قد يُخيّل للكثيرين أنّ القبائل البدائية، أو كما يُشار إليها أحيانيًا بالقبائل الضالّة، لم تعد موجودةً في العالم. باختصار، هذا غير صحيح. إذ سُجّل في عام 2013 وجود أكثر من مئة مجتمع بدائي معزول في العالم دون أنْ يسبق لهم الاتّصال بنا في عالم الحضارات الحديثة، وتتمركز معظمها في غابات الأمازون الكثيفة في أمريكا الجنوبية وغينيا الجديدة.
تعدّ قبيلة الدوخا التركية واحدة من تلك الاستثناءات النادرة جدًّا. فهي جماعة من الأتراك الأصليّين الذين يعيشون في أقصى شمال العالم على حدود كلٍّ من منغوليا وروسيا، أي في أكثر المناطق برودةً في العالم، حيث يمكن أنْ تصل درجة الحرارة هناك إلى 50 درجة مئوية تحت الصفر في فصل الشتاء.
يُطلَق على أبناء القبيلة اسم “رعاة الرنّة”، الحيوان الذي يُشبه الغزال ويرتبط في عقولنا بالقصص الخيالية وبابا نويل. إذ تعتمد القبيلة كلّيًا على الحيوان في حياتها اليومية، بدءًا من الغذاء مثل اللحوم والحليب مرورًا بجلودها وصوفها لصناعة الملابس والخيام وقرونها لصناعة الأدوات مثل السكاكين والخناجر. باختصار، فحيوان الرنّة هو وسيلة المعيشة الأساسية للسكّان. وغالبًا ما يشار إليهم باسم “تساتان” باللغة المنغولية، الاسم الذي يعني حرفيًا “شعب الرنّة”.
غالبًا ما يشار إلى أبناء القبيلة باسم “تساتان” باللغة المنغولية، والذي يعني حرفيًا “شعب الرنّة”
ينقسم مجتمع تساتان إلى شرق وغرب تايغا. تعيش تساتان الشرقية كعشيرة وتشكّل معسكراتها المتنقلة والمتحرّكة معًا والتي تنتقل كل خمسة أسابيع تقريبًا، أو بمعدّل 10 هجرات سنويًا. بينما تميل عائلات الغرب إلى نمط حياة أكثر استقلالية. وفيما يعمل رجال القبيلة كرعاة لحيوانات الرنّة منذ الصغر، تقوم النساء بدورهنّ بإعداد أيّ منتج يمكن إنتاجه من هذا الحيوان، الحليب أو الزبدة أو اللبن أو الجبن أو اللحم. عوضًا عن ذلك يقمن بجمع الصنوبر والتوت البري إكمالًا للتغذية الأساسية.
في السابق، كانت القبيلة مكوّنة من قرابة المائتي عائلة، لكنّ مع حركة الهجرة إلى المدن والعواصم الحديثة، بدأ العدد بالانخفاض تدريجيًّا. اليوم، تتوزّع القبيلة على 40 عائلةً فقط ولا يتجاوز عدد أفرادها الـ800 شخصٍ يرافقهم ألف حيوانٍ من الرنّة، وفقًا لبعض الإحصاءات الحديثة. كما كانت القبيلة أيضًا تتنقّل بين حدود منغوليا وروسيا، قبل أنْ يعمل الاتحاد السوفييتي على إغلاق حدوده مع منغوليا عام 1947، ما اضطر القبيلة للإقامة في مقاطعة هوفجسول بشمال منغوليا وممارسة حياة الترحال والتنقّل داخل نطاقها فقط.
تاريخٌ قديم وحضارة بدائية
تعود جذور القبيلة إلى ما سنوات قبل الميلاد. وقد انبثقت عن التوفانيين، أي السكان الأصليين لسيبيريا أو آسيا الوسطى. فيما تُشير الآثار والزخارف الجدارية التي تُعرف باسم “أحجار الغزلان” وتمّ استخراجها من المنطقة لاحقًا إلى أنّ تاريخ القبيلة يعود إلى العصر البرونزي المتأخر، أي إلى الفترة ما بين 1400-700 قبل الميلاد.
لا تزال القبيلة إلى يومنا هذا تتكلّم اللغة التركية التوفية، إحدى لهجات اللغة التركية التي تصل إلى 20 لهجة يتحدثها حوالي 185 مليون نسمة
في العصور الوُسطى، ظهرت العديد من القبائل التركية في وسط آسيا. وتعدّ قبيلة الدوخا، أو الدوقا كما يكتبها البعض، واحدةً تلك القبائل، ولا تزال إلى يومنا هذا تتكلّم اللغة التركية التوفية، إحدى لهجات اللغة التركية التي يصل عددها إلى أكثر من 20 لهجة يتحدثها حوالي 185 مليون نسمة تتوزّع بين دول البلقان إلى وسط سيبيريا.
إذ تُظهر اللغة التي يتحدّثها سكّان القبيلة تشابهًا كبيرًا مع اللهجات التركية التي تتحدّثها الشعوب التركية الأصل في تركيا وآسيا الوسطى. وعلى الرغم من أنّ الأتراك في تركيا سيواجهون صعوبةً في فهم شعب الدوخا، إلا أنّه يمكن تحقيق نوعٍ من التواصل والتفاهم من خلال العديد من الكلمات الشائعة أو المشتركة بين الشعبين.
