سجّل البودكاست هذا العام نجاحًا كبيرًا في ضوء الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي انتهت بفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب. فقد عدَّ العديد من خبراء التسويق ومديري الحملة الانتخابية لترامب أن البودكاست كان صاحب تأثير كبير في هذه الانتخابات.
إذ فاجأ ترامب وسائل الإعلام الكبرى، يوم إعلان فوزه من مركز مؤتمرات مقاطعة بالم بيتش، بتوجيه الشكر إلى مقدمي برامج بودكاست أمريكية شهيرة، على مساهمتهم في إيصاله إلى هذا النصر الذي “كانوا جزءًا منه”، بعد ظهوره في 14 حلقة بودكاست مختلفة حقق خلالها 124 مليون مشاهدة، ضمن خطة تسويقية مبتكرة اتّبعها للترويج لحملته الانتخابية، مقابل غيابه عن المقابلات التلفزيونية التقليدية.
استثمار ترامب في البودكاست
قدّرت إيرادات قطاع البودكاست في الولايات المتحدة بحوالي 1.5 مليار دولار في عام 2021، فيما يتوقع أن تصل إلى 4.2 مليارات دولار بحلول نهاية العام الجاري. وقد عرف ترامب قوّة هذه الوسيلة الإعلامية وتزايُد شعبيتها تصاعديًا، لذا ركّز اهتمامه على كسب ثقة شخصيات عامة تحظى بشعبية كبيرة في عالم البودكاست المصوّر، والظهور في برامجهم بمختلف أنواعها الترفيهية والرياضية والاجتماعية، والاستفادة من انتشار برامجهم بين فئة الشباب.
ظهر ترامب في 14 بودكاست أو بث مباشر عبر منصة تويتش المعروفة بين الشباب ومتابعي بطولات ألعاب الفيديو، خلال حملته الانتخابية الأخيرة. بما فيها ظهوره في برامج بودكاست واسعة الانتشار مثل The Joe Rogan Experience وLogan Paul’s Impulsive وTheo Von’s This Past Weekend التي تشترك جميعها بجمهور واسع من الرجال. فيما حقق حوالي 68.7 مليون مشاهدة عبر منصة يوتيوب وحدها، وعشرات آلاف الاستماعات الأخرى عبر منصات الاستماع للبودكاست مثل سبوتيفاي وآبل بودكاست وغوغل بودكاست.
في السياق ذاته، استغلَّ ترامب الراحة الاستثنائية التي توفرّها مقابلات البودكاست العفوية بطبيعتها، إذ ظهر غالبًا كواحد من “الأصدقاء” بمفهومها الشعبي البسيط، بينما يتناول أطراف الحديث بمواضيع شخصية مع المذيعين، قبل التطرق إلى الأسئلة المتعلقة بالسياسة.
على سبيل المثال، تحدّث مع ثيو فون في برنامج البودكاست الخاص به حول معاناته مع الإدمان، وأظهر له دعمًا استثنائيًا عبر تشجيعه معنويًا، وبدا داعمًا لما يعانيه فون من تحديات صحية، وقد حصد المقطع المذكور وحده 2 مليون مشاهدة عبر يوتيوب.
كما سمحت مساحات النقاش الحرّة التي يضمنها البودكاست، فرصة كبيرة لترامب ليتحدث عن أكثر آرائه تطرفًا، دون تعقيب أو ردّ يستوجب فيه الدفاع عن نفسه. كما حدث خلال مقابلته مع “البودكاستر” جو روغان، حيث أعاد تأكيده على عدم نزاهة الانتخابات الرئاسية في عام 2020 قائلًا: “أنا لم أخسر”، بينما امتنع جو روغان عن الردّ عليه كما تفترض المعايير الصحفية عادةً في مواقف مشابهة، واكتفى بالتبسُّم قبل أن يكملوا المقابلة بكل هدوء، وبلغت مشاهدات الحلقة 33 مليون مشاهدة خلال يومَين من بثّها.
بينما لم يظهر ترامب سوى مرات معدودة عبر شاشة قناة فوكس التي تعدّ من “قنواته المفضلة” حسب ما وصفها سابقًا، بعد أن اعتذر عن الظهور في العديد من المقابلات التلفزيونية، من بينها التراجع عن مشاركته في برنامج “60 دقيقة” الشهير من إنتاج شبكة “سي بي إس”.
