تكشف الوثائق العثمانية التي تعود إلى القرن الـ14 الميلادي، أن الوزراء العثمانيين الأوائل كانوا من علماء الدين، وهو أمر منطقي بالنسبة للدولة التي اعتبرت مسألة حماية الإسلام ومسؤولية نشره في العالم من أهم واجباتها، لكن على الرغم من ذلك، فإن التقاليد الإدارية لدول الشرق الأدنى، أثرت بشكل كبير على الإدارة العثمانية.
فبحسب المؤرخ التركي البارز خليل إنالجيك، فإن رجال الدولة في المراحل الأولى لتأسيس الإمبراطورية، كانوا ينحدرون من المراكز السلجوقية القديمة في الأناضول، ومن إيران ومصر، ويؤدون دورًا مهمًا في نقل مفاهيم الشرق الأدنى للدولة والإدارة إلى الإمبراطورية، وقد تقبّل العثمانيون هذه المفاهيم وطعموها بتقاليد تركية من آسيا الوسطى، وفي واقع الأمر، لم تكن نظرية الخلافة تختلف كثيرًا عن نظريات الشرق الأدنى في الإدارة، إلا في مسألة احترام الشريعة.
فقد كان العثمانيون يساوون الدولة مع السلطة المطلقة لحاكم هذه الدولة، ويعتبرون أن العدالة مسألة جوهرية لاستمرار الدولة، ويظهر ذلك بوضوح في كتابات المؤرخ العثماني الشهير طورسون بك، منذ القرن الـ15، إذ يقول: “الناس لا يمكنهم أن يعيشوا في انسجام دون سلطان، بل من الممكن أن يتشتتوا من دونه إلى الأبد، والله أعطى السلطة لواحد فقط، كي يحفظ النظام كما يجب، وعلينا نحن طاعته”.
كيف أدار العثمانيون عاصمتهم الأهم؟
كثيرًا ما يتردد في أثناء الحديث عن العثمانيين الأوائل، الصورة النمطية التي تظهرهم في صورة بعيدة تمامًا عن أدنى عناصر المدنية، إلا أن كثيرًا من المؤرخين يرون غير ذلك، فمثلاً، المؤرخ الفرنسي روبير مانتران، صاحب الإنجاز الكبير “تاريخ الدولة العثمانية” يؤكد أن العثمانيين الأوائل لم يكونوا عازفين عن أي حياة مدنية، فقد بنوا سلسلة من المباني في المدن حديثة الفتح، تضمنت المساجد والمدارس والمطاعم الشعبية والحمامات والجسور وغيرها.
حظيت إسطنبول باهتمام كبير من السلطان الفاتح، حيث قام بإعمار جميع الأبنية التي تهدّمت وقت الحرب، وعيّن رئيسًا خاصًا للمعماريين من أجل إنجاز تلك المهمة
وقد كانت معايير النظر إلى أهمية المدينة عند العثمانيين، تتلخص في خصائصها الإدارية والتجارية، فمن أكثر المدن التي اهتم بها السلاطين العثمانيون هي “إسطنبول” التي حاولوا فتحها أكثر من مرة، نظرًا لأهميتها في ربط أراضيهم الواقعة بين آسيا وأوروبا، حتى تم ذلك في عهد السلطان الغازي محمد الثاني المعروف بـ”الفاتح” الذي أصبحت الإمبراطورية العثمانية في عهده إمبراطورية بالمعنى المتعارف عليه.
حظيت إسطنبول باهتمام كبير من السلطان الفاتح، حيث قام بإعمار جميع الأبنية التي تهدّمت وقت الحرب، وعيّن رئيسًا خاصًا للمعماريين من أجل إنجاز تلك المهمة، كما أمر ببناء قصر “طوب كابي” الشهير الذي أصبح مركزًا لإدارة الإمبراطورية على مدار 400 عام.
لوحة تظهر شكل الاحتفالات في قصر طوب كابي في إسطنبول
كما أسس الفاتح “الديوان” في قصر “طوب كابي”، وكان في الأساس محكمة عليا، إلا أنه كان في الوقت نفسه أعلى جهاز لإدارة الحكم، فكان السلطان يأتي مرتين في الأسبوع إلى الديوان ويرأس هذه الجلسات، وفي بادئ الأمر كانت قاعة الديوان في باحة القصر، ثم شيّد السلطان سليمان القانوني في الباحة الثانية للقصر قاعة ذات قبة كبيرة مزخرفة، وجعلها مركزًا للديوان.
تجمع المصادر التاريخية على أنه حتى عهد السلطان الفاتح، كان السلاطين يترأسون جلسات الديوان، حتى توقف الفاتح عن ذلك منذ عام 1475، ولكي لا يتخلى عن المهمة الأساسية للسلطان، المتمثلة في سماعه لشكاوى الرعية، فتح السلطان نافذة في “بيت العدل” تسمح له بمتابعة ما يجري في قاعة الديوان، وكانت القضايا المتعلقة بالشريعة تُحوّل إلى القاضي، بينما تُحال الأمور الإدارية إلى أعضاء الديوان.
