أعلنت شركة “فيس بوك” عن حظرها لنشر أي مواد تتضمن “تمجيدا ودعما وتمثيلا للتعصب القومي للبيض والنزعات الانفصالية” على منصاتها بدءًا من الأسبوع المقبل، متعهدة بتعزيز قدرتها على تمييز ومنع المواد التي تبثها الجماعات الإرهابية ومعاملة المنشورات القومية بنفس الطريقة.
يأتي هذا القرار في وقت يواجه عملاق التكنولوجيا الأميركي انتقادات حادة من العديد من جماعات الحقوق المدنية التي قالت إن الشركة فشلت في مواجهة المد القوي للتطرف القومي للبيض، وذلك على ضوء عرض منفذ مذبحة مسجدي نيوزيلندا لجريمته من خلال بث حي على منصتها لمدة 17 دقيقة كاملة.
تأخر “فيس بوك” في حذف فيديو المذبحة فضلا عن التباطؤ في إزالة المقاطع والمنشورات التي تؤيد الجريمة من قبل بعض القوميين في أوروبا دفع إلى موجة ضغوط كبيرة تعرض لها مسئولو المنصة، ليس من قبل جماعات حقوقية فحسب، بل من قبل سياسيين ومسئولين على رأسهم رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، ووزير الداخلية البريطاني، ساجد جاويد.
قرار الشبكة الزرقاء حظر منشورات التعصب للبيض بعد 13 يومًا من العملية الإرهابية أثار الكثير من التساؤلات حول دوافعه في هذا التوقيت، وتأخره حتى اليوم، ومدى اعتبار ذلك انتصار للأقليات في أوروبا، لكن يبقى السؤال الأكثر أهمية: هل ينجح الفيس بوك في تفعيل هذا الحظر أم لا يعدوا كونه إجراء لامتصاص الغضب؟
الفصل بين القومية والكراهية
في السابق، سمحت المنصة الأكبر في عالم التكنولوجيا ببث بعض المواد التي تضمنت نوعا من التعصب القومي للبيض، مبررة ذلك بأنها لم تكن تراها عنصرية – ومن بينها السمح لمستخدمين بالدعوة إلى تأسيس دول لذوي الاصول العرقية البيضاء فقط، معتبرة أن ذلك – وفق نظرها – كان شكلا مقبولا من أشكال التعبير عن الرأي على غرار “أشياء من أمثال نزعات الفخر لدى الأمريكيين والنزعة الانفصالية لدى سكان إقليم الباسك، والتي تمثل جانبا هاما من هوية الأشخاص”.
لكن وبحسب تدوينة للشركة أمس الأربعاء فإنه وبعد ثلاثة أشهر من التشاور مع “أعضاء من المجتمع المدني والأكاديميين”، توصلت إلى أنه لا يمكن الفصل بين الدعوات القومية المتعصبة للبيض وجماعات الكراهية المنظمة، وهو ما كان السبب وراء اتخاذ هذه الخطوة.
موجة من الانتقادات تعرضت لها الشركة في أعقاب مذبحة نيوزيلندا، حيث دعا العديد من قادة العالم شركات وسائل التواصل الاجتماعي إلى تحمل المزيد من المسؤولية عن المواد المتطرفة التي تُنشر على منصاتها
وفي المقابل لم تنكر فيس بوك بمسئوليتها فيما حدث، إذ أقرت بأن مقطع فيديو بالهجوم، الذي راح ضحيته 50 شخصا، حظي بأكثر من أربعة آلاف مشاهدة قبل حذفه، مضيفة أنه في غضون 24 ساعة حظرت 1.2 مليون نسخة إبان تحميلها كما حذفت 300 ألف نسخة أخرى.
تلك المسئولية حملت بعض الجمعيات إلى مقاضاة منصات التواصل الاجتماعي التي بثت عليها مقاطع المذبحة، حيث رفعت جماعة تمثل المسلمين الفرنسيين دعوة قضائية ضد كلا من شركة فيسبوك وموقع يوتيوب لسماحهما ببث لقطات من الهجوم، فيما اتخذت شركات تقنية أخرى خطوات على صعيد تضييق الخناق على مشاركة الفيديو. وحظر موقع ريديت للتواصل الاجتماعي منتدىً للنقاش على منصته بعد تداول لقطات من الهجوم على صفحة المنتدى، بينما قالت شركة فالف لتطوير ألعاب الفيديو إنها حذفت أكثر من 100 “إشادة” سجلها مستخدمون ينشدون تخليد ذكرى منفذ الهجوم.
حالة من الجدل أثارها بث مذبحة نيوزيلندا على الفيس بوك مباشرة
ضغوط وانتقادات حادة
موجة من الانتقادات تعرضت لها الشركة في أعقاب مذبحة نيوزيلندا، حيث دعا العديد من قادة العالم شركات وسائل التواصل الاجتماعي إلى تحمل المزيد من المسؤولية عن المواد المتطرفة التي تُنشر على منصاتها، فيما طالبت أردرن بمحاسبة كافة المتورطين في بث مثل هذه المنشوات، منها فيس بوك التي كانت الناشر للجريمة.
