تترافق عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ظل التغييرات الإقليمية الراهنة مع تداعيات دولية كبيرة، خصوصًا بالنسبة إلى إيران التي عانت سابقًا من سياسة “الضغط الأقصى” التي انتهجتها إدارة ترامب الأولى. ومنذ إعادة انتخابه، دارت نقاشات داخل الجمهورية الإسلامية وبين المسؤولين حول ما إذا كانت ولايته الثانية ستكون تهديدًا خطيرًا لإيران، أم أن هناك فرصة لتهدئة التوترات بين واشنطن وطهران.
إذ تعهّد ترامب خلال حملته الانتخابية بعدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي، ملوّحًا بفرض عقوبات أكثر قسوة وزيادة الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. وبمعنى آخر، يبدو أن استراتيجيته تهدف بشكل رئيسي إلى تعزيز أمن “إسرائيل” في مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأبرز الذي يشغل الأوساط الإيرانية: هل يمكن لطهران التفاوض مع شخصية مثل ترامب المعروف بمواقفه الصارمة وغير التقليدية؟ أم أن العلاقة بين واشنطن وطهران تتجه نحو مزيد من التصعيد والمستقبل المجهول؟
عودة إلى سياسة “الضغط الأقصى”
قبل الحديث عن خطة ترامب المستقبلية تجاه إيران وموقف القيادة الإيرانية من الجلوس على طاولة المفاوضات مع واشنطن، يجب أولًا توضيح سياسة “الضغط الأقصى” التي هدد العديد من المسؤولين الجدد في إدارة ترامب القادمة بإعادتها. فعلى سبيل المثال قال بريان هوك، المسؤول عن انتقال القيادة في وزارة الخارجية الأمريكية حاليًا، والذي شغل سابقًا منصب المسؤول عن السياسة الإيرانية خلال ولاية ترامب الأولى: “لقد عاد الضغط الأقصى”.
تعتبر الولاية الأولى لترامب من أكثر الفترات توترًا بين طهران وواشنطن، مقارنة بالفترات السابقة، فقد شهدت تلك الأربع سنوات (2017-2021) منعطفات حادّة للغاية، بدءًا من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، مرورًا بالاشتباكات في الخليج، وصولًا إلى اغتيال واشنطن لقائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، في يناير/ كانون الثاني 2020 بواسطة طائرة مسيّرة في العراق، وما تلا ذلك من سلسلة من الاستهدافات الإيرانية، عبر حلفائها في العراق، للقواعد العسكرية الأمريكية.
كان ترامب دائمًا في حملاته الانتخابية السابقة يصف الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران والولايات المتحدة والدول الأوروبية (ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة)، والذي تمّ التفاوض عليه خلال إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، بأنه “أسوأ صفقة في تاريخ الولايات المتحدة”، وعندما تولى منصبه في يناير/ كانون الثاني 2017 بدأ مباشرة في اتخاذ خطوات للانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
قبل انسحاب واشنطن الأحادي الجانب من الاتفاق النووي، ومع تأكيد المؤسسات المختصة على التزام طهران التام بتنفيذ بنود الاتفاق الذي كان من المفترض أن يؤدي إلى تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران مقابل فرض قيود على برنامجها النووي، مرّرت إدارة ترامب الأولى خطة في الكونغرس أُطلق عليها اسم “مواجهة أعداء أمريكا عبر العقوبات”.
وقّع ترامب على هذه الخطة، التي أصبحت تُعرف اختصارًا باسم “كاتسا”، وأعلنت واشنطن أن هذا القانون سيُستخدم لفرض عقوبات على البرنامج الصاروخي الإيراني، والأنشطة الإقليمية لإيران التي لم تشملها بنود الاتفاق النووي لعام 2015، بالإضافة إلى الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان.
وفي مايو/ أيار 2018، انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، مبررًا ذلك بأن الاتفاق لا يغطي كامل البرنامج النووي الإيراني، ولا يتطرق إلى البرنامج الصاروخي الإيراني، بالإضافة إلى أن طهران استخدمت الفوائد المالية التي حصلت عليها من هذا الاتفاق في دعم وتمويل حلفائها في المنطقة.
