تنتشر تجارة الخردة في فلسطين بشكل كبير وخاصة في قطاع غزة بسبب انعدام البطالة وفرص العمل، حيث تشكل نسبة البطالة في القطاع 67%، بينما تصل نسبة الأسر التي تقبع تحت خط الفقر إلى 60%، وهما أعلى نسبة في العالم، بحسب إحصائية الأمم المتحدة، في حين يصل انعدام الأمن الغذائي إلى 50% لدى الأسر، إضافة إلى أنه هناك 50 ألف أسرة فلسطينية بلا مأوى في قطاع غزة.
وتعد تجارة الخردة وسيلة رئيسية للقمة العيش للعديد من العائلات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث تشتكي الأولى من جدار الفصل العنصري الذي منع العديد من العمال الفلسطينيين من الوصول لأعمالهم، بينما تعاني الأخرى من الحصار الخانق وتردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد جراء تعنت طرفي الانقسام (فتح وحماس) بتنفيذ المصالحة الفلسطينية التي تتضمن في بنودها تحسين الأوضاع المعيشة في القطاع.
أغلب من يلتقط هذه الخردة من الأماكن المختلفة ويجمعها ويبيعها للورش والمعامل المختصة بهذه المعادن، فئة الأطفال
هذه التجارة تشكل كنزًا لبعض العائلات، حيث يصل سعر طن الحديد الذي يتم تجميعه من الحاويات 250 دولارًا في الوقت الحاليّ، بينما يصل سعر طن النحاس 550 دولارًا، وسعر طن الألمنيوم 1000 دولار، وتعد مدينتا الخليل وغزة جنوب المحافظات الفلسطينية، الأكثر من حيث وجود حاويات الخردة فيها، إلا أن الحصول عليه أمرًا شاقًا ومعقدًا.
أغلب من يلتقط هذه الخردة من الأماكن المختلفة ويجمعها ويبيعها للورش والمعامل المختصة بهذه المعادن، فئة الأطفال الذين خانتهم ظروف الحياة وقست عليهم وجعلتهم في أمسّ الحاجة للعمل بعد أن أخذوا على عاتقهم إطعام أسرهم قبل البلوغ.
الطفل حسين أبو حسنين 13 عامًا من شرق مدينة غزة، يستيقظ كل صباح ويذهب بعربته وحماره للبحث عن مخلفات الحروب على غزة أو عبوات المشروبات الغازية والمأكولات الفارغة، وربما يشتري غسالات أو ثلاجات معطلة من بعض الأسر، ليبيعها إلى معامل القص والكبس التي تبيعها بدورها لسلطات الاحتلال.
أما معمل عياد فيشتري هذه الخردة من الأفراد بأسعار رمزية ليفرزها حسب نوع المعدن، ثم يقطعها ويكبسها بأشكال مكعبة، ويرسلها إلى الجانب المحتل لبيعها عبر شاحنات مخصصة.
يوضح الخبير في الشأن الاقتصادي الفلسطيني الدكتور سمير أبو مدللة بأن احتكار “إسرائيل” لبيع المعادن في فلسطين، كان سببًا أساسيًا لعدم سماح سلطات الاحتلال بإدخال أجهزة الصهر والتنظيف الخاصة بالمعادن لمناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة”
وحسب ما يوضح الخبير في الشأن الاقتصادي الفلسطيني الدكتور سمير أبو مدللة لـ”نون بوست” فإن “إسرائيل” تعد المستفيد الأكبر من حاويات القمامة في الأراضي الفلسطينية، حيث إنها تشتريها من الفلسطينيين وتقوم بتنظيفها وصهرها، وإعادة بيعها لهم على شكل أسياخ أو لفائف، حيث يصل سعر الطن الواحد من الحديد الجديد اليوم إلى 550 دولارًا، ويصل سعر طن النحاس لـ1100 دولار، أما سعر طن الألمنيوم فيصل إلى 2000 دولار، حيث تُجني “إسرائيل” أرباحًا تصل إلى الضعف من خلال إعادة بيعه للفلسطينيين أو للخارج.