كامالا هاريس.. الحذر سيّد الموقف
على صعيد آخر، لم تظهر كامالا هاريس سوى في برنامجَي بودكاست طوال حملتها الانتخابية، إذ سجّلت أول ظهور لها في بودكاست Call Her Daddy، وهو برنامج يغلب عليه الطابع النسوي، ويستهدف في مواضيعه النساء الشابات. وقد سبق أن حقق نجاحًا ضخمًا عام 2021 كثاني أكثر برنامج استماعًا عبر منصة سبوتيفاي، ما دفع المنصة إلى شرائه بعد أن ساهم في زيادة عدد المستخدمين النشطين شهريًا بنسبة 27% وزيادة إيرادات المنصة بنسبة 11%.
تناول اللقاء طفولة المرشحة السابقة كامالا هاريس، ونشأتها مع والدتها العزباء، مع استفاضة بالحديث عن شكل الصعوبات التي واجهتها كطفلة يتيمة من البشرة السوداء. ورغم اعتذار المضيفة ألكسندرا كوبر إلى جمهورها عن التحدث إلى “سياسي” مثل هاريس، معلّلةً الأمر بأنها تحاول عمومًا تجنّب التطرق للمواضيع السياسية، إلا أنها لم تنتظر طويلًا حتى بدأت بطرح أسئلة حول آراء هاريس بما يخصّ قانون الإجهاض.
أما الظهور الثاني لكامالا هاريس كان عبر برنامج All The Smoke الذي يقدمه لاعبا كرة السلة السابقان مات بارنز وستيفن جاكسون، والذي يتّسم بالفكاهة والدردشة العفوية ويتابعه ملايين الرجال والنساء من أصحاب البشرة السوداء في أمريكا، فيما حققت المقابلة ما يقارب 700 ألف مشاهدة عبر يوتيوب.
بينما رفضت دعوة البودكاستر جو روغان للظهور في إحدى الحلقات “المسائية المباشرة” من برنامجه Joe Rogan Experience في الليلة السابقة لبدء عمليات الانتخابات، لأسباب تتعلق بمخاوف من تراجُع شعبيتها، والإضرار بما أنجزته طوال فترة الترويج لحملتها.
مدى تأثير البودكاست في التوجُّهات السياسية للمستمعين
تتمتع برامج البودكاست الحوارية بنقطة تميّزها عن المقابلات الإخبارية التقليدية، وتلعب دورًا رئيسيًا في مدى شعبيتها وتفضيلها من قبل شريحة واسعة من الناس. فهي قادرة على استيفاء شروط الترفيه والمعرفة بأبسط الطرق وأكثرها قربًا من المستمع، ما يؤهّلها لتجاوز عوائق الاستقطاب السياسي من خلال تمكين الضيف بالدردشة الودّية البسيطة.
كما تنفرد هذه المقابلات بصيغة طويلة وغير منضبطة نسبيًا، حيث يتمكن الضيف من مناقشة أي شيء تقريبًا، وهذا يناسب تمامًا أسلوب الحوار المتشعّب وغير المركّز الي يحتاجه كل سياسي ليثبت نفسه للناس، ما سيحدّ تدريجيًا من الحاجة إلى الأسئلة الصحفية الجامدة التي ترغم الضيف على الدفاع عن نفسه وتوضيح كلامه طوال الوقت.
وهو ما استطاع ترامب فعله بإعادة ترويج نفسه كشخصية سياسية ذات مبادئ وقيم مفهومة ومبررة في سياقات واضحة، مبعدًا عن نفسه وصمة السخرية والبلاهة التي ارتبطت به، وشائعات التحرش والاغتصاب التي طاردته خلال السنوات الأربع الماضية بسبب محاكمته.
الآن من المحتمل أن يشهد قطاع البودكاست تأثيرًا متزايدًا في الحملات الانتخابية في المستقبل، حيث أصبح أداة أساسية في تشكيل الرأي العام السياسي، ومن المتوقع أيضًا أن ينافس البودكاست المؤسسات الإعلامية التقليدية الكبرى في الهيمنة على اللقاءات والتصريحات السياسية، مستفيدًا من قدرته على الوصول المباشر إلى جمهور واسع ومتفاعل.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة الاستغناء عن المقابلات الصحفية التقليدية والاحترافية، لأنه ببساطة لا يمكننا التغاضي عن مخاطر انتشار المعلومات المضلّلة والأخبار المزيفة، التي غالبًا ما يلجأ إليها السياسيون لكسب نقاط إضافية، بالأخص لو بدأوا باستغلال الطبيعة غير الرسمية لهذه اللقاءات في ظل غياب الرقابة.