يستمد الأدب سلطته القوية من صعوبة السيطرة عليه، فكما يقول الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت: “لا يمكن للسلطة السياسية أن تستولي على الأعمال الإبداعية، كما تستولي على المصانع، كذلك لا يمكن الاستيلاء على أشكال التعبير الأدبي، كما يتم الاستيلاء على الرخص والتصاريح”، فعلى الرغم من كل القيود التي تفرضها السلطات الحاكمة المستبدة على حرية التعبير فدائمًا ما يستطيع الأدب دون غيره أن يقاوم تلك القيود من أجل توليد المتعة وخلق الوعي.
وطوال تاريخه كان الأدب يحاول دائمًا مواجهة السلطة السياسية ونجح في ذلك عدة مرات، فعلى سبيل المثال لعب الأدب دورًا كبيرًا في تقويض أركان النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية وذلك نهاية عام 1989 وبداية 1990، وفي رومانيا شكل الأدب عاملًا أساسيًا من عوامل الثورة على نظام شاوشيسكو الفاسد كما ساهم الأدب في التمهيد للثورة الفرنسية، ولكنه فشل أيضًا في بعض الأوقات وانتصرت السلطة الغاشمة بل ووصل الأمر إلى حد محاكمة الكاتب ومثوله أمام القضاء، ففي الـ18 من فبراير/شباط 1964 اعتقلت السلطات السوفيتية الشاعر الروسي جوزيف برودسكي بتهمة الكتابة خارج الإطار المرسوم للأدب، كما وجهت له المحكمة العسكرية عدة تهم منها أن كتاباته تعبر عن رؤية تشاؤمية للعالم وتتمرد ضد السلطة السياسية إضافة إلى افتقارها للعلم والمعرفة.
قال عالم الاجتماعي الأمريكي روبرت دال: “سواء شئنا أو لم نشأ فلا يوجد أحد قادرًا على أن ينأى بنفسه عن الوقوع في دائرة من دوائر التأثير لنظام سياسي ما، فالسياسة هي حقيقة من حقائق الوجود الإنساني التي لا يمكن تجنبها”
وعلى غرار الشاعر الروسي جوزيف برودسكي أُحيل الكاتب المصري علاء الأسواني للمحاكمة العسكرية بتهمة إهانة القضاء والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وذلك في روايته “جمهورية كأن” التي مُنعت من النشر داخل مصر ونشرها الأسواني في لبنان.
الأدب المغضوب عليه من السلطات الحاكمة
قال عالم الاجتماعي الأمريكي روبرت دال: “سواء شئنا أو لم نشأ فلا يوجد أحد قادرًا على أن ينأى بنفسه عن الوقوع في دائرة من دوائر التأثير لنظام سياسي ما، فالسياسة هي حقيقة من حقائق الوجود الإنساني التي لا يمكن تجنبها”، ومن هنا يجد الأدب نفسه ظاهرة اجتماعية تتقاطع بشكل كبير مع العملية السياسية، وقد لخص الأديب المصري نجيب محفوظ هذا الأمر في عبارته الشهيرة: “ليس هناك حدث فني، بل حدث سياسي في ثوب فني” في إشارة إلى حضور السياسية كسياق عام في النص الأدبي.
الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي
ولهذا كانت السلطات السياسية تراقب دومًا النصوص الأدبية وتضع الشعراء والأدباء تحت أعينها حتى لا يخرجوا عن حدودهم المرسومة سلفًا، والحقيقة أن السلطات السياسية لا تحارب فقط النصوص الأدبية التي تجاهر بآرائها السياسية المعارضة ولكنها ترفض أيضًا تلك الكتابات التي تحاول المساس بالدين، ربما لكونها حامية حمى النصوص الدينية والاحتمال الأكبر أن السبب يعود إلى رفض المساس بكل ما هو مقدس، سواء نصوص دينية أم سلطة سياسية.
الأدب يحتاج إلى قدر كبير من الحريات السياسية ولكن القمع أيضًا يولد أعمالًا أدبية خصبة وذلك لأن أغلب الروائيين يجنحون إلى الخيال في كتاباتهم
وفي عام 1897 سُجن الشاعر المصري مصطفى لطفي المنفلوطي بسبب كتابته لقصيدة اعتبرت آنذاك إهانة للذات الخديوية، إذ استقبل بها الخديوي عباس حلمي الثاني وقال في كلمات القصيدة “قدوم ولا أقول سعيد وملك وإن طال المدى سيبيد”، وعلى خلفية كتابه “في الشعر الجاهلي” أُحيل الكاتب طه حسين إلى المحاكمة حيث اعتبره الكثيرون مسيئًا للدين الإسلامي وقد تقدم حينها بالبلاغ عضو مجلس النواب عبد الحميد بنان الذي رأى أن الكتاب يتعدى على حرمة الدين الإسلامي، وفي 15 من أكتوبر 1930 مثل الأديب عباس العقاد أمام المحكمة للتحقيق معه في تهمة العيب في الذات الملكية، وصدر ضد العقاد حكم بالسجن لمدة تسعة أشهر قضاها في سجن القلعة.
