“احذر الرجلَ الهادئ. بينما يتحدث الآخرون هو يشاهد. وبينما يتصرّف الآخرون هو يخطط. وعندما يرتاحون اخيرًا، هو يضرب”. لعلّ هذا الاقتباس الذي يبدأ به آدم مكاي فيلمه “النائب Vice” كان بالفعل بدايةً جيّدة ليخبرنا بها عن شخصية القصة التي ستدور أحداث الفيلم حولها في أكثر من ساعتين.
في المشهد الأول من الفيلم، نرى عميلًا سريًّا يُمسك بنائب الرئيس الأمريكي “ديك تشيني” ويدفعه داخل البيت الأبيض قائلًا: سيدي نائب الرئيس. علينا أنْ نغادر حالًا”. وما هي إلا لحظات حتى نعرف أنّنا نشاهد مشهدًا قد حدث صباح الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، عندما قامت طائرتان بضرب برجيْ التجارة العالميين في نيويورك.
تريلر الفيلم- من إخراج آدم مكاي وبطولة كريستيان بيل وإيمي آدامز
يسرد تشيني ذلك في كتابه المتمحور حول سيرته الذاتية والذي صدر عام 2011 بعنوان “في زماني: مذكرات شخصية وسياسية” مصطحبًا قرّاءه في جولة في مسيرة تجاربه التي امتدّت على مدى خمسة عقود كزوجٍ وربّ عائلة، وسياسيّ ورجل أعمال، ثمّ كرجلٍ سيخلّد التاريخ اسمه كفاعلٍ أساسيّ ورئيسيّ في حقبة بالغة الخطورة من التاريخ الأمريكي والعالم، حيث بدأت خلالها أمريكا ما تسمّيه بحربها على الإرهاب.
وبأدائه وتقمّصه المتقنّين، قدمّ لنا كريستيان بيل شخصية تشيني الهادئة والغامضة التي تعمل بصمتٍ دون أنْ تُحدث أيّ ضجيجٍ أو صوتٍ من حولها. ويصحبنا الفيلم في عالمه الغامض منذ طرده من جامعة ييل لتكرار غيابه ورسوبه وإدمانه الكحول والمخدّرات، ثمّ عمله في سكّة للقطار في وايومنغ بينما كان سكّيرًا فاشلًا لا يأخذه أحد على محمل الجدّ.
لتظهر لنا هنا زوجته ليني، أدّت شخصيتها إيمي آدامز، التي ستبقى حاضرة إلى آخر الفيلم بصفتها أحد الدوافع الرئيسية لتقدمه ونجاحه؛ حيث عاد إلى الجامعة وحصل على شهادته ليدخل على إثرها عالم السياسة كمتدرب في الكونغرس ويتدرّج بعدها في الإدارات الأمريكية المختلفة مثل شغله منصب وزير الدفاع في عهد بوش الأب. فيما شغل في سنوات رئاسة كلينتون منصب الرئيس التنفيذي لشركة الطاقة العملاقة هاليبرتون قبل أنْ يُعيده بوش الابن، الشاب الساذج كما أظهره الفيلم، الذي يحتاج لمن يمسك بيده ويُرشده في عالم السياسة، إلى الواجهة مجدّدًا ليشغل منصب نائبه وعقله المفكّر.
يحاول الفيلم تفكيك الحقبة المظلمة التي أدّت إلى غزو العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل والحرب على الإرهاب من خلال سرد أحداثها بأسلوبٍ كوميديّ ناقدٍ ومتهكّم
الحبكة الأساسية للفيلم كانت بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، حيث أعاد تشيني رسم خريطة العالم وتغيير معالم السياسة الخارجية للولايات المتحدّة من خلال العديد من الحروب الطاحنة التي راح ضحيّتها الآلاف من الأشخاص، خاصة في العراق وأفغانستان، وتبنّي العديد من سياسات الخطف والتعذيب في السجون التي أسفرت عن سجن غوانتانامو وغيره.
فيما يركّز الفيلم أيضًا على فترةٍ مبكرة من حياة تشيني حيث بدأ فيها بالإيمان بالنظرية التنفيذية الأحادية، وهي النظرية القائلة بأن الرئيس يمتلك الصلاحية للسيطرة على السلطة التنفيذية بالكامل. وبمساعدة المحاميين ديفيد أدينغتون وجون يو، عمل تشيني على ترويج الفكرة القائلة بأنّ كلّ ما يقوم به الرئيس الأمريكي هو قانونيّ وشرعيّ، لا سيّما في زمن الحرب.
آمن تشيني بالنظرية التنفيذية الأحادية القائلة بأنّ كلّ ما يقوم به الرئيس الأمريكي هو قانونيّ وشرعيّ، لا سيّما في زمن الحرب
وهي أيضًا النظرية التي استمدّت السياسة الأمريكية منها شرعية التعذيب في السجون وغرف الاستجواب، أو ما أطلقت عليه اسم “الاستجواب المعزّز”، ويقتضي بأنه لا يمكن اعتبار التعذيب “تعذيبًا” إذا كان الرئيس هو من أمر بتنفيذه. وقد زعم تشيني في كتابه أنّ مثل هذا الاستجواب لأبو زبيدة، الرجل المشتبه بانتمائه لتنظيم القاعدة، قد أفضى إلى الإفصاح عن معلومات ساعدت في إلقاء القبض على خالد شيخ محمد، قائد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر.