بعد ذلك، بدأت إدارة ترامب الأولى في تطبيق سياسة “الضغط الأقصى”، ففي عام 2019 صنّفت الحرس الثوري الإيراني، القوة العسكرية الأساسية لإيران بجانب الجيش النظامي، كمنظمة إرهابية أجنبية، كما بدأت الإدارة في تشديد الخناق على صادرات النفط الإيراني، الذي يعدّ شريان الحياة للاقتصاد الإيراني، من خلال استهداف زبائن النفط الإيراني عبر العقوبات الثانوية الأمريكية. وتمّ إلغاء الاستثناءات التي كانت تتيح لبعض الدول مواصلة شراء النفط الإيراني، ما أدّى إلى انخفاض صادرات إيران اليومية من النفط إلى ما يقرب من 400 ألف برميل فقط.
لم يكن أمام طهران سوى خيارَين: الأول السعي الدبلوماسي مع الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي لإنقاذه، والثاني تصعيد التوترات في الخليج، وهو ما بدأ بالهجمات على ناقلات النفط في ميناء الفجيرة الإماراتي، تلاها استهداف كبير لأرامكو السعودية بواسطة طائرات مسيّرة، ما أسفر عن توقف حوالي 50% من إنتاج السعودية للنفط، ورغم أن جماعة الحوثي اليمنية قد أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم، إلا أن كل من الرياض وواشنطن اتهمتا إيران بالوقوف وراء هذا الهجوم.
وبدأت إيران في الرد على الهجمات الأمريكية في العراق، والتي تخلّلها استهداف القواعد العسكرية والمصالح الأمريكية، وفي ذروة التوترات أصدر الرئيس الأمريكي ترامب أمرًا باغتيال قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس وحدات الحشد الشعبي في العراق.
وفي ظل هذه التطورات، أصدر البرلمان الإيراني قانونًا لمواجهة سياسة “الضغط الأقصى” الأمريكية، والذي شمل تسريع تخصيب اليورانيوم بنسبة أعلى، ومنع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الإشراف على المواقع النووية الإيرانية كما كان منصوصًا عليه في الاتفاق النووي لعام 2015، بالإضافة إلى البدء في تنفيذ الإجراءات العكسية لبنود خطة العمل الشاملة المشتركة.
كان الهدف الأساسي لإدارة ترامب من كل ما سبق هو إجبار طهران على التفاوض مع واشنطن، والتوصل إلى اتفاق جديد يشمل أنشطتها الإقليمية، بالإضافة إلى برنامجها النووي والصاروخي، لكن لم يحدث ذلك لا في ولاية ترامب الأولى، ولا في عهد الرئيس الديمقراطي جو بايدن.
ومع ذلك، حصلت إيران على “استراحة” لمدة 4 سنوات في عهد بايدن، حيث بقيت سياسة “الضغط الأقصى” على حالها من الناحية القانونية، إلا أن إدارة بايدن عززتها بطرق مختلفة، فعلى سبيل المثال فرضت الإدارة عقوبات فردية جديدة، كما وسعت الأمر التنفيذي رقم 13902 الذي أصدره ترامب في ولايته الأولى، لاستهداف مجموعة أوسع من الأنشطة التجارية المرتبطة بتصدير النفط الإيراني.
رغم ذلك، تمكّنت إيران من زيادة صادراتها النفطية واحتياطاتها من العملة الأجنبية في السنوات القليلة الماضية، وذلك بفضل التهريب وتراخي الإدارة الأمريكية عن تطبيق العقوبات المفروضة بصرامة، إذ رأت واشنطن أن تشديد العقوبات قد يؤدي إلى خروج النفط الإيراني من الأسواق العالمية، وهو ما يتزامن مع العقوبات المفروضة على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، ما يشكّل تهديدًا للاقتصاد العالمي.
علاوة على ذلك، كان من الممكن أن تؤدي سياسة “الضغط الأقصى” إلى زعزعة النظام الإيراني، ما قد يدفعه إلى تصعيد أنشطته النووية في محاولة للبقاء في السلطة، وبناءً على ذلك قرر فريق السياسة الخارجية لإدارة بايدن أن تشديد الخناق على إيران يحمل مخاطر كبيرة ولا فائدة تذكر، خاصة في ضوء التوترات العسكرية التي شهدتها ولاية ترامب الأولى.
