في ظل الحصار الخانق والهجمات المستمرة على شمال قطاع غزة، تزداد المخاطر التي تحيط بالصحفيين العاملين على الأرض، والذين يتواجدون في الخطوط الأمامية لنقل أصوات الضحايا وتوثيق الدمار.
وفي مواجهة محاولات الاحتلال الإسرائيلي لفرض التعتيم الإعلامي، يتعرض الصحفيون لاستهداف ممنهج عبر عمليات اغتيال مباشرة، تهدف إلى إفراغ الميدان من الشهود على المجازر وإسكات الأصوات التي توثّق الحقيقة، في محاولة لترهيب كل من يسعى للقيام بواجبه المهني في التوثيق والنقل.
في هذا السياق، يحاور “نون بوست” الصحفي إسلام بدر، مراسل قناة “العربي” في شمال القطاع، الذي يواجه يوميًا أصعب الظروف لنقل الحقيقة من قلب المنطقة المستهدفة منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير، ونتحدث عن الظروف القاهرة التي يعمل في ظلها، والتهديدات المباشرة التي يواجهها وزملاؤه الصحفيون.
كما يناقش الصراعات اليومية التي تدفعهم إلى المفاضلة بين إحساسهم الإنساني كفلسطينيين يعيشون المأساة يوميًا، وواجبهم أو مسؤوليتهم المهنية في نقل الحقيقة بموضوعية وشفافية إلى العالم. مقابلة تكشف دور الصحافة كجبهة مقاومة صلبة في وجه محاولات إسكات صوت الحقيقة وتشويه الوقائع.
إلى الحوار..
كونك صحفيًا يعمل في الخطوط الأمامية بشمال قطاع غزة، ما أبرز التحديات اليومية التي تواجهها أثناء أداء مهامك الصحفية، في ظل الاستهداف الإسرائيلي المباشر للصحفيين، وما يعيشه السكان من أوضاع إنسانية كارثية؟ وكيف تنعكس هذه التحديات على قدرتك في نقل الصورة الحقيقية لما يحدث على الأرض؟
الصحفي في شمال قطاع غزة يواجه تحديات معقدة تتنوع بين الجوانب اللوجستية والتقنية والأمنية التي تتفاقم بفعل الحرب والاحتلال، ورغم كل ذلك، يبذل الصحفيون جهودًا كبيرة للتغلب على هذه العقبات، لكنها غالبًا ما تكون محدودة أو مرتفعة التكلفة أو غير متاحة بسهولة.
على المستوى اللوجستي، يعدّ نقص الكهرباء واحدًا من أكبر العوائق، فمع غياب مصدر طاقة مستقر، يضطر الصحفيون إلى التنقل المستمر مع معدّاتهم، حاملين بطاريات احتياطية وكوابل إضافية، ومحاولين العثور على مصادر طاقة مؤقتة لشحن أجهزتهم، لكن هذه الجهود غالبًا ما تكون غير كافية، حيث تنفد البطاريات قبل إتمام تغطية الأحداث، ما يؤدي إلى ضياع فرص توثيق لحظات حرجة، ويحدّ من قدرتهم على إيصال الحقيقة.
على المستوى الأمني، يواجه الصحفي تهديدًا دائمًا بالاستهداف المباشر، سواء من خلال القصف أو التعقب. هذا التهديد لا يقتصر على حياته الشخصية، بل يمتد تأثيره إلى أسرته ومحيطه المجتمعي، ما يضاعف من الضغوط النفسية. الصحفي يتحول بذلك إلى هدف دائم، يعيش في بيئة تعجّ بالخطر، ما يضيف عبئًا إضافيًا على قدرته في الموازنة بين عمله المهني وسلامته الشخصية.
هذه التحديات مجتمعة تجعل أداء العمل الصحفي في غزة معركة يومية للحفاظ على الحقيقة ونقلها للعالم، وسط ظروف قاسية ومخاطر مستمرة.
