يعدّ السفر والسياحة وسيلةً ممتازة لفتح عينيك على الأشياء والأماكن الجديدة في العالم، واكتشاف الأشخاص وأساليب الحياة المختلفة من حولك. لكن لسوء الحظ، فقد نغفل أثناء توقنا لتجربةٍ مثيرة وممتعة أنْ هناك العديد من التبعيات والآثار التي يمكن وصفها بالسلبية وتنتج عن الخيارات السياحية التي يقوم بها آلاف الأشخاص حول العالم.
ولهذا، ظهر في الآونة الأخيرة العديد من الأسئلة المهمّة والضرورية فيما يتعلّق بأخلاقيات السياحة أو السفر، ممّا يركّز أساسًا على البيئة والجانب الاجتماعي والنفسي للأفراد في الأماكن المقصودة، إضافةً إلى السؤال الأخلاقي المتعلّق بالطبقية والأموال التي تذهب لرحلة سياحة في دولة فقيرة والتي قد تكفي لأنْ تكون مصروفًا لعائلة ما هناك أو أيّ شيءٍ من هذا القبيل.
سياحة السفاري: زيادة في الدخل وآثار سلبية على الحيوانات
لا أحد يختلف معك بأنّ الذهاب في رحلة سفاري ومشاهدة الحياة البرية وكلّ تلك الحيوانات التي نعرفها من مسلسلات الكارتون أو البرامج الوثائقية الطبيعية تبدو مغامرة مميّزة وممتعة إلى أقصى درجة. لكنّ موضوع سياحة السفاري، مثله مثل الكثير من أشكال السياحة الأخرى، يخلق أيضًا العديد من الأسئلة الأخلاقية والأجوبة المتناقضة فيما يتعلّق بالسياحة والسفر.
تُقدم الأفيال على العديد من السلوكيات العدوانية والمتوترة أمام السيّاح في المحميات الطبيعية والأماكن المخصصة لرحل السفاري
فمن جهةٍ ما، يمكن لسياحة الحياة البرية أن تساعد في حماية هذه الحيوانات وتعزّز من فرص بقائها من خلال المساهمة في دخل الدول واقتصادها المحلّي. فعلى سبيل المثال، تستقبل دول مثل جنوب إفريقيا وكينيا بين مليونين إلى خمسة ملايين سائح وزائر للمناطق المحمّية كلّ عام، والذين بدورهم يساعدون في تحقيق إيرادات قد تصل إلى 90 مليون دولار.
لكن في المقابل، يجعل البعض في كثيرٍ من الأحيان كيف يؤثّر هذا الشكل من أشكال السياحة على الحيوانات بطرقٍ غير ملحوظة وغير مباشرة. فوفقًا لتقريرٍ نشره موقع “ذا كونفرسيشن” يحاول الكاتب فيه رصد آثار السياحة على الفيلة المتواجدة في بعض المحميات الطبيعية في جنوب إفريقيا، تتمّ الإشارة إلى أنّ تلك الفيلة تسجّل سلوكيّات تعكس توتّرها وعدوانيّتها بشكلٍ متزايد في الشهور التي تكثر فيها أعداد السيّاح. فيما سجّلت بعض قطعان الفيلة محاولاتٍ واضحة للابتعاد عن جموع السيّاح وسيّاراتهم أو مركباتهم.
مراقبة الحياة البرية دون اتّصال جسديّ أو احتكاكٍ مباشر وباهتمامٍ كبير بأعداد السيّاح وكثافتهم يمكن أنْ يكون أفضل للحيوانات ورفاهيّتها النفسية
وبذلك، يُشير المقال إلى أنّ التواجد المتزايد والكثيف للبشر حول الحيوانات في المحمّيات الطبيعية يعمل على زيادة إفراز هرمونات التوتّر والإجهاد عند تلك الحيوانات، ما يؤدّي إلى العديد من الاستجابات وردود الأفعال المتوتّرة والعدوانية عندها، وهي استجابات قريبة للاستجابات اللاإرادية التي تحدث عند الشعور بالإجهاد والتوتّر عند البشر.
من جانبٍ آخر، يطمئن المقال أنّ مراقبة الحياة البرية دون اتّصال جسديّ أو احتكاكٍ مباشر وباهتمامٍ كبير بأعداد السيّاح وكثافتهم يمكن أنْ يكون أفضل للحيوانات ورفاهيّتها النفسية، ولكنه في الوقت نفسه لا يخلو من المخاوف والأضرار. وهو بذلك يقترح تقييد رحلات السفاري وتقليل احتكاكها بالحياة البرية واتخاذ المزيد من التدابير اللازمة للتخفيف من الضغوط المحتملة التي يمكن أن تفرضها سياحة البشر على الحيوانات.
