في عالم اللحن والغناء لا تدور العملية بشكل اعتباطي ولا تعتمد على موهبة الصوت فقط، لأن الموضوع أعمق من ذلك وله جذوره التاريخية التي بدأت منذ نشأة الموسيقى وتغيرت من ثقافة لأخرى واكتسبت طوابع مختلفة تدل على أثر الحضارة التي اكتشفتها، إلى أن وصلنا إلى الشكل النهائي الذي يسير عليه أغلب الملحنين والغنائيين في العالم الآن، وهو نظام السلم الموسيقي.
السلم الموسيقي عبارة عن تتالي في الحروف بشكل تنظيمي معين ينتج في النهاية نغمة أو أصواتًا معينة هي التي تشكل المقام في شكله الأخير، هناك عدد كبير من المقامات الموسيقية التي نشات منذ نشأة الموسيقى في العالم كله، مثل الأندلسية والتركية والعربية والفارسية وغيرهم، ولكن تركيزنا سينصب هنا على المقامات الموسيقية الشرقية.
المقام هو لون من ألوان النغمات بينما الأساس اللغوي لكلمة “مقام” هو “درجة” أي أن كل مقام يستقر على درجة سماعية معينة، حتى أصبح مصطلح عام يتبعه الموسيقيون والملحنون وعُرف حديثًا باسم السلم الموسيقي، ومن الواجب ذكره أن النوتة الموسيقية هي نفسها المقامات الموسيقية ولكن الفارق أن المقامات يتم تعلمها بالسمع والنوتة هي الكتابة التدوينية لهذه المقامات، وهنا أنا لا أتحدث عن النوع الأفضل من الآخر، لأن الأمر يرجع لرغبة الدارس وتفرغه وقدرته على التعلم وفي كل الأحوال كلاهما السبيل الواضح لدراسة وإنتاج نغمة غنائية صحيحة.
المقامات الموسيقية الشرقية
الرست
هو المقام الرئيسي في الموسيقى الشرقية ويدب على الفخر والبهجة في الغناء والأحاديث بينما في القرآن الكريم هو المقام الأكثر استخدامًا ويستخدم في الآيات التي بها وصف الأحداث والقصص وهو المقام الذي يستخدمه مشايخ المملكة العربية السعودية بشكل أكثر شعبية.
النهاوند
هذا المقام هو مقام الموسيقى الشرقية الذي يوضحها بين أي أسماع غنائية أو قرائية، ويصلح لعدد متنوع من الغناءات سواء كانت سعيدة أم شجية، ذلك يعني أن هذا المقام ليس له جانب واضح من الغناء يمكن تصنيفه وهو يتميز بذلك لخلوه من النغمات الحزينة، وفي الآيات الدينية يستخدم في قراءة آيات الخشوع والتدبر وآيات النعيم.
البيات
هذا المقام هو أحد المقامات الشرقية المميزة التي تعتمد على الطرب والسلطنة الغنائية، إذ يجمع بين الألحان الغنائية المتقلبة التي تكون هادئة ثم تعلو في المنتصف وهو ما يؤدي بالمستمع إلى النشوة والاسترخاء، وفي الناحية القرائية فهو المقام الأفضل للتدبر والخشوع والرهبانية.
السيكا
هو مقام البطء والتأني الذي استخدمه أغلب المطربين القدامى مثل عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، وفي ناحية القرآن يستخدم بشكل أكبر مع آيات الشجون والبشارة ويساعد على التأمل والهدوء.
الحجاز
مقام الهيبة والاحترام والحزن والوقار في الوقت نفسه، يشبه إلى حد كبير أغاني أم كلثوم وما بها من شجن، خاصة الحزين من أغانيها، وفي الناحية الدينية يستخدم في تأدية الآذان وفي آيات الخوف والخشوع.
الصبا
يمكننا وصف مقام الصبا بأنه مقام الحزن الباكي الذي يمثل الحزن والآلام الغنائية ويبعث في النفس الاكتئاب والحزن، ويمكن أن يتم تقديمه بأكثر من طريقة إلا أن طابع الحزن يسود على النغمة العامة، وفي الناحية الإسلامية يستخدم هذا المقام لقراءة الآيات الخاصة بعذاب القبر والآخرة والآيات التي تتطلب خشوعًا كثيرًا.
الكرد
هذا المقام هو مقام العاطفة الأنسب الذي يعبر عن العاطفة الجياشة ويصلح لأغاني الحب، وبشكل عام يعبر عما لا تستطيع أن تقوله النفس وكأن الآلات الموسيقية هي الناطقة بهذه المشاعر، وفي القرآن هو مناسب لآيات التبشير والهداية.
المقامات القرائية في القرآن الكريم
فن المقامات لا يقتصر فقط على الغناء والأناشيد بل يمتد إلى الدين الإسلامي ويتم تطبيقه على القرآن الكريم والتواشيح والأناشيد الدينية وما إلى ذلك، ولكن الفارق هنا أن التطبيق يكون على طريقة الأداء ولحن القارئ وليس على الآلة الموسيقية، لهذا يسميها البعض “مقامات القراءة” وليست مقامات موسيقية بالمعنى التقليدي المعروف.
وقد مرت المقامات القرائية في اللغة العربية بعدة مراحل، كما حدث مع أغلب العلوم والمعارف، فقد كانت في البداية أقرب إلى العشوائية أي أنها تُقام بشكل فطري تمامًا وتختلف من شخص لآخر حسب تفضيله وحسب وقع النغم على الأذن لهذا كانت مختلفة وليس لها نمط ثابت، ولكن بعد تقدم العلوم وبدء التدوين تم تحديد مقامات معينة وثابتة يسير عليها القراء والمنشدين، مثل بحور الشعر تمامًا، كما أن هناك اختلافًا طفيفًا بين الغنائيين والمنشدين الدينيين بأن عدد المقامات الموسيقية أقل درجة من المقامات القرائية، وهو جدل طفيف يرجح أنه يرجع لطبيعة النصوص وطريقة قرائتها.
وبشكل عام فإن أشهر المقامات المستخدمة في قراءة القرآن هو مقام الراست الذي يتناسب مع مبدأ ترتيل القرآن ويعطي الفرصة لتدبر الآيات ويساعد على التركيز، وهناك فارق مهم بين المقامات في الغناء والقرآن، أن قراءة القرآن تعتمد على عدة أشياء أخرى غير المقام مثل معرفة أحكام التجويد وصحة النطق وسلامة اللفظ، بينما يعتمد الغناء على الموهبة وجمال الصوت بشكل أساسي.
المقامات الموسيقية علم واسع سواء ارتبط بالثقافة الغنائية أم بالترتيل القرآني وما ارتبط به، وعلى الرغم من أن هناك مدارس متخصصة في تدريس هذه العلوم فإن الكثيرين لا يعرفون عنها شيئًا.