ماذا ينتظر إيران في المرحلة المقبلة؟
بعد 4 سنوات من المرونة التي انتهجتها إدارة بايدن تجاه إيران، تشير تصريحات ترامب وتعييناته الوزارية المحتملة في ولايته الثانية إلى عودة سياسة متشددة تجاه طهران، في ظل تصاعد التطورات الإقليمية والصراع المباشر بين “إسرائيل” وإيران، كما أضافت أنباء محاولة إيرانية لاغتيال ترامب في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية طبقة جديدة من التعقيد للعلاقات بين طهران والإدارة الأمريكية الجديدة.
ففي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت وزارة العدل الأمريكية أن إيران كانت تقف وراء محاولة لاغتيال الرئيس الأمريكي، وتحدث ترامب عن هذا الموضوع في منشور على منصة “إكس” في سبتمبر/ أيلول الماضي، قائلًا: “هناك تهديدات كبيرة لحياتي من جانب إيران. لقد اتخذت إيران بالفعل خطوات لم تنجح، لكنها ستسعى مجددًا. لن يقبل الرئيس المنتخب قضاء وقته في القلق بشأن محاولة إيرانية جديدة لاغتياله”، وذلك رغم نفي طهران لتلك المزاعم.
اختيار ترامب لعدد من الشخصيات المتشددة بشأن إيران لتولي المناصب الأمنية والسياسية في إدارته الجديدة، يشير إلى توجيه واشنطن نحو سياسة ضغوط متزايدة على طهران، ومن أبرز هذه الاختيارات تعيين ماركو روبيو وزيرًا للخارجية الأمريكية، وهو من المؤيدين البارزين للهجوم الإسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية، وكذلك للحملة الإسرائيلية ضد “حزب الله”.
وعلى حسابه في منصة “إكس”، نشر روبيو تصريحًا يدعو فيه إلى ردّ فعل مشابه لما قد تقوم به الولايات المتحدة في حال تعرضها لتهديدات مماثلة. وقال: “يجب على إسرائيل أن تردَّ على إيران بنفس الطريقة التي قد ترد بها الولايات المتحدة إذا أطلقت دولة ما 180 صاروخًا علنيًا. يجب أن يفعلوا في لبنان ما كنا لنطالب قادتنا بفعله إذا أطلق الإرهابيون صواريخ مضادة للدبابات علينا من دولة مجاورة، ما أجبر 60 ألف مواطن أمريكي على إخلاء منازلهم ومزارعهم لمدة عام تقريبًا”.
عصابة ترامب الجديدة.. فريق موالٍ لـ”إسرائيل” ومعادٍ للمهاجرين
يتضح من خلال تصريحات ترامب ومسؤولي إدارته القادمة، أن هناك توجهًا قويًا لاستكمال سياسة “الضغط الأقصى” تجاه إيران، مع التركيز على تحقيق هدفَين رئيسيَّين لواشنطن:
الهدف الأول: التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران، إذ يسعى ترامب، المعروف بميله إلى صنع الصفقات، إلى إبرام اتفاق جديد مع طهران بعد تطبيق ضغوط قصوى على اقتصادها، مقابل الحصول على تنازلات إيرانية في مجالات مثل البرنامج الصاروخي، الأنشطة الإقليمية، والحد من قدرة إيران على امتلاك سلاح نووي.
ويعتقد ترامب أن إيران الآن في موقف ضعيف، خاصة بعد الحرب المفتوحة بين طهران و”إسرائيل”، وهجوم الأخيرة على الأنظمة الدفاعية الإيرانية، إضافة إلى الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد حماس و”حزب الله”، وهي تطورات تمنح إيران موقفًا استراتيجيًا يمكن أن يكون أكثر ملاءمة للتفاوض مع إدارة ترامب.
الهدف الثاني: احتواء إيران، فرغم تصريحات ترامب السابقة حول عدم رغبته في تغيير النظام الإيراني، إلا أن الهدف من سياسة “الضغط الأقصى” هو الضغط على طهران إلى أقصى حد لاحتوائها، فإذا نفّذت إدارة ترامب عقوبات صارمة على إيران، وواجهت تهريب النفط الإيراني، ومنعت مشتري النفط من التعامل مع طهران عبر تهديداتهم بالعقوبات، فإن ذلك سيجعل من الصعب على إيران أن تظل في موقف قوي في المنطقة.
