التهجير أقسى المراحل التي مر بها السوريون في شتى البلاد ونكل بهم وفرق بينهم وبين الأقارب والأحباب، لكن لا مجال إلا للتعايش والتأقلم مع الواقع المفروض عليهم رغم الظروف، ولكن دعنا نذهب بك بعيدًا عن المآسي التي ترافقهم لنحلم بواقع ممزوج بفنون تراثية سورية حيث العادات والتقاليد الشامية التي امتزجت بأخرى حلبية ذات أصول رفيعة، وعلى الرغم من تعرضها للاندثار فقد حاول الشاميون الحفاظ عليها ونقلها إلى شمال سوريا.
زخرفة الجدران والرسم عليها تراث دمشقي
ثقيل الخُطى نحيل القامة ينطلق محمد عيد 62 عامًا من منزله في مدينة عفرين في الشمال الغربي لمدينة حلب، قرب الحدود السورية التركية، يحمل معدات طلي الجدران، للعمل في المهنة التي ورثها عن والده، يعمل بشغف وحب للمهنة التي تعتبر جزءًا من الفنون التراثية القديمة والحديثة، وعلى استعداد تام للتصدي لصعوبات الحياة ومشقاتها، خلال الترحال والتهجير هربًا أو بحثًا عن الأمن الذي فُقد في بلده.
في زيارة “نون بوست” إلى أحد المحال التجارية التي تحمل طابعًا شاميًا في مدينة مارع شمال حلب، التقى محمد عيد الذي يعمل في طلي جدران محل صديقه من الغوطة الشرقية بريف دمشق.
يجلس محمد عيد في استراحة لدقائق يشعل سيجارة من الحمراء الطويلة الوطنية والمعروفة في سوريا، ويستمع لأم كلثوم متمعنًا في أدق تفاصيل الكلمات ومعانيها ومتنغمًا بها، يبدأ حديثه بقوله: “أحب الأغاني القديمة والتراث القديم بمختلف مجالاته وتنوعاته، ولأن مهنتي جزء من الفن ما زلت أعمل، وعلى الرغم من تقدمي في السن فإنني مصرٌ على لقمة الحلال وعدم انتظار مساعدة الناس، طالما أن عافيتي موجودة فإنني مستمر في العمل”.
رحلة طويلة استقرت نهايتها شمالًا، ترعرع في حي الصالحية بريف دمشق، تنقل في الغوطة الشرقية من منطقة لأخرى باحثًا عن ملجأ يحمي عائلته من القصف، وعلى الرغم من قلة فرص العمل في الغوطة خلال الحصار الذي فرضه النظام على معارضيه وضعف وجود المواد الإغاثية تمكن من النجاة مع أفراد أسرته.
محمد عيد: “اعتبرت عملي في هذا العمر مجرد تسلية لا أكثر، لكن استطعت أن أكسب زبائن كُثر من خلال العمل الذي أقدمه”
وأضاف: “ابتدأت الرحلة من التهجير الذي رعته روسيا نحو الشمال السوري، سكنتُ في ريف حماة، ثم اتجهت نحو إدلب، والآن أقيم في مدينة عفرين، ولكن رزقتي قسمت في لقائي بكم بمدينة مارع”، ينقل محمد عيد فنه في طلي جدران المحال التجارية والمنازل وزخرفتها بشكل تراثي يميل إلى الطابع الشامي المعروف في الفنون والزخرفة على الجدران.
وأوضح: “اعتبرت عملي في هذا العمر مجرد تسلية لا أكثر، لكن استطعت أن أكسب زبائن كُثر من خلال العمل الذي أقدمه”، وتنوع الزبائن في مختلف مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، وأغلب الزبائن الذين يعمل لديهم من الغوطة الشرقية، ونظرًا لتعامله المريح معهم وصدقه في العمل اكتسب سمعة طيبة بين سكان المنطقة المحليين والمهجرين، ولا تعتبر مهنة طلي الجدران أو زخرفتها المهنة الوحيدة.
طب الأعشاب الشامي.. في الشمال السوري
الأعشاب التي اكتشفها العرب أسهمت بشكل كبير في صنع الأدوية في وقتنا الحاليّ وكان لهم دور بارز، لكن أصبحت وجهة غالبية الناس نحو الأدوية الصناعية التي تحتوي آثارًا جانبية نظرًا لاندثار الطب العربي، وخلال السنوات القليلة الماضية أخذ طب الأعشاب يتطور ويأخذ مكانة لدى المجتمع السوري لأنه لا يحتوي على آثار جانبية، فهو أكثر استخدامًا لدى شريحة واسعة من الناس، وأخذ ينتشر كعلاج بديل عن الأدوية التي تحتوي في مكوناتها تأثيرات جانبية.
افتتح الطبيب شادي سويدان 35 عامًا من أبناء مدينة دوما مركزًا للعلاج بطب الأعشاب في مدينة مارع شمالي حلب، وخلال لقاء أجراه “نون بوست” مع شادي سويدان قال: “لم يتوقف عملي في الشام قبل حملة التهجير نحو الشمال السوري وأصبح أهل غوطة الشام يقصدون المراكز التي تعمل في طب الأعشاب لكونها أكثر فائدة من أقرانها أي الصيدليات وغيرها التي تقدم أدوية تحمل آثارًا جانبية”.
وأضاف: افتتحت المركز بعد استقرار وضعي في المنطقة من تأمين منزل ومركز لعلاج المرضى وصيدلية الأعشاب”، وأوضح: “يقدم المركز خدمات المساج والعلاج الفيزيائي بطريقة الطب العربي المتعارف عليه لدى الدمشقيين، ويأخذ العلاج بالأعشاب أهمية كبيرة لدى المجتمع المحلي لكونه طبيعيًا ويرتبط بمكونات الطبيعة وغير مستخلص أو ممزوج بمواد أخرى، لذلك أخذت فكرة طب الأعشاب ترحيبًا واسعًا لدى السكان المحليين”.
