أصدرت محكمة الجنايات المصرية قرارًا برفع أسماء 716 شخصًا من قوائم الإرهاب، أمس الأحد، وذلك في إطار “توجه الدولة نحو مراجعة شاملة لموقف المدرجين على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، وبعد تكليف النيابة العامة الجهات الأمنية بإجراء تحريات دقيقة للتأكد من مدى استمرار الأنشطة الإرهابية للمسجلين على هذه القوائم”، حسبما قالت النيابة العامة المصرية في بيان رسمي لها.
وأشارت النيابة في بيانها أن التحريات أسفرت عن “توقف المذكورين عن القيام بأي أنشطة غير مشروعة ضد الدولة أو مؤسساتها، ما دفع النائب العام إلى عرض نتائج التحقيقات على محكمة الجنايات، التي استجابت لطلب النيابة وقررت رفع أسمائهم”، لافتة إلى أنها مستمرة في مراجعة موقف المدرجين على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، ومؤكدة في الوقت ذاته أن من يثبت توقف نشاطه غير المشروع سيتم رفع اسمه من القوائم وفقًا للإجراءات القانونية.
ربما لم تكن هذه المرة الأولى التي ترفع فيها السلطات المصرية أسماء كانت مدرجة على قوائم الإرهاب، لكنها السابقة الفريدة من نوعها التي يُرفع فيها هذا العدد من الأسماء (716) دفعة واحدة، فيما يبلغ عدد المدرجين على تلك القوائم قرابة 4408 أشخاص، وفق آخر تحديث لوحدة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في مصر، في أغسطس/آب الماضي.
وتضمنت القائمة العديد من الأسماء التي أثارت الكثير من التساؤلات بشأنها، مثل الداعية وجدي غنيم، وقيادات رفيعة في الإخوان في مقدمتهم يوسف ندا، وجهاد الحداد والوزير الأسبق يحيى حامد، وأمير بسام، فضلًا عن قامات اقتصادية معروفة مثل رجل الأعمال عمر الشنيطي وشقيقه، والاقتصادي المعروف وليد عصفور، كما شملت عددًا من المتوفين منهم الداعية يوسف القرضاوي، والقياديون السيد عسكر والسيد نزيلي ومسعود السبحي، وعبدالله نجل الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي، ورجل الأعمال علي فهمي طلبة.
وأثار هذا القرار الاستثنائي من حيث الكم (عدد المرفوعين من القوائم) والكيف (نوعية الأسماء التي تضمنتها القائمة والتي شملت قيادات كبيرة في الإخوان ورجال الاعمال)، حالة من الجدل داخل الشارع المصري، وسط انقسامات في ردود الفعل بشأن أهميته وتأثيره ودوافعه وما يحمله من دلالات ورسائل.
أولًا: ماذا يعني الإدراج على قوائم الإرهاب؟
ضمن التشريعات التي أصدرتها السلطة في مصر خلال عامي 2014/2015 لما أسمته حينها “مواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه” صدر قانون رقم 8 لسنة 2015 الخاص بتنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، رغم الاعتراض عليه من المنظمات الحقوقية في الداخل والخارج، وهو الذي أعطى النيابة العامة صلاحية إدراج أي جهة أو شخص على قوائم الإرهاب، استنادًا إلى التحريات الأمنية العامة فقط، حتى لو لم يثبت تورطه في أي عمل إرهابي أو يصدر بحقه حكم بذلك.
وبناء عليه تحول الأمر إلى ما يشبه الفوضى، حيث التوقيفات الوهمية للمئات من الشخصيات العامة في كل المجالات، لاعبين كرة وفنانين وصحفيين ورجال أعمال، ممن لا علاقة لهم بالسياسة، ولم يُعرف عنهم أي نشاط مخالف لمجالات عملهم المتنوعة، لتُدرج أسماؤهم بشكل مفاجئ ودون أي تحقيقات على قوائم الإرهاب.
ويترتب الإدراج على قوائم الإرهاب حزمة من التضييقات والانتهاكات الحقوقية المخالفة شكلًا ومضمونًا لمواثيق حقوق الإنسان التي وقّعت عليها مصر قبل عقود طويلة، والتي تحول حياة المتهم لسجن كبير، من أبرزها الإدراج على قوائم المنع من السفر وترقب الوصول، أو منع الأجنبي من دخول البلاد، وسحب جواز السفر أو إلغاؤه أو منع إصدار جواز سفر جديد أو تجديده، وفقدان شرط حسن السمعة والسيرة اللازم لتولي الوظائف والمناصب العامة أو النيابية أو المحلية.