كما يمكن أن يستمر الدعم العسكري الأمريكي للحملات الإسرائيلية ضد إيران وحلفائها في المنطقة، ما يزيد من عزلة إيران ويجعلها أكثر عرضة للمفاوضات.
في هذا السياق، ترى إدارة ترامب المقبلة أن الضغوط الاقتصادية والسياسية ستقيّد قدرة إيران على إعادة بناء حركات مثل حماس و”حزب الله”، أو على تعزيز قدراتها الدفاعية الجوية عبر شراء أنظمة صواريخ روسية.
وإلى جانب ذلك، فإن هذه الضغوط قد تؤدي إلى تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية في إيران، كما حدث في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وفرض عقوباته على طهران، وحينها أدّت زيادة أسعار البنزين إلى اندلاع احتجاجات عنيفة في أكثر من 100 مدينة إيرانية، قبل أن تقوم قوات الأمن الإيرانية بقمعها بشكل دموي.
وتعتقد الإدارة الأمريكية الجديدة أن تكبيد إيران هذه التكاليف الباهظة سيجعل من الصعب عليها الاستمرار في دعم “محور المقاومة” وزعزعة استقرار المنطقة، كما سيعيق هذا من قدرتها على استئناف برنامجها النووي والصاروخي، ما قد يضطرها في النهاية إلى العودة إلى طاولة المفاوضات مع واشنطن، حيث يمكن التوصل إلى اتفاق جديد يحقق أهداف الولايات المتحدة في الحد من طموحات إيران الإقليمية والنووية.
رغم أن إدارة دونالد ترامب المقبلة قد تسعى لتحقيق الهدفَين المذكورَين، إلا أنها ستواجه صعوبات كبيرة في ذلك، فمنذ عام 2013 أكدت طهران مرارًا أنها لن تتفاوض بشأن قضايا غير نووية، وأصرّت على أن الاتفاق النووي هو أقصى ما يمكن التوصل إليه في مفاوضاتها مع القوى الكبرى، وهذا الموقف ظلَّ ثابتًا حتى خلال فترة إدارة ترامب الأولى، حيث تمسّكت طهران بعدم التفاوض على مسائل مثل برنامجها الصاروخي أو دعمها العسكري لحلفائها الإقليميين.
كما أن أي اتفاق يسعى إليه ترامب يشمل قضايا مثل دعم إيران لحلفائها في المنطقة أو الأنشطة الإقليمية الإيرانية، سيكون صعب التنفيذ في ظل النظام الإيراني الحالي، إذ تعتبر طهران “محور المقاومة” جزءًا أساسيًا من عقيدتها العسكرية، والتي تطلق عليها “عقيدة الدفاع الأمامي”.
وبالنظر إلى ما حدث في ولاية ترامب الأولى، فإن سياسة “الضغط الأقصى” لم تمنع إيران من التقدم في برنامجها النووي، بل على العكس، تشير العديد من التقارير إلى أن إيران أصبحت دولة “عتبة نووية” بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي. ورغم تفاوت التقديرات، تشير معظم التقارير الفنية المختصة إلى أن إيران قادرة على تصنيع سلاح نووي خلال فترة قصيرة قد تتراوح بين أسبوع إلى أسبوعين.
أما فيما يتعلق بحظر تصدير النفط الإيراني، فإن إدارته تواجه صعوبة في تحقيق هذا الهدف، حيث وصلت صادرات النفط الإيرانية حاليًا إلى نحو مليون برميل يوميًا، وسحب هذه الكمّيات بشكل مفاجئ من الأسواق يمكن أن يرفع أسعار النفط بشكل كبير.
وللتعامل مع هذه الأزمة، ستسعى واشنطن لإقناع دول أوبك بزيادة الإنتاج، لكن من غير المرجّح أن توافق المنظمة على هذا الطلب في ظل الوضع الحالي للسوق وأسعار النفط المنخفضة، خاصة في ضوء التقارب الإيراني الخليجي، وخاصة مع الرياض وأبوظبي، اللتين من غير المحتمل أن تدعما سياسة “الضغط الأقصى” الأمريكية ضد إيران كما كان الحال في الماضي.