هل يحقّ للسياح اختراق عزلة القبائل البدائية؟
من المفهوم ضمنًا أنّ الثقافات القديمة وأساليب الحياة التقليدية التي لم تتغيّر منذ آلاف القرون على الأغلب، تحمل في جوهرها سحرًا كبيرًا للمسافرين والسائحين الذين يرغبون بالبحث عن تجربة جديدة تكون أقرب للطبيعة منها للعالم الحداثيّ المتسارع. ففكرة أنْ تعود بالماضي حيث القبائل البدائية والحضارات القديمة تبدو جذّابة للغاية. ولكن دائمًا ما هنالك سؤالًا يلحّ بشدّة بخصوص هذا النوع من السياحة الذي يخترق عالم تلك القبائل وبدائيّتها والعزلة التي وضعت نفسها فيها من سنين.
يحقّ للمجتمعات الأصلية بأن تقرر بنفسها ما إذا كانت ستدعو الغرباء إلى حياتها وكيف ومتى، الأمر الذي قد يحدث بالتعاون مع الحكومات والمؤسسات السياحية المسؤولة في المنطقة.
تخيّل أنك تنتمي لواحدة من تلك القبائل. تمارس الصيد بشكلٍ يوميّ ولا تعرف ما هو الهاتف أو الكاميرا. ترتدي ما يستر عورتك فقط، وأقصى ما تصل إليه من الترفيه هو أنْ تجلس مع قبيلتك أو أفراد عائلتك مساءً إلى جوار النار. فهل تعتقد أنّه من حقّ أولئك الذين ينتمون للعالم المتحضّر أن يخترقوا حياتك ويقتحموا عزلتك، أم عليهم تركك دون أيّ احتكاكٍ ودون إظهار الفروقات والاختلافات التي ننعم بها دونهم؟
لا يتقصر هذا السؤال على مجال السياحة وحسب. إذ يطرح العديد من علماء ودارسي الأنثروبولوجيا سؤالًا مهمًّا وجوهريًا فيما يتعلّق بالقبائل البدائية التي اختارت الحفاظ على نمط حياتها التقليديّ دون أنْ تخرج من عزلتها أو تقترب من النمط الحديث حيث الانفتاح والعولمة والتكنولوجيا. يجد الباحثون أنفسهم أمام خيارين اثنين متناقضين: هل يحقّ لنا اختراق عزلة تلك القبائل وإخضاعه رسميًّا لحماية الحكومات أم يجب تركهم على سجيّتهم دون أيّ تدخل حكوميّ أو شخصي؟
يدعو الكثيرون لضرورة ترك القبائل البدائية لتقرّر طبيعة حياتها والطريقة التي ترغب بالتواصل مع الآخرين من خلالها لوحدها
لا أحد يستطيع حسم الإجابة. فمن جهة، يرى البعض أنّ الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه، وأنّ العزلة ليست فطرية لدينا بل تحدث نتيجة العديد من الظروف الخارجية. وبالتالي، يدعو هذا الرأي إلى ضرورة الاحتكاك بالجماعات البدائية ووضعها تحت حماية الحكومات التي تسنّ القوانين وفقًا لما تراه هي لا وفقًا لما يراه أفراد تلك القبائل. ومن جهةٍ ثانية، يدعو آخرون إلى ترك تلك القبائل لتقرّر معيشتها وطبيعة حياتها والطريقة التي ترغب بالتواصل مع الآخرين من خلالها لوحدها، فلربّما كانت العزلة قرارهم واختيارهم الذي يسعون إليه، وليس جهلهم بوجود عالمٍ خارجيّ حديث هو ما حتّم عليهم تلك العزلة.
ما يعني أنّه من الواجب على السياح الذين يفكرون في زيارة القبائل البدايئة النظر بعناية في الآثار المحتملة قبل اتخاذ قرار بالقيام بالرحلة. والحل الواضح لهذا هو السماح للمجتمعات الأصلية بأن تقرر بنفسها ما إذا كانت ستدعو الغرباء إلى حياتها وكيف ومتى، الأمر الذي قد يحدث بالتعاون مع الحكومات والمؤسسات السياحية المسؤولة في المنطقة.
بالمحصلة، قد تعود السياحة فعليًا بالنفع سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي أو الاقتصادي للدول، لكنها في الوقت ذاته تعمل بشكلٍ بطيء على خلق العديد من العواقب الاجتماعية والنفسية سواء على المجتمعات الفقيرة أو القبائل البدائية أو حتى حيوانات الحياة البرية التي نتخذ منها مشهدًا يُرضي رغباتنا ودوافعنا بالاكتشاف والسفر وعيش المغامرات المتميّزة والنادرة.