كما يترتب عليه عدم التعيين أو التعاقد بالوظائف العامة أو بشركات القطاع العام أو قطاع الأعمال العام، والوقف عن العمل مع صرف نصف الأجر، وتجميد الأموال أو الأصول الأخرى المملوكة للمتهم، سواء بالكامل أم في صورة حصة في ملكية مشتركة، والعائدات المتولدة منها أو التي يتحكم فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، والأموال أو الأصول الأخرى الخاصة بالأشخاص والكيانات التي تعمل من خلاله، وحظر ممارسة جميع الأنشطة الأهلية أو الدعوية تحت أي مسمى، بجانب حظر تلقي الأموال أو تحويلها، وغيرها من الخدمات المالية المشابهة، ووقف العضوية في النقابات المهنية ومجالس إدارات الشركات والجمعيات والمؤسسات وأي كيان تساهم فيه الدولة أو المواطنون بنصيب ما، ومجالس إدارات الأندية والاتحادات الرياضية وأي كيان مخصص للمنفعة العامة.
ترحيب أولي: تصحيح لوضع خاطئ
حالة من الاحتفاء خيمت على الكثيرين عقب الإعلان عن هذا القرار الذي يُعتبر تصحيحًا لوضع خاطئ، حين أدرج المئات من المواطنين على قوائم الإرهاب دون إدانتهم بأعمال إرهابية وعدم صدور أحكام باتة بحقهم، وهو ما يفسر ردود الفعل المتفائلة إزاء هذه الخطوة الفريدة من نوعها منذ تولي النظام الحالي السلطة قبل 10 أعوام.
آخرون بالغوا في حفاوة الاحتفال بالقرار حد التشبيه بما حدث أيام الرئيس الراحل أنور السادات حيث مراجعات الإخوان الشهيرة، مستندين إلى ما نقلته قناة “إكسترا نيوز”، التابعة للشركة المتحدة المملوكة للمخابرات المصرية، تعليقًا على هذا القرار قائلة إنه “يؤكد حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على أبنائه، بفتح صفحة جديدة لهم للانخراط في المجتمع مواطنين صالحين يحافظون على بلدهم ويعيشون في أمان على أرضها”.
ورغم التحفظات التي أبداها البعض على هذه الخطوة – كما سيرد لاحقًا – فإن مثل تلك القرارات التي تُنهي معاناة المصريين وتطوي صفحات سوداء من سنوات التضييق والانتهاكات والتنكيل، حتى وإن جاءت متأخرة، لا بد أن تُثمن وأن يصاحبها مناشدات ومطالبات أخرى بغلق ملف الإدراج على قوائم الإرهاب بالكلية، لا سيما أنه يتضمن خروقات قانونية وحقوقية فاضحة.
تساؤلات ملغومة
وعلى الجانب الآخر حملت تفاصيل القرار والإعلان عنه بعض التساؤلات الملغومة التي تنسف مبدأ الاستناد للقانون والدستور كقاعدة أساسية في التعامل مع المواطنين قضائيًا وأمنيًا، وتحول النيابة العامة التي يفترض أن تتحدث باسم الشعب إلى سلطة مرتهنة للسلطة التنفيذية والقرار السياسي الرئاسي.
التساؤل الأول: من الذي أدرج تلك الأسماء على قوائم الإرهاب؟ وعلى أي أساس؟ وما المبررات والدوافع؟ وبالعودة إلى التجارب السابقة يتضح أن قرارات الإدراج تصدرها المحكمة والنيابة العامة بناء على التحريات القادمة من المؤسسات الأمنية (الأمن الوطني) الخاضعة بطبيعة الحال للتوجيهات السياسية الرئاسية، أي أن القرار مبني على تلك التحريات، سيئة السمعة في معظمها، دون التقديم للمحاكمة أو منح المتهم فرصة الدفاع عن نفسه.
التساؤل الثاني: من الذي يملك قرار رفع تلك الأسماء المدرجة عن قوائم الإرهاب؟ وبالعودة إلى بيان قناة “إكسترا نيوز” التابعة للسلطة، فإن هذا القرار “يأتي في إطار توجيه الرئيس السيسي بمراجعة المواقف القانونية للمتهمين سواء المحبوسين أو المدرجين على قوائم الإرهاب، وسرعة التصرف بشأنهم، تجاوبًا مع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وتحقيقًا للعدالة الناجزة، وإعلاء دولة القانون”، أي أن الرئيس هو من وجه برفع أسمائهم من تلك القوائم.