في ظل الصعوبات اللوجستية الهائلة التي يواجهها الصحفيون في شمال قطاع غزة، مثل انقطاع الكهرباء وضعف شبكات الإنترنت، بالإضافة إلى ضرورة التنقل تحت تهديد الاستهداف المستمر، كيف يتمكن الصحفي من تجاوز هذه التحديات لضمان نقل الأخبار والصور إلى العالم؟ وما هي الاستراتيجيات والأساليب التي يعتمد عليها للتكيُّف مع هذه الظروف الاستثنائية وإتمام مهامه الصحفية بنجاح؟
الصعوبات التي نواجهها في العمل معقدة للغاية، وتشمل الصعوبات اللوجستية مثل صعوبات الاتصال والتنقل، بالإضافة إلى نقص الأدوات والتقنيات أو غيابها، مع ذلك نحاول جاهدين تأمين مصادر تساعدنا في التغلُّب على هذه المشكلات وتكفينا، لكننا نواجه انقطاعات متكررة، شأنها شأن كل شيء متذبذب في هذه الحرب، حيث إن السمة السائدة هي عدم الاستقرار في الأوضاع.
على سبيل المثال، نعتمد على حلول مؤقتة مثل البطاريات المحمولة (Power Banks) وحافظات شحن الهواتف لتجاوز أزمة انقطاع الكهرباء، مع الحرص على شحن أكثر من جهاز لضمان وجود بدائل في حال انقطاع أحدها. ورغم هذه المحاولات، يبقى الاعتماد على هذه المصادر محدودًا ويعيق استمرارية العمل بشكل كامل.
وخلال فترات انقطاع الإنترنت، التي استمرت لأشهر طويلة في بداية الحرب، لجأنا إلى الشرائح الإلكترونية (eSIM) وربطناها بشبكات الإنترنت المتاحة، سواء كانت إسرائيلية أو دولية، لكن هذا الخيار يواجه تحديات تقنية كبيرة، مثل ضعف الإشارة، ما يضطرنا للصعود إلى مناطق مرتفعة للحصول على اتصال أفضل.
هذه المحاولات ليست فقط مرهقة، بل أيضًا خطرة جدًّا، إذ تكون تلك المناطق عرضة للاستهداف المباشر، ومع عودة الإنترنت جزئيًا من شركة الاتصالات الفلسطينية، تحسّن الوضع قليلًا، لكن الاعتماد على البدائل ما زال ضروريًا.
فيما يتعلق بصعوبة الحركة، هناك أكثر من جانب لهذه المشكلة. أولًا، التحرك الميداني بحدّ ذاته يزيد من فرص تعرض الصحفي للخطر. ثانيًا، الحركة مكلفة للغاية بسبب الارتفاع الكبير جدًّا في أسعار الوقود اللازم لتشغيل السيارات، الذي وصل في بعض الحالات إلى 30 ضعف سعره الحقيقي، ما يجعل تكلفة كل تحرك باهظة الثمن ومصحوبة بمخاطر عالية.
كيف يتعامل الصحفيون مع قوائم الاتهام والتهديد ومحاولات/ عمليات الاغتيال؟ وما مدى تأثيرها على أدائهم المهني وحالتهم النفسية؟ وكيف ينجحون في الاستمرار بعملهم رغم الخطر الداهم؟
بخصوص التهديدات المباشرة من الاحتلال، نحن نتعامل معها بجدّية كبيرة نظرًا إلى ما ينطوي عليها من خطر شديد. جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي باستخدام هذه التهديدات كأداة للضغط النفسي، بل نفّذ بالفعل عمليات اغتيال استهدفت عددًا من الصحفيين. منذ بداية حرب الإبادة، تجاوز عدد الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي الـ 190 صحفية وصحفيًا، بالإضافة إلى العدد الكبير من الصحفيين الذين أُصيبوا أو اُعتقلوا جراء العدوان والاستهداف المباشر.
بناءً على ذلك، تُعدّ هذه التهديدات مصدر قلق كبير وخطير للصحفيين، حيث تسبّب لهم ضغطًا نفسيًا هائلًا، بل إن وجود الصحفي أصبح يُنظر إليه من قبل الآخرين، بمن فيهم الأهالي، كمصدر خطر محتمل. لقد وصل الحال إلى أن الناس باتوا يخشون الاقتراب من الصحفيين أو وجودهم في محيطهم، خوفًا من أن يكون الصحفي هدفًا للاحتلال ومعرّضًا للاستهداف في أي لحظة.
هذا الوضع انعكس سلبًا على حياة الصحفيين الشخصية، حيث أصبح من الصعب عليهم العثور على مكان للإقامة أو التنقل بحرّية، كما امتدَّ هذا الخطر ليشمل عائلاتهم، حيث يعاني أهالي الصحفيين من ضيق المساحات المتاحة لهم للإقامة بسبب مخاوف الناس من وجودهم، نظرًا إلى ارتباط ذويهم المهني بالعمل الصحفي الذي يجعلهم عرضة لخطر الاستهداف.
