قديما قالوا إن الصراع مع إسرائيل صراع نفسي لا أكثر، ولابد من إسقاط جدار العداوة النفسية مع الآخر، تلك المقولات التي ثبت مع مرور الزمن زيفها، إذ كان يراد بها تسهيل عملية الاختراق المنظم للعقل المصري، حتى يبتلع الجريمة ويمررها، وهو ما جرى منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد.
وإن كان غير مقصود إلا أن تزامن توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على وثيقة الاعتراف بالجولان كجزء من السيادة الصهيونية مع ذكرى توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (26مارس1979) له من الدلالات ما تعيد ألم الجرح الغائر الذي لم يندمل بعد حتى يومنا هذا.
أربعون عاما مضت على الاتفاقية التي مثلت المرحلة المتممة لـ “إطار السلام في الشرق الأوسط” الصادر عن مفاوضات كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978، تلك المعاهدة التي أعادت تشكيل خارطة المنطقة العربية بصورة جذرية، وأعطت الشرعية السياسية للكيان المغتصب، وفتحت أمامه الباب نحو تدشين كيان معترف به عبر بوابة التطبيع.
وبينما يستقبل المصريون العقد الخامس منذ توقيع الاتفاقية، العديد من التساؤلات فرضت نفسها باحثة عن إجابة، فماذا حصدت مصر من وراء تلك المعاهدة؟ وما تداعياتها على المنطقة بأسرها؟ ورغم الجهود المبذولة من السلطات المصرية لدفع قطار التطبيع ودفعه إلى العديد من المحطات الأخرى.. كيف ينظر المصريون للعدو الصهيوني الذي وصف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي علاقات بلاده معه بـ “الدافئة”؟
محطات في تاريخ اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية
مرت العلاقات بين مصر ودولة الاحتلال بالعديد من المراحل منذ توقيع المعاهدة التي مثلت حالة من الجدل ليس داخل الشارع المصري فحسب بل العربي والدولي أيضًا، وهو ما أنعكس بعد ذلك على مكانة مصر ودورها الإقليمي، فالمعاهدة الموقعة احتوت على 9 بنود وملحق عسكري، وملحق آخر يشرح طبيعة العلاقة بين الطرفين.
المادة الأولى من المعاهدة تضمنت أبرز محاورها وشملت إنهاء حالة الحرب بين الطرفين ويقام السلام بينهما عند تبادل وثائق التصديق على هذه المعاهدة، كما تسحب إسرائيل كافة قواتها المسلحة والمدنيين من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، كما هو وارد بالبروتوكول الملحق بهذه المعاهدة (الملحق الأول) وتستأنف مصر ممارسة سيادتها الكاملة على سيناء.
علاوة على ذلك فقد أشارت إلى أنه عند إتمام الانسحاب المرحلي المنصوص عليه في الملحق الأول، يقيم الطرفان علاقات طبيعية وودية بينهما طبقا للمادة الثالثة (فقرة 3)، غير أن الكشف عن بنود الاتفاقية أثار حفيظة العرب وقتها وهو ما أحدث حالة أشبه بالانقلاب في علاقات مصر بمحيطها العربي.
فبعد أقل من 8 أشهر على توقيع المعاهدة وبالتحديد في الثاني من نوفمبر من نفس العام أصدرت جامعة الدول العربية قرارا بتعليق عضوية مصر ونقل مقر الجامعة إلى تونس وتولي السياسي التونسي الشاذلي القليبي منصب الأمين العام، وفي أكتوبر 1981 أغتيل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في حادثة عرفت إعلاميا بـ”حادثة المنصة”، خلال احتفالات حرب أكتوبر، احتجاجا على عقد المعاهدة مع الكيان الصهيوني.
وفي الخامس والعشرين من أبريل 1982 انسحب آخر جندي إسرائيلي من شبه جزيرة سيناء، وهو اليوم الذي يحتفل به المصريون كعيد لتحرير سيناء، لتسترد الدولة المصرية أخر بقعة محتلة في سيناء في 19 مارس 1989 عقب قرار حكم هيئة التحكيم الدولية في 27 أيلول/سبتمبر 1988 بأحقية مصر في ممارسة السيادة على كامل ترابها.
يأتي على رأس الحصاد الذي جنته القاهرة من وراء معاهدة السلام التي وقعتها مع الجانب الصهيوني تراجع دورها عربيًا بعدما كان لها الريادة الإقليمية والدولية في كثير من الأحيان
وبعد هدوء العاصفة، وعودة مصر للحضن العربي مجددًا بعد عشر سنوات من تعليق عضويتها، أخذت العلاقات بين القاهرة وتل أبيب منحا أخر، ففي الرابع عشر من ديسمبر 2004 وقع البلدان اتفاقية الكويز التجارية، والتي تسمح للشركات المصرية التي تستخدم مدخلات إسرائيلية بتصدير منتجاتها إلى الولايات المتحدة مع إعفاء الجمارك.