وعليه وبحسب ما هو منشور، سواء بيان النيابة العامة أم القناة التابعة للسلطة، فإن من أصدر القرار، سواء بالإدراج للقوائم أم الرفع منها، هو الرئيس وليس القانون والدستور، وهو ما يدفع نحو تساؤل آخر: هل المدرجين على تلك القوائم متورطون بالفعل في جرائم إرهابية؟ فإن كانت الإجابة بـ”نعم” فلما لم يُتخذ ضدهم إجراء قضائي رسمي أمام المحاكم؟، وإن كانت بـ”لا” فلما أدرجت أسماؤهم من الأساس على تلك القوائم وتعرضوا للتنكيل والتضييق ومصادرة أموالهم لقرابة 10 سنوات كاملة؟ ثم السؤال الأهم: لماذا لا تكون قرارات الإدراج والرفع مستندة إلى القانون وليس التوجهات والأهواء السياسية؟ وإلى متى ستظل رهينة المزاج السلطوي؟
بين المناورة وتغيير المسار
وعقب صدور القرار انقسم الشارع المصري في قراءة تلك الخطوة إلى قسمين:
الأول: يرى أن ما حدث يأتي في سياق مناورة سياسية يقوم بها النظام في وقت حرج اقتصاديًا، حيث الاحتقان الشعبي المتصاعد إزاء الأوضاع المعيشية المتدنية، نتيجة فشل السياسات الاقتصادية والمالية التي تتبعها السلطة الحالية طيلة السنوات الماضية، والتي أثقلت كاهل المواطنين بالأعباء التي لم تكن في الحسبان، وسط مخاوف من هبّة شعبية أشبه بـ”ثورة الحرافيش”، وعليه قد تكون تلك الخطوة لامتصاص الغضب واحتواء الشارع، الذي يزعم النظام إن الإخوان ما زالوا يسيطرون على جزء كبير منه، على أن تتغير مرة أخرى بتغير الأحوال الاقتصادية وإزالة أسباب التغيير.
هذا الفريق يميل إلى أن موجات الاعتقال المستمرة وتدوير المتهمين على قضايا وهمية والإصرار على استمرار اعتقال الآلاف لأسباب ودوافع سياسية بحتة، فضلًا عن التضييق والخناق الدائم على الحريات الأكاديمية والإعلامية، تؤكد أن ما يحدث لا يفارق مكانه كمناورة لاحتواء عاصفة ما أو تحويل الأنظار عن شيء آخر عبر استراتيجية الإلهاء (العصفورة) التي يجيدها النظام في تعامله مع الشارع.
الثاني: وهو الفريق المتفائل الذي يقرأ ما حدث بلغة النية الصادقة في التغيير وإعادة النظر في كل الملفات الحساسة، في ظل هذا الظرف الاستثنائي والتحديات التي تواجهها الدولة على جميع المسارات، ما دفع الرئيس والسلطة إلى تبني استراتيجية جديدة تقوم على الاحتواء وفتح صفحات جديدة مع التيارات السياسية والمجتمعية كافة، على أن تأتي تباعًا وعبر مراحل زمنية متقاربة، في إشارة إلى قائمة جديدة من الأسماء يتم دراستها حاليًا من المتوقع أن ترفع من قوائم الإرهاب خلال الفترة المقبلة.
أنصار هذا التيار يميلون إلى احتمالية أن تكون الدولة قد دخلت – خلال الفترة الأخيرة – في مفاوضات سرية مع التيارات والجماعات المختلفة معها سياسيًا، تتضمن تحييد نشاطها السياسي في مقابل فتح الباب أمام العودة والانخراط في المجتمع، لا سيما أن أنصار تلك التيارات يملكون ثقلًا اقتصاديًا كبيرًا ولديهم القدرة – إلى حد ما – على تعديل الكفة الاقتصادية المائلة، وهي الرؤية التي يعارضها الكثيرون، لا سيما أن معظم المعتقلين حتى اليوم هم من أبناء هذا التيار الذي لا يزال يتعرض للتنكيل والاستهداف دون توقف.
على كل حال، يبقى قرار رفع أسماء أكثر من 700 شخص من قوائم الإرهاب، خطوة جيدة في مجملها، لكنها تحتاج إلى ما يثبت صدق النوايا بشأنها، من خلال العمل بشكل متوازٍ على مختلف المجالات التي تعاني من انتهاكات وتضييقات بالجملة، وألا يكون ذلك قرارًا عرضيًا يتغير بتغير الدوافع والظروف.