روايات واجهت المحاكمات القضائية
هل يحتاج الأدب إلى مناخ حر من أجل أن ينمو؟ وهل الحريات السياسية تؤثر على خصوبة الإنتاج الأدبي؟ الحقيقة أن الأدب يحتاج إلى قدر كبير من الحريات السياسية ولكن القمع أيضًا يولد أعمالًا أدبية خصبة وذلك لأن أغلب الروائيين يجنحون إلى الخيال في كتاباتهم كما يلجأون عادة إلى الرموز وإضفاء الكثير من السحر والأسطورة على أعمالهم وذلك مثلما كان يفعل كتاب أمريكا اللاتينية، كما يلجأ بعض الكتاب إلى العودة للماضي وإسقاطه على الحاضر في ثوب قصصي، ومن أشهر الروايات التي تعرضت للملاحقات القضائية:
رواية “1984” للكاتب جورج أورويل.. أيقونة الأدب الديستوبي
خلال عام 1948 كتب صحافي بريطاني يُدعى إريك آرثر بلير روايته الأشهر “1984” تحت اسم مستعار وهو “جورج أورويل”، كان الروائي البريطاني المولع بالأرقام قد اختار هذا العنوان ببراعة شديدة ليخبرنا بشكل غير مباشر أن التاريخ سيعيد نفسه، وأن عوالم الرواية الخيالية قد تتحقق في يوم من الأيام، وتنتمي رواية “1984” إلى الأدب الديستوبي أو أدب المدينة الفاسدة التي ينتشر فيها الفوضى والخراب والدمار ويتجرد فيها الإنسان من كل معاني الإنسانية ليصبح محض مسخ تتحكم فيه قوى خارجية.
وفقًا لاتحاد المكتبات الأمريكية تعد رواية “1984” من أكثر الروايات التي تعرضت للحظر والمنع في التاريخ الحديث
تدور أحداث الرواية في مدينة لندن التي تقع في دولة خيالية تُدعى دولة أوقيانيا يحكمها نظام شمولي، ويعمل بطل الرواية ونستون سميث في وزارة الحقيقة الحكومية وهي الوزارة التي تعمل على إعادة صياغة الواقع والماضي لصالح الحكومة، وطوال صفحات الرواية يحكي لنا البطل طبيعة النظام السياسي المستبد الذي يطبق سيطرته على مقاليد البلاد، فهناك حزب أوحد يسيطر على الحكومة ويترأس هذا الحزب شخصية غامضة تُدعى الأخ الأكبر الذي يراقب بدوره جميع الشعب من خلال شاشة تُسمى شاشة الرصد وهي موجودة في كل مكان وحتى في بيوت المواطنين وغرف نومهم، وفي حال لاحظ القائمون على الرصد بأي تغير في شكل المواطنين فإنهم يتعرضون للمحاكمة، لماذا شردوا في وقت من اليوم ولماذا صمتوا.
الروائي البريطاني ”إيريك آرثر بلير“ المعروف بـ ”جوروج أورويل“
وبجانب وزارة الحقيقة التي يعمل فيها البطل، هناك أيضًا وزارة الحب المعنية بتعذيب المتمردين والمناهضة لأي عاطفة أو علاقة بين الجنسين، أما الوزارة الثالثة فهي وزارة الوفرة التي تتولى تجويع الشعب حتى لا يفكر سوى في لقمة العيش ووزارة السلام المختصة بالحرب، جدير بالذكر أن الرواية تعرضت للحظر والملاحقات القضائية بحجة أنها عمل هدام ولها أيدولوجية تخريبية، فوفقًا لاتحاد المكتبات الأمريكية تعد رواية “1984” من أكثر الروايات التي تعرضت للحظر والمنع في التاريخ الحديث، وفي عام 2014 اعتقل طالب مصري في محيط جامعة القاهرة وكانت التهمة الموجهة إليه حيازة رواية “1984”.