ورغم حالة الاحتقان التي شهدها الشارع المصري جرًاء تلك الاتفاقية إلا أن هذا لم يمنع الحكومة المصرية وقتها من توقيع اتفاقية أخرى في يونيو 2005 تقضي بتصدير 1.7 مليار متر مكعب من الغاز المصري إلى إسرائيل سنويا، لمدة 20 عاما، وهو الاتفاق الذي استفادت منه دولة الاحتلال أيما أستفادة وذلك قبل أن تصبح هي ذاتها المصدر للغاز لمصر في واقعة أثارت حالة من الاستنكار والسخرية في آن واحد.
ومع قدوم الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، باتت العلاقات بين البلدين أكثر حميمية ودفئًا، وهو ما عبرت عنه الصحف العبرية التي وصفت الرئيس المصري بأنه الأفضل بالنسبة لها مقارنة بغيره من الرؤساء السابقين، كما شهدت العلاقات بين البلدين خلال ولايته الأولى ما لم تشهده طيلة الأعوام الأربعين الماضية..
ما الحصاد؟
وبعد هذا التاريخ الطويل من العلاقات المتبادلة بين الجانب المصري ونظيره المحتل، لا ينكر أحد أن القاهرة قد حققت عدة مكاسب من وراء تلك المعاهدة على رأسها استرداد أراضيها بشكل كامل، وتحرير آخر حبة من تراب سيناء من يد الاحتلال بعد سنوات قضاها المصريون في المحاكم الدولية.. ليبقى السؤال: ماهو المقابل الذي دفعته نظير هذا المكسب؟
40 عامًا على توقيع اتفاقية السلام التاريخية بين إسرائيل ومصر
من الفوائد المتأتية من اتفاقية السلام: في المجال الزراعي هناك تعاون مثمر في اثراء المعلومات والتقنيات الحديثة ما أفضى إلى إنشاء مزارع متقدمة في #مصر في حين قَدِم مصريون للمشاركة في دورات تكميلية في #إسرائيل pic.twitter.com/4ht9qHHiIJ
— السفارة الاسرائيلية (@IsraelinEgypt) March 24, 2019
أولا: سيادة منقوصة على سيناء
رغم تحرير مصر لسيناء من قبضة العدو الصهيوني إلا أن سيادتها على تلك المنطقة سيادة منقوصة، إذ ينص الملحق الأول من الاتفاقية على عدد من القيود التي تكبل حجم وتوزيع القوات المصرية في سيناء، وهي المعضلة التي تدفع مصر ثمنها حتى الآن في مواجهة الجماعات المسلحة هنالك.
الاتفاقية كرست خطين حدوديين دوليين بين مصر وإسرائيل لأول مرة، الأول يمثل الحدود السياسية الدولية المعروفة، وهو الخط الواصل بين مدينتي رفح وطابا؛ أما الثاني فهو الواقع على بعد 58 كلم شرق قناة السويس، والمسمى بالخط “أ”. وهو ما جعل سيناء تقسم أمنيًّا إلى ثلاث شرائح طولية من الغرب إلى الشرق تسمى بالمناطق “أ، ب، ج”.
علاوة على ذلك فإنه وفق نصوص المعاهدة غير مسموح للجيش المصري نشر أي قوات في المنطقة “ج”، باستثناء عدد قليل من أفراد الشرطة وحرس الحدود خفيفي التسليح، كما تمنع القوات المسلحة من إنشاء أي مطارات أو موانئ في كامل مناطق سيناء، وهو ما يعرقل الكثير من الجهود الأمنية في تلك المنطقة الاستراتيجية.
ثانيًا: تراجع الدور المصري عربيًا
يأتي على رأس الحصاد الذي جنته القاهرة من وراء معاهدة السلام التي وقعتها مع الجانب الصهيوني تراجع دورها عربيًا بعدما كان لها الريادة الإقليمية والدولية في كثير من الأحيان، وهو ما تكشفه وضعية مصر على خارطة الملفات الحساسة التي تشهدها المنطقة خلال السنوات الأخيرة.
فبعيدًا عن القضية الفلسطينية والتي ظلت لسنوات بعيدة عن قائمة أولويات اهتمامات الجانب المصري اللهم إلا في الآونة الأخيرة سواء كان ذلك بسبب منح الملف للمخابرات العامة بدلا من النظام السياسي أو نتيجة ضغوط ممارسة على الأخير للإسراع في إتمام ما يسمى بـ “صفقة القرن” بدعم مصري سعودي إماراتي، فإن الحضور المصري في القضايا الأخرى تراجع وبقوة.