معضلة طهران: التصعيد أم الدبلوماسية؟
في الأيام الأخيرة، أبدت طهران إشارات إيجابية تعكس انفتاحها على فكرة التفاوض مع الإدارة الأمريكية المقبلة بقيادة ترامب، فقد صرح نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية ووزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف قائلًا: “على ترامب أن يثبت أنه لن يكرر السياسات الخاطئة الماضية”، كما ألمح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى إمكانية إيجاد أرضية للحوار، مشيرًا إلى أن: “الطريق إلى الأمام يبدأ بالاحترام المتبادل، والثقة يجب أن تكون متبادلة بين الجانبين”.
وفي السياق ذاته، أبدى الرئيس الإيراني الإصلاحي مسعود بزشكيان موقفًا عمليًا، قائلًا: “سواء قبلنا بذلك أم لا، فإن المواجهة مع الولايات المتحدة في القضايا الإقليمية والدولية أمر حتمي، ويجب علينا إدارة هذا الوضع بفعالية”، وهي تصريحات تمثل توجُّهًا نحو التهدئة، وربما رغبة في إعادة صياغة العلاقة مع واشنطن، وسط التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة.
وعند مراجعة الولاية الأولى لترامب، نجد أن إيران لم ترضخ للضغوط التي مارستها إدارته، ولم تقبل التنازل أو الموافقة على التفاوض بشروط واشنطن، إنما واصلت طهران تعزيز برنامجها النووي، واتخذت خطوات متقدمة في أنشطتها النووية، إضافة إلى انتهاجها سياسة إقليمية أكثر حدّة، حيث تصاعدت تحركاتها العدوانية في المنطقة، كما أشرنا سابقًا، ما شكّل تحديًا كبيرًا لاستراتيجية “الضغط الأقصى” التي سعت إليها إدارة ترامب.
طوال فترة إدارة جو بايدن، ظلت إيران تراقب بقلق احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وانعكس ذلك القلق بوضوح على عدد من القرارات السياسية داخل إيران، ومنها موافقة المرشد الأعلى علي خامنئي على عودة الإصلاحيين إلى السلطة، ما مهّد الطريق لوصول النائب البرلماني الإصلاحي مسعود بزشكيان إلى رئاسة البلاد.
يمكن تفسير هذه الخطوة على أنها جزء من استراتيجية استباقية لمواجهة تداعيات عودة ترامب، فربما رأى خامنئي أن وجود رئيس إصلاحي في السلطة قد يسهّل التعامل مع السياسة الأمريكية المتشددة المتوقعة تجاه إيران في حال عودة ترامب، لا سيما فيما يتعلق بمحاولات تخفيف الضغوط أو إعادة فتح قنوات الحوار.
وهذا ما أشار إليه منافسو مسعود بزشكيان من التيار الأصولي المتشدد خلال الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جرت في يونيو/ حزيران الماضي، حيث اتهموا الإصلاحيين بالاستفادة من “رهاب ترامب” كوسيلة لتعزيز فرصهم في الفوز.
ومع ذلك، حتى لو تمكن الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان، المدعوم من المرشد الأعلى، من فتح قنوات للتفاوض مع واشنطن، فسيواجه تحديًا داخليًا كبيرًا يتمثل في غضب الدوائر السياسية المتشددة والشعبية الإيرانية تجاه ترامب، فقرار اغتيال قاسم سليماني، الذي أصدره ترامب، لا يزال يشكّل جرحًا عميقًا في الذاكرة السياسية الإيرانية، وستظل المعضلة الكبرى في كيفية تجاوز هذا الغضب الشعبي والسياسي والجلوس على طاولة المفاوضات مع رجل مسؤول عن قتل سليماني، الذي يمثل رمزًا بارزًا في عقيدة النظام الإيراني وأنصاره.
