“سيبقى واقفًا على قدميه”، هكذا يثق بعض خبراء كوريا الجنوبية، في اقتصاد الجارة كوريا الشمالية، مهما كان حجم العقوبات المفروضة عليها، رغم صعوبة توقع وجود أرقام دقيقة عن الاقتصاد الشمالي بحوزة أدق الأجهزة الأمنية والاقتصادية في العالم، عن بلاد ما زالت ترى في شد الأحزمة وعدم انتظار العطف من “الإمبرياليين” العمود الأساسي لثقافتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حتى لو تغيرت كثيرًا في تقليل تطرفها تجاه هذا الرأي بعد محاولات لدفع العلاقات للأمام مع الولايات المتحدة، لتحسين الاقتصاد والحياة اليومية للشعب.. فما الذي تفعله لتقف على قدميها؟ وكيف؟
اقتصاد مرن في ظل العقوبات الدولية
رغم الآمال الكبيرة لكيم يونغ أون زعيم كوريا الشمالية في رفع العقوبات عن بلاده، بعدما ضحى بسياسة والده وجده، لتجنب شراء المزيد من عداوة الولايات المتحدة، باعتبارها صك الشرعية والشعبية اللذين يعيش عليهما من الجيش والشعب، أملاً في استفادة كوريا الشمالية من رفع العقوبات عنها، فإنه يثق كثيرًا في تحمل الشعب الكوري الشمالي لأي ضغوط اقتصادية مهما كانت درجتها، فالشعب الذي تعايش مع مجاعة التسعينيات وحصن نفسه عبر الإنتاج المحلي، لا يفرق معه كثيرًا إذا استمرت أمريكا في عنادها وطلبها المزيد من التنازلات.
كوريا الشمالية.. يعيش النووي ويموت الشعب/ وثائقيات
يساعد كيم في إدارة أزمة العقوبات، سيطرة الجيش الكوري على نحو ثلث ميزانية كوريا الشمالية، بنحو 30 مليار دولار سنويًا، بجانب تحكمه في الحصة الأكبر من سوق العمل بمليون شخص يعملون في مؤسساته وشركات تابعة لها تدير معظم روافد الاقتصاد، بداية من الزراعة والموارد المعدنية، نهاية بخطوط الطيران، وهذه الإمبراطورية العسكرية مدربة بالأساس على تحمل الضغوط، حتى في بنيتها المدنية، ودائمًا ما تؤهل العاملين لديها، لتقبل المزيد من الضغوط من أجل الوطن وكرامته وعزة النفس أمام آكلي لحوم البشر من الأمريكين والأوروبيين، كما تراهم العائلة الحاكمة.
تحافظ كوريا الشمالية التي يعيش فيها نحو 24 مليون إنسان، على الأسعار كما هي ولا تزيدها إلا بمعدلات خفيفة للغاية، والسر في ذلك يعود للمحافظة على معدل الاستهلاك من الأسر، فمواجهتها مجاعة التسعينيات، جعلها تدرك جيدًا كيف تعيش مع سياسة ربط الأحزمة لأقصى درجة، يحدث ذلك في الوقت الذي تقوم فيه الحكومة بمحاولات وجهود كبيرة لإصلاح الاقتصاد الجزئي الذي تعتمد عليه كوريا الشمالية، لدراسة تصرفات المستهلك، في ظل موارد محدودة، أملاً في تنظيم العلاقة بين المشتري والبائع، تحت ظلال تشديد العقوبات على الصادرات والعلاقات التجارية الخارجية والحظر المفروض على قيامها بأي مشاريع مشتركة وتعطل صادرات الفحم والمأكولات البحرية.
عاصمة كوريا الشمالية بيونغ يانغ
تتبع السلطات الكورية المعنية ما تسميه سياسة “التسويق من الأسفل”، وتجبر من خلالها الأسر على التدافع من أجل كسب عيشهم، ما يسمح بتطور الأسواق الرسمية وغير الرسمية، للاستفادة من العقوبات في دفع الاستثمار المحلي واستبدال الواردات بمنتجات محلية، وشاعت هذه السياسة منذ تولي كيم يونغ أون السلطة، لا سيما على مستوى الصناعة الخفيفة التي يبرع فيها الكوريون الشماليون، وينتجون منها الآن محليًا أكثر بكثير مما كانوا ينتجون قبل خمس سنوات، وخاصة الملابس والمنتجات الغذائية، لتعويض وقف الصادرات الرئيسية بجانب نقل العملات الصعبة بين الشركات الكبيرة المملوكة للدولة، وبعض المصادر تؤكد أن خبراء الشمال يحتفظون بطريقة غير معروفة للاحتفاظ بأرباح العملة الصعبة خارج الدولة، حتى لا يتعقبها المراقبون الخارجيون ويفرضون عليها عقوبات إضافية.
آليات غير تقليدية للاستثمار.. كيف؟
اعتمدت كوريا على تطوير تطلعها للتعاون والتبادل الاقتصادي والتقني، على قاعدة دائمة أسمتها “مبادئ المساواة والمعاملة بالمثل”، وتطبق هذا المعيار مع مختلف البلدان في جميع أنحاء العالم، فتمنح المستثمرين الأجانب، فهمًا كافيًا للتشريعات والمؤسسات الاقتصادية الأجنبية وسياستها الاستثمارية وبيئة الاستثمار، وتضع التعاون الاقتصادي بين الكوريتين والصين على رأس أولولياتها.