كيف يمكن للصحفي الموازنة بين التزامه المهني بنقل الحقيقة والتحديات الإنسانية التي يواجهها يوميًا على الأرض، خاصة عندما يكون شاهدًا على مأساة إنسانية كبرى أو مجزرة من مجازر الاحتلال، وما هي المعايير التي يعتمدها لتحديد الأولويات في مثل هذه المواقف الصعبة؟
الموازنة بين أداء مهمة الصحفي ودوره الإنساني هي تحدٍّ صعب للغاية. من جهة، يعدّ نقل الصورة مسؤولية حاسمة ورسالة يجب إيصالها للعالم، حيث نجد أنفسنا في كثير من الأحيان مضطرين لنقل الصورة فورًا لضمان توثيق المشهد قبل أن يختفي. ذلك يتم بهدف إيصال رسالة واضحة حول ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عمليات قتل وإبادة يومية، خاصة في قطاع غزة الذي يعاني من تعتيم إعلامي واسع.
لكن دائمًا، إذا ما استدعى الأمر ذلك، وفي حال غياب أي شخص آخر لتقديم المساعدة، فإننا نقوم بدورنا الإنساني بشكل طبيعي، سواء كان ذلك بالإنقاذ، أو تقديم المساعدة بأي شكل يتطلبه الموقف.
ما نوع الدعم الذي يقدَّم للصحفيين العاملين شمال قطاع غزة؟ وهل تلقيتم دعمًا أو مساندة من الاتحادات الصحفية العربية والدولية؟ وما هو دور نقابة الصحفيين الفلسطينيين في تقديم الحماية أو الدعم للصحفيين الذين يعملون في ظروف استثنائية كهذه؟
بخصوص دور الاتحادات العربية والدولية للصحفيين، لم ألمس أو أسمع عن أي نوع من الدعم المقدَّم، سواء كان دعمًا ماديًا أو معنويًا. أما بالنسبة إلى نقابة الصحفيين الفلسطينيين، فقد كان لها دور إغاثي تمثّلَ في توزيع طرود غذائية على الصحفيين في أكثر من مرحلة، كما قدمت مساعدة نقدية مرة واحدة طوال فترة الحرب في منطقة شمال غزة. بالإضافة إلى ذلك، أنشأت النقابة خيمة مخصّصة لتكون مكانًا لعمل الصحفيين، وتقع في المستشفى المعمداني بمدينة غزة.
بالمجمل، هناك دعم مقدم من نقابة الصحفيين الفلسطينيين، لكنه دعم محدود للغاية مقارنة بحجم الحاجة والتحديات الموجودة، وأيضًا بالنظر إلى طول مدة الحرب، حيث توجد فترات زمنية طويلة تفصل بين أي عملية تقديم مساعدات.
إلى أي مدى تجدُ منصات الإعلام الاجتماعي فعّالة في إيصال جرائم الاحتلال إلى العالم؟ وكيف يؤثر التضييق ومحاربة المحتوى الفلسطيني من قِبل بعض هذه المنصات على قدرتكم كصحفيين في شمال قطاع غزة على استثمارها لنقل الأحداث؟
وسائل التواصل الاجتماعي تعدّ فعّالة للغاية ومؤثرة، وفي بعض الأحيان يتجاوز تأثيرها الإعلام التقليدي، حيث تتميز بنسب وصول عالية جدًّا. ومع ذلك، فإن حجم القيود المفروضة عليها هائل للغاية. على المستوى الشخصي، تمّ حذف حسابي على منصة إكس (تويتر سابقًا)، وكان حسابًا نشيطًا وفعّالًا للغاية. بالإضافة إلى ذلك، أواجه قيودًا على حساباتي على منصات انستغرام وفيسبوك، تشمل تقليلًا كبيرًا في نسب الوصول إلى الجمهور.
ورغم هذه القيود، يظلُّ المشهد في وسائل التواصل الاجتماعي مهمًّا جدًّا، حيث يُعتبر ميدانًا لا يجب أن يُترك فارغًا. بناءً على ذلك، نحرص نحن كصحفيين على التواجد الدائم في هذه المساحات، وعلى أداء واجبنا المهني في إيصال الأخبار والصور إلى أوسع جمهور ممكن، على الرغم من جميع التحديات.