يوضح أبو مدللة بأن احتكار “إسرائيل” لبيع المعادن في فلسطين، كان سببًا أساسيًا لعدم سماح سلطات الاحتلال بإدخال أجهزة الصهر والتنظيف الخاصة بالمعادن لمناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، عدا عن ذلك فإنها تقوم بين الحين والآخر بقصف معامل الحديد في قطاع غزة بحجة أنها متورطة بصناعة بعض أنواع صواريخ المقاومة الفلسطينية التي تُقصف فيها المستوطنات المحتلة، مشيرًا إلى أن ذلك محض افتراء تفتعله سلطات الاحتلال لعدم سماحها بإدخال أجهزة صناعة المعدن لفلسطين، كون الضفة الغربية لا يوجد بها قذائف وصواريخ بفعل الحواجز الإسرائيلية المنتشرة بين الضفة الغربية والأردن.
من جانب آخر فإن “إسرائيل” تحرص على أن لا يوجد في الأراضي المحتلة أي حاويات لقمامات الخردة، بل تسعى لشرائها من الحاويات المنتشرة في المناطق التي تخضع للسيادة فلسطينية كمدينتي الخليل ونابلس بالضفة الغربية، وقطاع غزة، ولذلك عدة أسباب وظواهر بيئية قد تناولتها سلطات الاحتلال بعين الاعتبار.
سجلت السنوات الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا بعدد الأمراض الناتجة عن حرق مخلفات الاحتلال عدا عن العديد من التشوهات الخلفية
أول هذه الأسباب كما يوضح الخبير البيئي عبد الفتاح عبد ربه بأنها تسبب ضررًا بالغًا على صحة الإنسان وكذاك البيئة المحيطة، فالمناطق الفلسطينية المحررة صغيرة ومحصورة، حيث توجد نفايات المعادن بجانب البيوت، فيتم حرقها لاستخراج النحاس من داخل اللفائف الجلدية والبلاستيكية، وكذلك حرق إطارات السيارات والعديد من الأدوات المنزلية المهملة لاستخراج المعادن من داخلها.
وعلى إثر هذه الحرائق تنتشر في الجو مواد وجزئيات مؤكسدة ممكن أن تسبب العديد من الأمراض وفي مقدمتها مرض السرطان، وأهم هذه الغازات السامة أكسيد الزنك والشمع والفولاذ التي ستتحول إلى أول أكسيد الكربون ومعادن ثقيلة ومواد وجزيئات عضوية صغيرة متطايرة عند احتراقها، وتدخل للجهاز التنفسي وتتأكسد مع الجزيئات بداخل جسم الإنسان وقد ينتج عنها السرطان، ولعل هذا أمرًا خطيرًا في غزة التي تفتقر مستشفياتها لأغلب التخصصات العلاجية، عدا عن منع العديد من مرضى السرطان من السفر لتلقي العلاج في الخارج بسبب أمور أمنية كما يدعي الاحتلال الإسرائيلي.
كما أن حرق المعادن التي تحتوي على مخلفات الحروب يُنتج غاز اليورانيوم الذي يتخلل إلى البيئة بغلافها الجوي وتربتها ومياهها، وقد سجلت السنوات الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا بعدد الأمراض الناتجة عن حرق مخلفات الاحتلال عدا عن العديد من التشوهات الخلفية.
تجارة الخردة تشكل أهمية اقتصادية للفلسطينيين في ظل توسع الاستيطان ومصادرة الأراضي وزيادة عدد الحواجز في الضفة الغربية
وبحسب ما أوضح الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية الدكتور أشرف القدرة لـ”نون بوست” فإن عدد مرضى السرطان بغرة يرتفع بشكل سريع خاصة أن مشافي غرة لا تمتلك التخصصات العلاجية لهذا المرض، فمعدل الإصابة هو 83 فردًا من بين كل 100 ألف مواطن بغزة، وكانت سنة 2018 قد سجلت ارتفاعًا خطيرًا في عدد مرضى السرطان تجاوز الـ1800 حالة، موضحًا بأن 60% من خدمات العلاج الكيميائي والإشعاعي لهذا المرض غير متوافرة بغزة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن تجارة الخردة تشكل أهمية اقتصادية للفلسطينيين في ظل توسع الاستيطان ومصادرة الأراضي وزيادة عدد الحواجز في الضفة الغربية، وفي ظل الحصار الخانق على قطاع غزة، حيث تشكل 18% من قيمة النشاط الاقتصادي في فلسطين، بحسب الإحصائية الصادرة عن وزارة الاقتصاد الفلسطينية عام 2014.