نسمع كثيرًا عن الرضاعة الطبيعية. ولعلّ كلّ أم لها تجربتها المختلفة والخاصة حولها، لكنّ الموضوع في النهاية يحمل الكثير من التشابهات والتقاطعات عند جميع النساء ومعظمهنّ، لا سيّما وأنّه أصبح في العقود الأخيرة جزءًا من العديد من الحملات الطبية والإعلامية والحكومية التي تدعو إلى الرضاعة الطبيعية وتؤكّد عليها وعلى أهمّيتها.
وقد دعت منظمة الصحة العالمية في أحد تقاريرها إلى التأكيد على أنّ حليب الأمّ هو الأكثر صحّة للأطفال، داعيةً الدول إلى السعي بجهدٍ واهتمامٍ كثيفين للحدّ من تسويق بدائل حليب الأم وأي منتجات صناعية أخرى لحليب الأطفال. والتقرير شأنه شأن الكثير مثله يركّز بشكلٍ أساسيّ على صحة الطفل وتطوّره ونموّه، دون ذكرٍ لتأثير الرضاعة الطبيعية على صحة الأم، الجسدية والنفسية.
فوائد لا تعود فقط على الطفل، وإنما الأم أيضًا
ببحثٍ سريع في مواقع الإنترنت أو محرّك البحث جوجل، ستعرف بشكلٍ بسيط أنّ الرضاعة تعمل في تحصين صحة الأمّ والرضيع. فمن جهةٍ، تساهم الرضاعة الطبيعية بإفراز هرمون الأوكسايتوسين الذي يساعد الرحم في العودة إلى حجمه الطبيعيّ بعد الولادة ويقلّل من النزيف الحاصل على إثرها ومن خطر الإصابة بسرطان الثدي والمبيض والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية والعديد من الحالات الصحية الخطيرة الأخرى. ومن جهةٍ ثانية، فهي تزوّد الطفل بما يحتاجه من بروتينات وفيتامينات وأجسام مضادة في فترته الأولى من الحياة. لكن فعليًا هناك أكثر من ذلك بكثير.
وفقًا للدراسات، تقلّل الرضاعة الطبيعية من خطر إصابة المرأة باكتئاب ما بعد الولادة وتساعد في تقليل الإجهاد والحرمان من النوم
تساعد الرضاعة الطبيعية على تعزيز الصحة والرفاهية النفسية للأمّ. وتعمل بدورها على شعورها بالتمكين والثقة بالنفس والشفاء من صدمة الولادة أو الاكتئاب الذي قد يحدث بعدها. إذ يُعتقد أنّ الجسم يفرز العديد من الهرمونات خلال الرضاعة الطبيعية تساعد في تقليل آثار الإجهاد والتوتّر والحرمان من النوم وغيرها من التغييرات الضاغطة التي تتعرّض لها المرأة بعد الولادة مباشرةً.
وقد وجدت العديد من الدراسات أنّها تقلّل بالفعل من خطر إصابة المرأة باكتئاب ما بعد الولادة. فيما وجدت الدراسات الحديثة أيضًا أنّ الأمّهات اللواتي يرضعن أطفالهنّ بشكلٍ طبيعيّ تمامًا يحصلن على قسطٍ من النوم أفضل وأكثر من نظيراتهنّ ممّن يخلطن ما بين الرضاعة الطبيعية والصناعية أو اللواتي يعتمدن فقط على الصناعية منها.
الحقيقة المجهولة.. الرضاعة الطبيعية ليست سهلة
في الآونة الأخيرة، مال الكثيرون للتعامل مع الرضاعة الطبيعية كخيارٍ يمكن للمرأة اتّباعه أو لا، وذلك حسب رغبتها أو نمط حياتها أو طبيعة عملها أو حتى قناعاتها المختلفة. وقد تحوّل النقاش بالفعل إلى خطاب حقوقيّ يناقش حقّ المرأة في إرضاع طفلها رضاعةً طبيعية وحقّها في رفض ذلك، مدعومًا بالكثير من التضليلات الإعلامية والخطابات الحقوقية.