بحسب المؤرخ إنالجيك، فإن العلماء كانوا أكبر قوة مستقلة بعيدًا عن نفوذ الصدر الأعظم، فقد كان “قاضي عسكر” هو المسؤول عن تطبيق الشريعة، وهو الذي يُعيّن القضاة وأصحاب المناصب الدينية ويعزلهم
كان “الصدر الأعظم”، هو المسؤول عن تطبيق السياسات التي يحددها السلطان، ومن الممكن أن يكون على رأس الجيش في الحرب، ومما يروى عن السلطان الفاتح، بشأن هذا المنصب: “أعلم أن الوزير الأعظم هو رئيس الوزراء والأمراء، وأجلّهم قدرًا وأرفعهم مقامًا، وهو النائب المطلق للسلطان الذي يتصدر في الجلوس والقيام، ويتقدم على الجميع”، ويعد صقللي محمد باشا، أبرز من تولوا منصب الصدر الأعظم في الإمبراطورية العثمانية، حيث استمر في منصبه 14 عامًا، وخدم لدى ثلاثة سلاطين.
ومن مهام الصدر الأعظم أيضًا، الاجتماع بـ”قاضي عسكر” وهو رئيس القضاة في العاصمة، و”الباش دفتردار”، وهو أشبه بوزير المالية حاليًّا، حيث كانوا يتداولون القضايا المتعلقة بدوائرهم، إلا أن الصدر الأعظم لم يكن يتدخل في أمور الإنكشارية، وهي أكبر فرقة في الجيش العثماني، فقد كان أغا الإنكشارية يعينه السلطان بنفسه، أما العاملون في البلاط، فكانوا تحت إشراف “أغا الباب” الذي يفتش عليهم دون الرجوع إلى الصدر الأعظم.
لوحة توثق شكل مدينة إسطنبول في منتصف العهد العثماني
وبحسب المؤرخ إنالجيك، فإن العلماء كانوا أكبر قوة مستقلة بعيدًا عن نفوذ الصدر الصدر الأعظم، فقد كان “قاضي عسكر” هو المسؤول عن تطبيق الشريعة، وهو الذي يُعيّن القضاة وأصحاب المناصب الدينية ويعزلهم، ورغم أن شيخ الإسلام لم يكن عضوًا في الديوان بشكل رسمي، إلا أنه كان صاحب نفوذ قوي في أغلب الأوقات، حتى أصبح شيخ الإسلام هو الممثل المطلق للسلطان في السلطة الدينية.
أما المسؤول عن أمن العاصمة فهو “أغا الإنكشاريين”، وكان لهم دور مهم في حماية العاصمة من انتفاضات الفلاحين الذين كانوا يتمردون أحيانًا على سياسات بعض السلاطين، فيهجروا أراضيهم ويتوجهون إلى العاصمة، وكان يحدث أحيانًا أن يهبّ سكان العاصمة أنفسهم ضد تجاوزات الإنكشاريين، بعد تحوّل فئة منهم إلى تجار وأصحاب حرف مستغلين سلطاتهم.
قديمًا، كان يطلق على كل ما هو خارج إسطنبول في الأناضول “طاشرا” أي الريف
جدير بالذكر أن الأسواق في العاصمة إسطنبول آنذاك، كانت تخضع لـ”المحتسب”، وهو المسؤول عن مراقبة السوق ومعاقبة المخالفين للآداب العامة والتجار المتلاعبين بالأوزان والمقاييس.
الولايات الخارجية ونظام “التيمار”
قديمًا، كان يطلق على كل ما هو خارج إسطنبول في الأناضول “طاشرا” أي الريف، وكان يُقسّم هذا الريف إلى ولايات، وكان السلاطين العثمانيون يعينون ممثلين عنهم في كل ولاية: الأول “البك” وهو من الطبقة العسكرية ويمثل السلطة التنفيذية للسلطان، والثاني “القاضي” وهو من العلماء ويمثل السلطة الشرعية للسلطان.
وكانت هذه الولايات تُقسّم إلى وحدات يُطلق عليها سنجق، وهي وحدة إدارية يتولاها حاكم عسكري “سنجق بك”، ويستلم الراية من السلطان رمزًا لسلطته، أما المسؤول عن الحفاظ عن الأمن في هذه السناجق، كان يطلق عليه “صوباشي” وهو ما يشبه الشرطة في عالمنا الحديث.
ومع التوسع السريع للإمبراطورية، ضُمّت العديد من الولايات الجديدة، ونظرًا لأن كثيرًا من هذه الولايات كان يفصل بينها وبين الإدارة المركزية مناطق عازلة، فتم تسليمها لما أُطلق عليه “بك البكوات”، وكانت الولايات التابعة لهم أكثر استقلالية عن الإدارة المركزية، حيث تُترك لهم إدارة الشؤون الداخلية، وتقوم الدولة بمنحهم مساحة من الأرض، مقابل أن يدفع رواتب موظفي تلك الولاية، وبذلك توفر الدولة رواتب لموظفيها وفرص عمل للمزارعين، وهو ما عُرف بنظام “التيمار”.
بعض الولايات لم يُفرض عليها الضرائب، نظرًا لقدسيتها الدينية مثل ولايتي مكة والمدينة
كما أن هناك بعض الولايات، كان يقوم “بك البكوات” مقابل استلامه للأرض، بتدريب عدد من الفرسان والإنفاق عليهم، ثم إرسالهم للسلطان في أوقات الحرب، إلا أن ولايات أخرى لم يطبق فيها “التيمار”، مثل ولايتي مصر وبغداد، حيث كان السلطان يكتفي بإرسال والٍ لها مع بعض الوحدات من الإنكشارية وقاضٍ ودفتردار، وبعد أن ينفق الوالي كل المصاريف العسكرية والإدارية، يرسل مبلغًا سنويًا محددًا إلى العاصمة.
وأخيرًا، فإنه جدير بالذكر، أن بعض الولايات لم يُفرض عليها الضرائب، نظرًا لقدسيتها الدينية، مثل ولايتي مكة والمدينة.