دشنت البلاد منشآت اقتصادية ضخمة في المناطق الحدودية البعيدة عن بيونغ يانغ، في كايسونج وسينويو وراجين وسونبونج، وتتبع سياسات أكثر جرأة لاجتذاب الاستثمار في الشمال الذي يضم فرصًا استثمارية واعدة لأسواق ناشئة، تدر عائدًا مرتفعًا على الاستثمار، وتحاول في ظل دحض الشائعات التي تتحدث عن مخاطر كبيرة في المنطقة، عبر تحديث منظومة التشريعات المتعلقة بالاستثمار.
تتبع كوريا منهج الصين في مجال الزراعة عبر توفير حوافز أكبر للمزارعين وتقليص حجم فرق العمل في التعاونيات والمزارع الحكومية
تسمح كوريا الشمالية بالمشروعات متعددة الجنسيات للعمل على أراضيها، كما تسمح لهم بالاحتكام لقانون التعاون الاقتصادي بين الكوريتين واستغلاله لصالحهم، فيمكنهم إقامة مشروع مشترك في كوريا الجنوبية والاستثمار في كوريا الشمالية بانتماء كوري جنوبي، كما أصبحت أكثر اهتمامًا بفتح أسواقها وملكية القطاع الخاص بما في ذلك حقوق الملكية الفكرية.
وتتبع كوريا منهج الصين في مجال الزراعة، عبر توفير حوافز أكبر للمزارعين وتقليص حجم فرق العمل في التعاونيات والمزارع الحكومية، مما يتيح للأسر زراعة ما تراه مناسبًا لتحافظ على المزيد من المكاسب عبر المبيعات المباشرة، وهي إصلاحات من شأنها أن تزيد من الإمدادات الغذائية المطلوبة بجانب توفر فائض من العمالة مجانًا للأنشطة الأخرى.
الرئيس الكوري يتفقد المحاصيل الزراعية
ورغم التراجع الكبير في القطاع الصناعي بكوريا الشمالية، فإن الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة مثل المطاعم وخدمات النقل والمحلات التجارية، تنتشر بشكل كبير في البلاد وتؤدي أدوارًا شديدة الأهمية لتعويض هذا الدور، في الوقت الذي تحاول فيه الدولة تحفيز المؤسسات التجارية الكبيرة على الاستثمار في مجالات البناء والنقل والاتصالات السلكية واللاسلكية، فهي في النهاية ترى القطاع الأجنبي الضلع الثالث في عملية الإصلاح الاقتصادي وتريد منه لعب دور أكبر.
كوريا الشمالية: القفزة
تلوح كوريا الشمالية بصادرات المعادن مثل الفحم والحديد المحظورة حاليًّا، وتستخدم المفاوضات مع أمريكا لإسالة لعاب المستثمرين، وحتى يحدث ذلك بشكل كامل، تتخذ من التكنولوجيا الخفيفة والمتوسطة والمصنوعات كثيفة العمالة في قطاعات مثل المنسوجات والملابس والإلكترونيات قاطرة لعملية النمو، وتتبع في ذلك منهج اقتصادات شرق آسيا، بتوسيع المدن القريبة من الموانئ مع الصين أو بالقرب من الطرق والسكك الحديدية مع كوريا الجنوبية وروسيا بشكل كبير.
تتخذ بيونغ يانغ من تجاربها السابقة في الاستثمار الكبير بمجمع كايسونج الصناعي ومنطقة راسون الاقتصادية، للتأكيد على امتلاكها المقومات اللازمة لتوفير أفضل مناخ لرأس المال الأجنبي، لا سيما أن ترامب أوضح بشكل صارم أن الولايات المتحدة لن تدفع ثمن نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية، على الأقل ليس من الناحية المالية، ولكن الامتيازات الرئيسية ستكون تخفيف العقوبات وتقديم ضمانات أمنية.
تعلم بيونغ يانغ أن التحول عن مواقفها القديمة خطوة على طريق طويل، يحتاج إلى ضغوط اجتماعية وسياسية، لتغيير ما تم العمل على ترسيخه في بنيه عقل المواطنين طوال نصف قرن
تعول كوريا الشمالية على بنك التنمية الآسيوي والبنك الدولي في إمدادها بالخبرة الفنية الكافية التي تحتاجها، بجانب الشراكة القوية مع الصين التي تستعد لافتتاح مجموعة من التجارة والاستثمار، فضلاً عن تحفيز كوريا الجنوبية والرئيس مون جاي على إعادة قنوات التجارة والمساعدات أيضًا، وليس مجرد المحادثات بين الشمال والجنوب، وتلبية احتياجات الاستثمار الهائل في البنية التحتية التي تحتاجها كوريا الشمالية، بما في ذلك الأساسيات، مثل بناء الطرق وخطوط السكك الحديدية والشبكة الكهربائية.
تعلم بيونغ يانغ أن التحول عن مواقفها القديمة خطوة على طريق طويل، يحتاج إلى ضغوط اجتماعية وسياسية، لتغيير ما تم العمل على ترسيخه في بنيه عقل المواطنيين طوال نصف قرن، كما تعلم أنها شراكة الصين منفردة لن تكفيها، لا سيما أنها تملك الاقتصاد الأكثر حيوية، وتتسلح بالأمل في الوصول إلى نهضة تأخرت كثيرًا، فأن تأتي متأخرًا، خير من أن لا تأتي أبدًا.