تصوير الرضاعة الطبيعية بالسهلة يزيد من الضغط على الأم وقد يؤدي إلى اكتئابها ولومها لنفسها في حال عجزها عن الإرضاع
لنتّفق بالبداية أنّ الرضاعة الطبيعية قبل كلّ شيء هي تطوّر بيولوجي وفسيولوجيّ أساسيّ يحدث بمجرّد بدء غدد الثدي بإفراز الحليب بعد الولادة، وهي عملية فطرية مشتركة بين إناث الاٍنسان وباقي الثدييات. وتأكيدنا على طبيعتها البيولوجية لا يعني بتاتًا ادّعاء سهولتها أو إمكانية توفيرها بشكلٍ دائم. لكنّ الكثير من الوظائف الفسيولوجية والطبيعية عند الإنسان يمكن تطويرها من خلال التوجيه والتعلّم والدعم، وهذا تمامًا ما يجب أنْ تكون عليه الرضاعة الطبيعية.
يخلق الترويج والتشديد على أهمية الرضاعة الطبيعية في الإعلام والمجالات الطبية والأحاديث المجتمعية مشكلةً تصوّر الأمر وكأنه سهل وغريزيّ يحدث بشكلٍ آليّ بمجرّد الولادة، تمامًا كما تصوّر الثدي وكأنه العلاج المثالي والحل الأروع لجميع العلل النفسية للأمّ والطفل. يشكّل هذا الحديث ضغطًا آخر على المرأة المرضعة خوفًا من فشلها أو عدم قدرتها على إرضاع طفلها.
وصف الرضاعة الطبيعية بالعملية السهلة هو ظلم للجهد الذي تقوم به المرأة عند إرضاعها لطفلها واستسخافٌ بمئاتٍ من الساعات التي تقضيها النساء في الإرضاع
وبكلماتٍ أخرى، من المضلّل بعض الشيء إخبار الأمهات بأنّ الرضاعة الطبيعية أمرٌ مهمّ لصحتها وصحة الطفل وحسب، وتصوير الأمر على أنه سهل الحدوث، بل تمتد بعض الأصوات إلى أبعد من ذلك مطالبةً الأمّ بحبّ هذه الفعالية والشعور بشكلٍ جيد حيالها. يناقش مقالٌ في موقع “ذا كونفرسيشن” بأنّ وصف الرضاعة الطبيعية بالعملية السهلة هو ظلم للجهد الذي تقوم به المرأة عند إرضاعها لطفلها واستسخافٌ بمئاتٍ من الساعات التي تقضيها النساء في الإرضاع، والتحديات التي قد يتغلبن عليها والتضحيات التي قد يقدّمونها لأنهنّ يعتقدنَ أن الأمر يستحق ذلك.
تؤكّد على ذلك دراسة نُشرت عام 2016 وشملت أكثر من 1000 امرأة. فقد أجمعت النساء على أهمية الرضاعة الطبيعية، لكنهنّ في الوقت نفسه أكدن على اعتقادهنّ بضرورة تغيير الرسائل الحالية الموجّهة لهنّ بخصوص الموضوع، تلك التي تصوّر الرضاعة بأسلوبٍ سهل خالٍ من العقبات والتحديات.
تعمل تلك الحملات والدعايات، بتصويرها لرومانسية الأمومة والرضاعة الطبيعية، على خلق ضغطٍ إضافيّ عند الأمّهات اللواتي يواجهنَ صعوبةً في إرضاع أطفالهنّ رضاعةً طبيعية، إذ يعتقدن أنّهن يقمن بذلك بطريقة خاطئة أو أنهن بعدم مقدرتهنَ هذه سيلحقن الضرر بالأطفال أو أنهنّ لن يستطعنَ تقديم أمومة جيدة لهم. عندها ينتهي الأمر معهنّ بالاكتئاب، ويبدأن بإلقاء اللوم على أنفسهنّ لا سيّما وأنّنا نتحدث عن فترةٍ حرجة تكون فيها الأم غير مستقرة وبحاجة لدعمٍ كبير بعد تجربة الولادة.