يشهد العراق تحديات متفاقمة في قطاع الثروة السمكية، نتيجة عوامل التغير المناخي وشحّ المياه وتدهور البنية التحتية، ما أثّر سلبًا على الأمن الغذائي والاقتصاد المحلي.
وعلى الرغم من توفر العديد من المسطحات المائية مثل الأنهار والبحيرات والأهوار في العراق، والتي تعد بيئة مثالية لتنمية الثروة السمكية، إلا أن القطاع يعاني من إهمال شديد، أدى إلى انخفاض الإنتاج وعدم استغلال الإمكانات البيئية المتاحة بالشكل الذي يساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني أو ضمان الأمن الغذائي.
إهمال يهدد الاستمرارية
يواجه قطاع الأسماك في العراق تحديات كبيرة أثرت بشكل مباشر على إنتاجيته واستدامته، مما انعكس سلبًا على السوق المحلية، في ظل غياب استراتيجيات شاملة لدعم هذا القطاع الحيوي وإعادته إلى مسار التنمية المستدامة.
يقول الخبير في شؤون المياه والزراعة، عادل المختار، إن قطاع الأسماك يُعد من أكبر القطاعات الزراعية في العراق، وينقسم إلى 4 مجالات رئيسية: البحيرات والأقفاص الصناعية، والمسطحات المائية، والمياه الإقليمية في منطقة الفاو، والصيد في أعالي البحار، وجميع هذه المجالات تعاني من الإهمال.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، يشير المختار إلى أن الدول التي تطل على البحر تعتمد على الأسماك كمصدر غذائي رئيسي، بينما يعاني العراق، رغم إمكانياته، من نقص في الأساطيل المؤهلة للصيد، مما أدى إلى إهمال هذا القطاع. كما يلفت إلى أن هناك فرصة قد تم تجاهلها قبل 8 سنوات لتطوير هذا القطاع من خلال تعاون مع شركتين، إحداهما إسبانية، إلا أن العراق رفض ذلك بحجة نقص الخبرات.
ويُشير المختار إلى أن منطقة الفاو تعاني من تدهور كبير، حيث يوجد نحو 1500 زورق مهمل، تعصف به عوامل الصدأ وتغرق بسبب الإهمال المستمر، وهذا الوضع يرتبط بعدم تفعيل اتفاقية صيد الأسماك التي تم توقيعها في عام 2007 من قبل البرلمان، والتي لم يتم العمل بها حتى الآن.
كما يلفت المختار إلى أن قطاع تربية الأسماك في العراق تعرض للإهمال تحت ذريعة نقص المياه، رغم أن هذا العام شهد خزينًا مائيًا كبيرًا بلغ أكثر من 21 مليار متر مكعب، وهو ما كان يمكن استغلاله لتطوير أساليب التربية أو لتوسيع القطاع.
المياه شحيحة والتخطيط غائب
تدهور الثروة السمكية في العراق هو نتيجة مباشرة لعدة عوامل مترابطة، أبرزها شح الموارد المائية، وردم آلاف البحيرات الصناعية التي كانت تشكّل قاعدة أساسية لتربية الأسماك، بالإضافة إلى التغيرات المناخية وغياب التخطيط المستدام والتلوث البيئي، مما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الاستيراد، وسط خسائر اقتصادية كبيرة تضغط على الاقتصاد الوطني.
وقدّرت بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) في تقرير سابق، خسائر الثروة السمكية في العراق بأكثر من 400 مليون دولار، مشدّدة على ضرورة وضع حدّ عاجل للتدهور البيئي والمناخي في البلاد.
ولم تقتصر الخسائر على الجانب المالي فقط، بل امتدت لتشمل ارتفاع تكاليف الاستيراد لتلبية احتياجات السوق المحلية، إضافة إلى فقدان العديد من فرص العمل في قطاع تربية الأسماك، ما يزيد من الضغوط على الاقتصاد المحلي الذي يعاني أصلًا من تحديات متعددة.
أحد العوامل التي ساهمت في تدهور القطاع السمكي هي حملات ردم أكثر من 10 آلاف بحيرة خلال عامين، بهدف تقليص استهلاك المياه في ظل أزمة المياه المتزايدة
ويقول الخبير الاقتصادي أحمد عيد، إن الثروة السمكية في العراق واجهت تحديات كبيرة نتيجة لعدة عوامل منها متعلق بالمسألة البيئية، وأخرى مرتبطة بالجوانب الاقتصادية وضعف الإدارة في تعزيز هذا القطاع الاقتصادي المهم.