رواية “جمهورية كأن” للروائي علاء الأسواني.. توثيق للثورة التي لم تكتمل
أخذ علاء الأسواني عنوان الرواية من مقال له نُشر في مارس/آذار 2014 يحمل عنوان “تسقط جمهورية كأن” وتقدم الرواية صورة مرعبة وصادمة عن إحباط الثورة على يد التحالف بين الإسلاميين والجيش والإعلام، وتدور أحداث الرواية حول أبطال ميدان التحرير: مازن السقا وأسماء زناتي اللذان يناضلان ضد قيم المجتمع الفاسدة، ودانية ابنة لواء الشرطة أحمد علواني التي تخلت عن مصالح طبقتها من أجل مبادئ 25 يناير والشيخ شامل وشخصيات أخرى كونت فسيفساء الثورة.
المرعب في رواية علاء الأسواني أنها تقدم رؤية واقعية توثيقية، فخلافًا لرواية “1984” التي كانت محض خيال كابوسي يحكي عن مستقبل متخيل
ولكن كان للسلطات السياسية رأي آخر، حيث رصدت الرواية مشاهد كابوسية لتحالف الشرطة والتيار الديني والجيش والإعلام من أجل إجهاض الثورة وهو ما تجلى في شخصية نورهان المذيعة الانتهازية التي باعت ضميرها لصالح التحالف، وهناك شخصية ضابط الشرطة هيثم عزت المليجي التي برأته المحكمة العسكرية من تهمة قتل المتظاهرين.
الروائي علاء الأسواني
المرعب في رواية علاء الأسواني أنها تقدم رؤية واقعية توثيقية، فخلافًا لرواية “1984” التي كانت محض خيال كابوسي يحكي عن مستقبل متخيل، فرواية الأسواني تحكي عن واقع حدث بجميع تفاصيله ولهذا فهي تعد رواية توثيقية، يُذكر أن الرواية ممنوعة في مصر وغير موجودة في الأسواق.
رواية “وليمة أعشاب البحر” للكاتب السوري حيدر حيدر.. التمرد على تابوهات المجتمع
تتألف رواية وليمة أعشاب البحر من ثمانية فصول متتالية: الخريف، الشتاء، الربيع، الأهوار، الحب، نشيد الموت، ظهور اللوياتان، الصيف، وتدور الأحداث حول المناضل الشيوعي العراقي مهدي جواد الذي فر إلى الجزائر حيث يلتقي هناك بمناضلة قديمة وهي آسيا الأخضر ابنة أحد شهداء الثورة الجزائرية، حيث يصبح أستاذًا لها ثم حبيبها.
وليمة أعشاب البحر تحكي جانبًا من تاريخ العراق الأسود وثورة المليون شهيد بالجزائر، كما أنها تسرد لنا الغبن والاستلاب الذي يصاحب الثورات والاحتجاجات، تارة باسم الدين والأخلاق والعادات وتارة باسم القومية والعروبة وتنتهي أحداث الرواية بانتحار مهدي جواد والقبض على آسيا بتهمة ممارسة النشاط السياسي والاستيلاء على ثورة الجزائر من حفنة من السياسيين الانتهازيين، وعليه ينهزم في نهاية المطاف كل من الحب والثورة.
الروائي السوري حيدر حيدر مع روايته “وليمة أعشاب البحر”
في عام 2000 أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية طبع رواية “وليمة أعشاب البحر” وما إن نُشرت في مصر حتى استشاط غضب الإسلاميين وخرجوا في مظاهرات كبيرة متهمين الرواية بالتعدي على الدين، كما حصلت مواجهات عنيفة بين الأزهر وهيئة قصور الثقافة، وأصدر الأزهر بيان يهاجم فيه الرواية وذكر قائلًا: “الرواية تُحرّض على الخروج عن الشريعة الإسلامية، وخرجت عن الآداب العامة خروجًا فادحًا”، كما وجهت نيابة أمن الدولة العليا تهمة “نشر مطبوعة تدعو إلى العيب في الذات الإلهية والإساءة إلى الإسلام” إلى المسؤولين عن نشر الرواية وهما الأديب إبراهيم أصلان رئيس تحرير سلسلة “آفاق الكتابة” التي صدرت عنها الرواية، ومدير تحرير السلسة ذاتها حمدي أبو جليل وأحيلوا إلى المحاكمة وذهب الهجوم ضد الرواية بالبعض إلى القول بأن طباعتها في مصر كانت إهانة أسوأ من هزيمة العرب عام 1967 على يد “إسرائيل”.