المعجنات المحشوة بطريقة شامية
يجلس عماد الفران 57 عامًا خلف طاولته يستقبل زبائنه بصدر رحب ويبتسم بين الفينة والأخرى واضعًا هموم الحياة ومشقاتها جنبًا، باحثًا عن لقمة عيشه خلال مهنته التي ورثها عن والده وأجداده، يحمل في يده مسبحة، ويكثر من ذكر الله في حديثه، بينما يشرف على عمل الفرن الذي يديره.
التقى “نون بوست” أبو فهد الفران كما يعرف بين الدمشقيين من أبناء مدينة دوما، في فرنه الجديد الذي افتتحه في مدينة مارع التي يقطن بها في ريف حلب، قال: “الكنية التي عرفتُ بها خير مثال على المهنة التي أعمل بها وهي الفرن الحجري القديم الذي كان يعمل به والدي وأجدادي السابقون في دمشق وريفها”.
وأضاف: “افتتحت الفرن بمشاركة صديق لي من سكان مدينة مارع، وأنا أدير الفرن بينما يعمل أبنائي به في صنع المعجنات التي تعتبر من أبرز الأطعمة الشامية التي يفضلها أهل الغوطة الشرقية، إضافة إلى السوريين في مختلف المناطق”، واستطاع أبو فهد الفران أن يكسب ثقة السكان المحليين في صناعة المعجنات.
أما أبناؤه يعملون في صناعة اللحم بعجين داخل الفرن بينما يحضر عمال آخرون من الغوطة ذاتها الاستراحة التي يجلس بها الزبائن لتناول الفطائر مع كوب من الشاي المحلى.
يقدم أبو فهد لزبائنه مختلف المعجنات من بينها عش البلبل واللحم بعجين والفطائر التي تحشى بالجبنة أو اللحمة أو الفليفلة “المحمرة” أو الزعتر، بنكهة شامية لا مثيل لها، تشعرك أنك في أحد الأفران الشامية القديمة، يقصد فرن “على كيفك” الكثير من سكان المدينة نظرًا لخدمته وصدق معاملته للزبائن وجودة الأطعمة التي يصنعها التي تتميز بمذاقها الرائع.
بينما على بعد أمتار يجلس حسن جديد 55 عامًا مع حفيده أمام محل معجنات آخر يحمل اسم “بوابة دوما”، يعمل في الفرن حسن جديد وحفيده حسن في صنع “المحمرة” والفطائر بشكل آخر يختلف عن شكل الفطائر التي يصنعها أبو فهد، ويعود تنوع أشكال المنتجات من المعجنات إلى رغبة الزبائن والشكل المفضل لديهم، يدير حسن جديد المحل ويبدع في صنع المعجنات بطابعها الشامي.
أخذ الدمشقيون يدمجون عاداتهم وحرفهم في مجتمع الشمال السوري ناقلين معهم خبراتهم وحرفهم بشكل عفوي جميل، يشعرك بمدى الاندماج بين مكونات المجتمع السوري على الرغم من اختلاف لهجاتهم وتنوع عاداتهم وتقاليدهم السورية.
حلويات عربية شامية
توقف عن العمل لسنوات خلال الحصار الذي تعرضت له مدينة دوما في غوطة الشام الشرقية، ولم يستطع الاستمرار نظرًا لضعف الأوضاع المادية إضافة إلى قلة الإمكانات والقصف، علاء حفني في الـ40 من عمره تمكن من اقتناء معمل للحلويات بعد انتقاله إلى الشمال السوري، حيث افتتح حلويات الشامي.
نقل الكثير من الخبرات والحلويات الشامية المعروفة إلى الشمال السوري، حيث يصنع في معمله النابلسية الدمشقية والمدلوقة والمبرومة بالفستق الحلبي وورد الشام والبقجة وهريسة الباشا، والكثير من الحلويات التي تشتهر بها دمشق على المستوى العربي لكونها تتمتع بمذاق رائع.
قال لـ”نون بوست”: “رغم ضعف إمكاناتنا بعد التهجير وتوقفنا عن العمل لسنوات استعدنا مهنتنا من جديد أنا وإخوتي، في إنتاج الحلويات العربية والشامية”، وأضاف: “بدأ مشروعنا بمحل صغير في مدينة مارع ثم تمكنا من اكتساب سمعة حسنة وشهرة واسعة وأصبح لدينا زبائن كثر”.
تعتبر الحلويات الدمشقية من أفخر أنواع الحلويات إلى جانب الحلويات الحلبية التي تشتهر بها محافظة حلب، ولتلبية طلبات الزبائن مزجت المحال التجارية الجديدة التي يمتلكها دمشقيون بين المنتجات الحلبية والدمشقية، لتكتسب فنًا غير مسبوق في صناعة الحلويات العربية.
انتشرت الصناعات الشامية من الحلويات والمعجنات في الشمال السوري نظرًا لحملات التهجير والنزوح التي شهدتها المحافظات السورية خلال السنوات الماضية، واستطاعت المحال التجارية التي فتحت خلال الأشهر القليلة الماضية منح الكثير من الشبان فرص عمل لإعالة أسرهم، كما أسهمت في تنوع المنتجات والأسواق السورية، وافتتحت العديد من المطاعم في أعزاز وعفرين والباب وغيرها من المدن، تحمل أسماء أحياء شامية من بينها مطعم القابوني ومشاوي الدوماني وغيرها التي اكتسبت شهرة محلية.