حتى لو افترضنا أن المرشد الأعلى علي خامنئي قد يغيّر موقفه الحالي، الذي عبّر عنه عام 2019 عندما منعَ المسؤولين الإيرانيين من التفاوض مع إدارة ترامب ورفض وساطة اليابان، واصفًا ترامب بأنه “شخص غير جدير بالثقة أو إرسال الرسائل”، فإن العقبات الداخلية تبقى حاضرة بقوة، فالمتشددون الذين يسيطرون على معظم مؤسسات الدولة، سواء المنتخبة أو غير المنتخبة، سيقفون عائقًا أمام أي محاولة من الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان لفتح قنوات تفاوض مع “قاتل قاسم سليماني”.
في هذا السياق، أي تحرك دبلوماسي من بزشكيان تجاه إدارة ترامب قد يصبح أداة في أيدي خصومه من التيار المتشدد، لتعطيل أو تقويض أي تقدم على صعيد المفاوضات مع واشنطن، ولا يمكن استبعاد أن يستغلوا هذا الأمر لإضعاف موقع الرئيس سياسيًا وإحباط أي مبادرات للتقارب، ويظهر هنا التساؤل الأهم: هل ستحظى حكومة بزشكيان بدعم كامل من المرشد الأعلى لتجاوز هذه المعارضة الداخلية والمضي قدمًا في مسار التفاوض، أم أن الضغوط السياسية الداخلية ستفرض عليها التراجع؟
لا يستبعد أن ينجح نتنياهو في إقناع ترامب باتخاذ مواقف أكثر عدائية تجاه إيران، بما في ذلك تصعيد عسكري مباشر، خاصة إذا أقنعه بأن هذا الخيار يخدم أمن “إسرائيل” ويظهر قوة الولايات المتحدة في المنطقة.
عدا عن ذلك، فإن الفترة التي تسبق تنصيب ترامب في يناير/ كانون الثاني 2025، قد تشهد تطورات غير متوقعة تؤثر سلبًا على أي احتمالية للتفاوض بين واشنطن وطهران، فقد ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أن ترامب نقل رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يدعوه فيها إلى إنهاء حرب غزة قبل توليه منصبه، ما يعكس رغبة ترامب في تقليص التوترات في المنطقة، بما في ذلك خفض مستوى التصعيد بين إيران و”إسرائيل”، مع الإشارة إلى ضرورة تهدئة الوضع في لبنان أيضًا.
لكن هذا التوجه قد يفتح الباب أمام سيناريوهات تصعيدية خلال الفترة الحالية، خصوصًا إذا ما حاولت إسرائيل استغلال “فترة البطة العرجاء” التي تمرّ بها إدارة جو بايدن لتصعيد المواجهات مع إيران وحلفائها الإقليميين، قبل أن تفرض عليها قيود محتملة في عهد ترامب عندما يبدأ بتنفيذ سياساته.
في الختام، تبقى سياسات دونالد ترامب تجاه إيران محاطة بالغموض والتناقضات، فمن جهة يعارض ترامب فكرة التورُّط في حروب جديدة في الشرق الأوسط، وسبق أن انتقد الإدارات السابقة بسبب تورّطها في صراعات مكلفة، ومن جهة أخرى لا يمكن استبعاد احتمال لجوئه إلى الخيار العسكري، إذا ما اعتبر أن ذلك يخدم أهدافه السياسية أو يعزز موقفه التفاوضي.
أما فيما يتعلق بعلاقته الوثيقة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإنها تضيف طبقة أخرى من التعقيد، فترامب قد يعمل على كبح طموحات “إسرائيل” العسكرية ودفعها نحو إنهاء الصراعات في غزة ولبنان لتجنب تصعيد شامل يضرّ بمصالح الولايات المتحدة، لكن في الوقت ذاته لا يُستبعد أن ينجح نتنياهو في إقناع ترامب باتخاذ مواقف أكثر عدائية تجاه إيران، بما في ذلك تصعيد عسكري مباشر، خاصة إذا أقنع ترامب بأن هذا يخدم أمن “إسرائيل” ويظهر قوة الولايات المتحدة في المنطقة، وهي سيناريوهات متشابكة تتطلب من طهران اتباع استراتيجية مرنة ومتعددة الأبعاد، لمواجهة الاحتمالات المتعددة التي قد تحملها فترة ولاية ترامب الثانية.