يمارس أهالي القبيلة الطقوس الشامانية، وهي ديانة قائمة على عبادة الطبيعة وعالم الأرواح
أمّا دينيًّا، فتدين القبيلة بديانة تُعرف باسم التنكريجي، وهي ديانة تركية قديمة كان يدين بها الأتراك قبل أن يصل إليهم المسلمون ويعتنقون الدين الإسلامي. ويمارس أهالي القبيلة الطقوس الشامانية، وهي ديانة قائمة على عبادة الطبيعة وتتميّز بالاعتقاد بوجود عالم محجوب، هو عالم الآلهة والشياطين وأرواح السلف، أي أنّها متعلقة أساسًا بعالم الأرواح. إذ تعتقد القبيلة أنّ أشباح أسلافهم تعيش في الغابة كحيوانات ترشدهم للحياة وتساعدهم فيها.
لغة معرّضة للانقراض وثقافة تواجه خطر التغيير
على الرغم من حفاظهم على نمط الحياة البدوية والبدائية، إلا أنّ التكنولوجيا الحديثة أصبحت تشكّل جزءًا ولو يسيرًا من حياة القبيلة، إذ لديهم الآن ألواحًا شمسية لإنتاج الكهرباء، كما أنهم يستخدمون التلفزيون والهواتف النقالة، فيما تمتلك بعض العائلات سياراتها أو مركباتها الخاصة.
لكنّ هذا التطوّر لا يعني أبدًا أنّ القبيلة عثرت على ما يسهّل حياتها وييسّر معيشتها. فأنماط الحياة التقليدية بدأت بالتغير والاختفاء شيئًا فشيئًا. وفي حين أنّ كبار السنّ في القبيلة يستطيعون التحدّث بلغتهم التركية، فإنّ عددًا كبيرًا من الشباب وصغار السنّ لا يعرفونها أبدًا ويميلون للتحدّث باللغة المنغولية على حساب التركية. ما يعني أنّ الثقافة والهوية الأصلية لسكّان المنطقة معرّضة للانقراض في أيّ وقتٍ كان.
تواجه القبيلة مصاعب عديدة بسبب تراجع أعداد حيوانات الرنّة نتيجة لقوانين الحكومة بمنع صيدها
عام 2012، أعلنت الحكومة المنغولية حظرًا شاملًا على الصيد في المناطق الشمالية وأعلنت معظم أراضي الرعي التقليدية للقبيلة جزءًا من حديقة وطنية، وذلك في محاولةٍ منها لحماية البيئة. إلا أنّ هذه القوانين تقف فعليًا في وجه حياة الدوخا وتؤثّر سلبًا عليهم، لا سيّما في تراجع أعداد حيوانات الرنّة التي يعتمدون عليها اعتمادًا تامًّا وكاملًا في حياتهم اليومية.
من جهةٍ ثانية، أدّى اكتشاف الذهب في شمال منغوليا إلى جذب عمّال المناجم إلى المنطقة، ما سبّب تهديدًا حقيقيًا ومباشرًا على الحياة البرية هناك. ونتيجةً لكلّ تلك التحديّات، لم يكن من المستغرب أبدًا أنْ يقوم الكثير من شباب القبيلة بهجر حياتهم القديمة والاتجاه نحو حياة المدن والحضارة.
تعيش القبيلة في تنقّل وترحال طوال العام بمعدّل 10 هجرات سنويًّا
مشكلة أخرى تواجهها القبيلة بفعل تزايد أعداد السيّاح ممّن يرغبون بخوض تجربة مختلفة وسط قبيلة بدائية في السنوات الأخيرة، فضلًا عن برامج البحث والدراسة، وهي ما يتمّ دعمه بتشجيعٍ من الحكومة أو الجهات الرسمية. ويشتكي العديد من أفراد القبيلة من سلبيات السياحة وهذه البرامج، سواء كانت منظّمة أو غير منظمة، نظرًا لأنّها تنتهك خصوصية القبيلة وطريقة معيشتها وتصعّب على أفرادها محاولات البقاء على قيد الحياة والصيد والحصاد ورعاية الرنة.
بالنهاية، يطرح العديد من علماء ودارسي الأنثروبولوجيا سؤالًا مهمًّا وجوهريًا فيما يتعلّق بقبيلة الدوخا وغيرها من القبائل البدائية التي اختارت الحفاظ على نمط حياتها التقليديّ دون أنْ تخرج من عزلتها أو تقترب من النمط الحديث حيث الانفتاح والعولمة والتكنولوجيا. يجد الباحثون أنفسهم أمام خيارين اثنين متناقضين: هل يحقّ لنا اختراق عزلة تلك القبائل وإخضاعه رسميًّا لحماية الحكومات أم يجب تركهم على سجيّتهم دون أيّ تدخل حكوميّ أو شخصي؟
لا أحد يستطيع حسم الإجابة. فمن جهة، يرى البعض أنّ الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه، وأنّ العزلة ليست فطرية لدينا بل تحدث نتيجة العديد من الظروف الخارجية. وبالتالي، يدعو هذا الرأي إلى ضرورة الاحتكاك بالجماعات البدائية ووضعها تحت حماية الحكومات التي تسنّ القوانين وفقًا لما تراه هي لا وفقًا لما يراه أفراد تلك القبائل. ومن جهةٍ ثانية، يدعو البعض إلى ترك تلك القبائل تقرّر مصيرها وطبيعة حياتها والطريقة التي ترغب بالتواصل مع الآخرين من خلالها لوحدها، فلربّما كانت العزلة قرارهم واختيارهم الذي يسعون إليه، وليس جهلهم بوجود عالمٍ خارجيّ حديث هو ما حتّم عليهم تلك العزلة.