الكوميديا كمخرجٍ من مأزق الرتابة
من الواضح أنّ مكاي قد سعى منذ البداية أنْ يتجنّب رتابة أفلام السير الذاتية، لا سيّما وأنّنا نتحدّث هنا عن شخصية حديثة والعديد من التفاصيل السياسية التي يعرفها المشاهد نظرًا لقرب زمن الأحداث، وفي الوقت نفسه هناك العديد من الوقائع والقرارات الجادة التي غيّرت مسار التاريخ. ولهذا يمكننا القول أنّ مكاي وجد في الكوميديا مخرجًا من كلّ ذلك لجذب المشاهدين وطرح قصة الفيلم بذكاءٍ وحرصٍ شديديْن.
آدم مكاي أثناء إخراجه لمشهد كريستيان بيل في دور ديك تشيني وسام روكويل في دور جورج بوش الابن
خلال أحداث الفيلم، نستمع منذ البداية إلى تعليقٍ صوتيّ لشخص نجهل هويّته يُدعى “كيرت”، ثمّ نشاهده في مشاهد لاحقة كرجلِ عائلة وأحدٍ من العمّال وواحدٍ من الجنود الأمريكيّين في العراق. يلعب كيرت دور المعلّق على الأحداث دون أنْ يكون له أيّ طرفٍ حقيقيّ فيها، إلى أنْ نكتشف في نهاية الفيلم علاقته الطريفة بكلّ ما يحدث؛ حيث تصدمه سيارة في الوقت الذي كان ينازع فيها تشيني توقّف قلبه عن العمل وانتظاره للحظة الموت، قبل أنْ يُزرع قلب “كيرت” داخل أحشائه ويعود للحياة.
يحاول الفيلم تفكيك الحقبة المظلمة التي أدّت إلى غزو العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل والحرب على الإرهاب من خلال سرد أحداثها بأسلوبٍ كوميديّ ناقدٍ ومتهكّم، سواء من خلال شخصية جورج بوش التافهة أو من خلال المقاطع المُضحكة للجلسات العلاجية الجماعية التي تحاول زرع فكرة الخوف من العراق وصدّام والإسلام في نفوس الأمريكيّين بهدف تحشيد أصواتهم لدعم عملية الغزو.
وجد مكاي أنّ السخرية والفكاهة هي أفضل طريقة للتعامل مع ما جرى وما يجري خلال العقدين الآخيرين، فالسياسة بالنهاية هي فنُّ خداع الرأي العام بأساليب وخطط ممنهجة ومدروسة
وبذلك يكون مكاي قد وجد أنّ السخرية والنقد اللاذع هما أفضل وسيلة لتناول شخصية تشيني وعالم السياسة الأمريكية المظلم. وبأسلوبٍ خادعٍ ومتوارٍ، يعمل مكاي بذكاءٍ شديد على خداع مشاهديه، فهناك لحظة نعتقد أنّ الفيلم قد انتهى فيها لنجد لاحقًا أننا خُدعنا فالفيلم لم يصل منتصفه بعد، وهناك الراوي الذي يسخر من كلّ شيء، وهناك شخصية بوش الابن التي توحي بالغباء والرعانة، وهناك أيضًا اسم الفيلم الذي يعتقد الكثيرون للوهلة الأولى أنّه “النائب” فيما تحمل الكلمة الإنجليزية معنىً آخر وهو “الرذيلة”، ثمّ هناك الرسوم الكاريكاتورية والعروض التوضيحية الساخرة التي استعان بها المخرج لإضافة جو آخر من الكوميديا والهزلية.
يروي تشيني في كتابه، تمامًا كما يروي الفيلم، تشجيعه لجورج بوش الابن في بدء غزو العراق وإعلان الحرب على الإرهاب
ربما وجد مكاي أنّ السخرية والفكاهة هي أفضل طريقة للتعامل مع ما جرى وما يجري خلال العقدين الآخيرين، فالسياسة بالنهاية هي فنُّ خداع الرأي العام بأساليب وخطط ممنهجة ومدروسة. ولا أسخف من فكرة أنّ غزو العراق كان بالأساس مسوغًا وتبريرًا لمدّ مصالح شركة هاليبرتون النفطية التي كان يرأسها تشيني وحققت أرباحًا طائلة من عقود النفط مع العراق، ومن فكرة دعم الحرب بخططه السياسية التي استخدمت استطلاعات الرأي لكسب ثقة الأمريكيين بالغزو وحشو عقولهم بالخوف من الإرهاب وصدّام حسين والجماعات الإسلامية.
وعلى الرغم من إغفاله للعديد من التفاصيل الأخرى، إلا أنّ الفيلم قد نجح بشكلٍ كبير في كشف الكثير من مفاتيح شخصية تشيني الغامضة التي لم تترك الكثير وراءها. تمامًا كما نجح في الغوص وراء هزلية عالم السياسية وظلامية مصالحه وسعيه الخسيس لتحقيق أهدافه على حساب شعوبٍ كاملة.
ينتهي الفيلم فيما يتوجّه تشيني، أو كريستيان بيل، للكاميرا محدّثًا جمهوره بأنه “غير نادم بتاتًا على ما فعله”. وهي الشهادة التي أدلى بها مرارًا وتكرارًا للصحافة والإعلام وأكّد عليها في سيرته الذاتية. “لقد واجهنا الشر بحزم، وتحدّينا التاريخ بطريقةٍ تخلو من الأنانية. فبدل أن نسعى إلى تأسيس إمبراطورية، سعينا إلى منح الحرية للآخرين”، يقول تشيني مؤكّدًا على هدفه السامي الذي راح ضحيّته آلاف الأبرياء في العراق وأفغانستان، ومؤكّدًا على الجانب الأكثر إثارة للرعب في شخصيته التي ربّما لا يستطيع أيّ كتابٍ أو سيرة ذاتية أو فيلم تصويرها على الإطلاق.