضة، ومن هذا فلا يجب أن ينخرط الناس في نهج إشاعة روح الانتقام وبالتالي تتبع سبيل متورطين آخرين في فساد الحكم وتمييع الأداء السياسي النافع، لنقع فريسة تصفية الحسابات التي لا دخل للمواطن البسيط فيها.
خاتمة
إن الحراك السياسي أو الحراك الشعبي أين كان توصيفه واسمه وهدفه الأسمى بناء دولة لا يكون فيها سيدًا إلا القانون العادل والمنصف الذي يجد كل فرد فيه نفسه ويشارك الجميع في صياغته وبناءه يتطلب نهجًا جديدًا يختلف تمامًا عن نهج السلطة التي تم محاربتها والإطاحة بها باسم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
إن الانتقام هو انفلات غرائزي لا يمكنه أن يصدر عن عاقل وانفلات تحت مسمى الحراك السياسي أو الشعبي، لا يمكنه التأسيس لنفس النهج الذي كان سائدًا ويقوم على الإبعاد والانتقام من كل من كان يومًا إما في السلطة وإما مناوئًا للحراك أو محايدًا.
فالانتقام سلوك وممارسة سلطوية تتبع ذهنية الغالب ولا يمكن تصور حراك سياسي شعبي سلمي ناجح مؤثر وبناء يجعل الانتقام من بين أهدافه، فالبناء يتطلب إشاعة جو الطمأنينة وبعث رسائل تطمين وإشاعة خطاب التهدئة وشعار أن الجزائر تسع الجميع.
تجاوز الأحقاد والحساسيات الحزبية الضيقة والأيديولوجية المنغلقة يعد من قبيل إنعاش الوحدة الوطنية وفتح صفحة جديدة لجزائر جديدة
التسامح ضروري لكسب الحاضنة الاجتماعية للذين كانوا في السلطة أو من لف لفهم، كما أنه ضروري لتسريع التشافي المجتمعي من آثار الفساد والتدمير المعنوي والتمييع لكل مناحي الحياة التي انتهجت من خلال الأداء السياسي، فتجاوز الأحقاد والحساسيات الحزبية الضيقة والأيديولوجية المنغلقة يعد من قبيل إنعاش للوحدة الوطنية وفتح صفحة جديدة لجزائر جديدة، فالانتقام بالتهديد من كل الذين كانوا في السلطة وممن دار في فلكهم يعد انتقامًا من المجتمع.
الجزائر الجديدة يجب أن تدار بدولة عاقلة وعقلانية لا تنتقم ولا تثأر ولا تتصرف بعدوانية، فالانتقام رد فعل عدواني استئصالي يبعث برسالة أخلاقية خاطئة مفادها أن كل شيء مباح في الجزائر الجديدة ويؤسس لذهنية جديدة قائمة على أن الانتقام فوق المبادئ والسياسة قبل القيم، وعليه فإننا سنعيد إنتاج منظومة حكم جديدة قائمة على الصراع اللاأخلاقي على الحكم والسلطة.
إن المرحلة ليست مرحلة انتقام، بل مرحلة إنعاش الجسم المجتمعي الجزائري ومداواة الجروح والمعافاة السياسية واستعادة التماسك المجتمعي.