والناظر إلى خارطة القوى الفاعلة في ملفات اليمن وسوريا وليبيا يجد أنها شبه خاوية من الدور المصري تماما، لتسحب بعض العواصم الأخرى البساط من تحت أقدام القاهرة، وهو في كثير من تفسيراته يعود إلى فقدان مصر قدراتها وإمكانياتها على نصرة القضايا العربية في كثير من المحافل.
المردود الاقتصادي كان لصالح إسرائيل وليس لصالح مصر، خاصة وأن نظام مبارك، استجاب طواعية لخطط صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وهيئة المعونة الأمريكية، في ربط التنمية المصرية وتحديث الزراعة والصناعة، بالجانب الإسرائيلي
الأمر لم يكتف عند هذا الحد وفقط، بل إن الصورة الذهنية التي أخذها الشارع العربي عن مصر ودورها الإقليمي المحوري تعرضت للتشويه في أعقاب معاهدة السلام الموقعة، الأمر تعزز بصورة أكثر سوءًا خلال السنوات الأخيرة، والتي بات فيها حتى التظاهر لنصرة القضايا العربية، وهو أدنى وسائل الدعم، جريمة لا تغتفر.
ثالثًا: تدمير صحة المصريين
جانب آخر من حصاد السلام يطل برأسه، لكنه هذه المرة يتعلق بصحة وحياة المصريين أنفسهم، فدولة الاحتلال أيقنت تماما منذ توقيع الاتفاقية أنها لن تخوض حربا ضد مصر مرة أخرى،و من ثم كان البحث عن وسائل مواجهة أخرى بديلة هو الحل، حروب من نوع أخر، حروب تفتك بالمصريين دون أسلحة محرمة ولا مسائلة قانونية.
خبراء أشاروا إلى أن الشعب المصري جنى الحصاد المر من اتفاقية السلام، ودفع ضريبتها من مأكله ومشربه، وتدمير البنية المجتمعية بنشر المخدرات بكافة أشكالها، بالإضافة لتحويل مناطق مصرية كاملة، كمحميات طبيعية للإسرائيليين في طابا وشرم الشيخ ودهب، لفرض التطبيع بالقوة الاقتصادية على المصريين
عضو مجلس الشعب المصري السابق عزب مصطفى أشار إلى أن أخطر ما واجه المصريين نتيجة اتفاقية السلام التي وصفها بـ ” المشؤومة”، هو تدمير صحتهم باستيراد المبيدات المسرطنة، التي دمرت الزراعة في مصر، تحت حماية كاملة من نظام حسني مبارك الأسبق.
مصطفى في حديثه لـ”عربي21” أشار إلى أنهم كنواب فجروا قضية المبيدات المسرطنة خلال وجودهم بمجلس الشعب في الفترة من 2000 وحتى 2005، ووجهوا استجوابات عديدة ضد نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة والأمين العام للحزب الوطني وقتها يوسف والي، ولكن الأوامر جاءت من رئاسة الجمهورية بعدم فتح هذا الموضوع، واعتبار يوسف والي خط أحمر، ولا يمكن لأحد الاقتراب منه، أما صحة المصريين وغذاؤهم فلم يكونوا ضمن قائمة أولويات نظام مبارك..
كان التطبيع بين البلدين قبل 2004 قاصرا على ملفي السياحة والزراعة، وقد حققت فيهما إسرائيل نجاحات سياسية واقتصادية وأمنية ومخابراتية كبيرة، بينما كانت مصر تقوم بدور المستقبل ليس أكثرـ حسبما أشار الخبير الاقتصادي كامل المتناوي، إلا أنه بعد ذلك أخذ موضوع التطبيع مسارا مغايرا بعد توقيع اتفاقية الكويز بين مصر واسرائيل وأمريكا.
المتناوي نوًه إلى أن “المردود الاقتصادي كان لصالح إسرائيل وليس لصالح مصر، خاصة وأن نظام مبارك، استجاب طواعية لخطط صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وهيئة المعونة الأمريكية، في ربط التنمية المصرية وتحديث الزراعة والصناعة، بالجانب الإسرائيلي، وهو ما كشفته البعثات الزراعية التي أرسلها يوسف والي لإسرائيل من أجل نقل الخبرة الاسرائيلية في زراعة الصحراء لمصر، والتي بلغت أكثر من 12 ألف بعثة ضمنت ما لا يقل عن 20 الأف مهندس زراعي خلال عهد والي”.
وفي المجمل،و رغم الحصاد المر الذي جنته مصر جرًاء السلام مع الكيان الصهيوني طيلة الأعوام الأربعين الماضية، إلا أن الشعب المصري ظل عصيًا على جهود التطبيع الحثيثة رغم الإغراءات المقدمة من الجانبين، ليثبت الشعب العربي أيا كانت هويته أنه الحلقة الأصعب في معادلة طمس الهوية.