ويبيّن عيد في حديثه لـ”نون بوست”، أن نقص المياه يعدّ من أبرز هذه العوامل البيئية التي فاقمت تدهور قطاع الثروة السمكية في العراق، بسبب تقليص الحصص المائية من الدول المجاورة للعراق، وهذا النقص انعكس على تربية الأسماك في الأنهار والبحيرات، فضلًا عن الجفاف المستمر في مناطق الأهوار الجنوبية على التنوع البيولوجي للأسماك، ما ساهم في نفوق أعداد كبيرة منها.
ويضيف أنّ من الأسباب الأخرى التي أسهمت في تدهور القطاع السمكي هي حملات ردم البحيرات، التي هدفت إلى الحد من استهلاك المياه في سياق أزمات المياه المتزايدة، حيث تم ردم أكثر من 10 آلاف بحيرة بحدود عامَين، ما أسفر عن تراجع الإنتاج المحلي بشكل ملحوظ.
ويشير عيد إلى وجود قصور في استراتيجيات الحكومة العراقية للتعامل مع أزمة المياه وآثارها السلبية على قطاع الثروة السمكية، مما يزيد من تعقيد الوضع ويزيد من التحديات التي يواجهها هذا القطاع الحيوي.
محاولات تجاوز أزمة المياه
في مواجهة التحديات التي يعاني منها قطاع الثروة السمكية في العراق، يصبح من الضروري تبني حلول مبتكرة ومستدامة لإحياء هذا القطاع الحيوي، وفي هذا السياق يقترح الخبراء إدخال أنظمة الاستزراع السمكي المغلقة التي أثبتت نجاحها في دول إقليمية، إضافة إلى تحسين إدارة الموارد المائية، وتطوير التشريعات الداعمة للمزارعين، وتوفير برامج تدريبية لتعزيز كفاءة الكوادر المحلية.
ويؤكد المختار إلى الأزمة المائية التي يعاني منها العراق تتطلب إعادة تقييم السياسات المائية والزراعية لمواجهة تحديات الجفاف، مع ضرورة إدخال تقنيات حديثة لتطوير طرق تربية الأسماك.
من جانبه، يقترح خبير شؤون المياه والزراعة ضرورة تفعيل الصيد في أعالي البحار عبر التعاقد مع شركات متخصصة، بالإضافة إلى إعادة تفعيل اتفاقية عام 2007 مع دول الجوار للاستفادة من الزوارق الحالية وزيادة إنتاجية الصيد.
بدوره، يبرز عيد أهمية تعزيز التعاون مع دول الجوار لتأمين حصص مائية مستقرة، إلى جانب تحسين إدارة الموارد المائية داخل العراق، كما يوصي باعتماد تقنيات حديثة في تربية الأسماك، مثل استخدام البحيرات المغلقة، وتوفير الأعلاف بأسعار مدعومة بعيدًا عن استغلال التجار وجشعهم.
ويشدد الخبير الاقتصادي على ضرورة أن تتخذ الجهات الحكومية خطوات حاسمة لإبعاد سطوة الميليشيات، ومنعها من فرض الإتاوات على أصحاب الحقول ومزارع تربية الأسماك، لضمان استدامة الإنتاج السمكي على المدى الطويل.
من جانبها، أعلنت وزارة البيئة عن خطط لتطوير وإنتاج الثروة السمكية في العراق، حيث تنوي استخدام أنظمة الاستزراع السمكي المغلقة بالتعاون مع شركة “ساكوا”، وتستهدف الاستفادة من التجارب الناجحة التي طبقتها دول مثل السعودية وإيران والكويت وعمان، والتي حققت نتائج ملموسة باستخدام تقنيات الاستزراع السمكي المغلق.
وأفادت وزارة البيئة أن النظام المغلق للاستزراع المائي يمثل تقنية حديثة تهدف إلى تحسين جودة الإنتاج السمكي، وترشيد استهلاك المياه، وتقليل التلوث البيئي، كما يساهم في تلبية احتياجات السوق المحلية وتعزيز الأمن الغذائي.
إلا أن الخبير المختار انتقد خطة وزارة البيئة لتطوير هذا النظام المغلق، معتبرًا أن هذا التوجه يمثل “تعدّياً على اختصاصات القطاع الزراعي”، وأكد أن الثروة السمكية في العراق هي قطاع ضخم يستحق أن يتحول إلى وزارة مستقلة لمتابعة شؤونه بشكل أكثر فعالية.
ووصف المختار دور المنظمات الدولية في هذا المجال بأنه “ضعيف وغير مؤثر”، حيث تقتصر مساعداتها على منح مالية صغيرة لا تسهم بشكل فعّال في تحسين القطاع، كما لم يتم استقدام خبراء لدراسة التحديات أو تقديم حلول واقعية، ما أدّى إلى استمرار الفشل في أحد أكبر قطاعات وزارة الزراعة.