وفي هذا الشأن، اتهمت وسيندا كريتون، وهي كبيرة المستشارين في مشروع مكافحة التطرف، وهي منظمة سياسية دولية مقرها نيويورك، مواقع فيس بوك وتويتر ويوتيوب بـ “التقصير.، مضيفة أنه “في الوقت الذي تؤكد فيه كل من شركة غوغل ويوتيوب وفيس بوك وتوتير، أنهم يتعاونون ويتخذون اللازم من الإجراءات، بما يحقق مصلحة المواطنين لحذف الفيديوهات ذات المحتويات العنيفة، فإنهم في الواقع لا يفعلون ذلك، لأنهم ببساطة يسمحون لمثل هذه المقاطع من الفيديو، بالظهور طوال الوقت”، متسائلة “هل هذا نابع من قلة الحيلة أم التقاعس المُتعمّد؟”
فيما حذر وزير الداخلية البريطاني ساجد جاويد من خطورة الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في ترويج المحتوى الإرهابي، داعيا إياها إلى «تنظيف منصاتها» من المحتويات التي تحرض على العنف والإرهاب والكراهية، وإلا فستتخذ (بريطانيا) إجراءات قانونية ضدها”.
بعض التجارب الأخرى في طور الإنشاء في محاولة للخروج من تحت عباءة احتكار الفيس بوك وتويتر وانستغرام لمنظومة السوشيال ميديا خاصة بعدما ثبت فقدانهم لكثير من الحيادية والموضوعية
وإلى ذلك أكدت رئيسة وزراء نيوزيلندا، أن سلطات بلادها “قامت بكل ما في وسعها لحذف شريط الفيديو من مواقع التواصل الاجتماعي”، مشيرة إلى أن على “هذه المواقع تسهيل مهمة الحذف هذه”،كما أضافت: “أن هذه المشكلة تتعدى حدود نيوزيلندا وهناك أسئلة يجب الإجابة عنها”، فيما اتهمت جريدة “واشنطن بوست” الأمريكية كل هذه المواقع “بأن لها مسؤولية في نشر العنف وإيديولوجية الكراهية”.
أما عن تأخر المنصة في حذف الفيديو وهو الأمر الذي دفع البعض للتشكيك في نوايا القائمين على أمورها، قال سفيان الرامي، المحرر المتخصص في مواقع التواصل الاجتماعي في موقع “فرانس 24″، إنه من الصعب جدا “لموقع فيس بوك أو لأي موقع تواصل آخر، أن يجد حلا نهائيا لمشكلة نشر الفيديوهات العنيفة مثل تلك التي بثها المهاجم الأسترالي”، لكن “ربما يمكن أن يقلص من مدة وجود هذه الفيديوهات العنيفة على الموقع الاجتماعي”.
وأضاف أن “أحد المبادئ التي تميز مواقع التواصل الاجتماعي هو حرية التعبير وإمكانية إشراك الآخرين ومشاركة الفيديوهات”، مضيفا أن “نفس المشكلة تطرح أيضا بالنسبة لموقع توتير، والدليل أن امرأة بثت بشكل مباشر على موقع “بريسكوب” وقائع عملية انتحارها”.
رئيسة وزراء نيوزيلندا تحمل فيس بوك جزءًا من مسئولية الجريمة
رضوخ أم إقرار؟
من الواضح أن القرار جاء استجابة لحملة الانتقادات الواسعة التي تعرض لها الفيس بوك، وإلا فلماذا تأخر كل هذا الوقت، هكذا يرى الكثير من المحللين، ممن يعتقدون أن تلك الخطوة ماكانت لتحدث لولا شعور الشركة بالحرج من جانب والقلق من تشويه صورتها عالميًا من جانب أخر بما ينعكس بشكل أو بأخر على مستقبلها.
ليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها عملاق التكنولوجيا اتهامات فقدان الحيادية والتحيز لفئات بعينها على حساب أخرى، الأمر الذي دفع بعض الدول إلى البحث عن بدائل للهروب من تحت سيطرة المواقع التي وصفت بـ “المسيسة” والتي تتحرك وفق أجندات بعضها يتجاهل أبجديات حقوق الإنسان والعدالة.
وعلى رأس تلك الدول تأتي روسيا، والتي تنبهت لهذا الأمر مبكرًا جدًا، ففي عام 2006 أنشأ الدب الروسي موقع VK.com أو فكونتاكتي الشبيه لحد كبير لـ “فيس بوك”، وهو عبارة عن شبكة إجتماعية روسية تدعم الكثير من لغات العالم من بينها اللغة العربية، وهو موقع سريع التصفح بشكل مذهل.
بعض التجارب الأخرى في طور الإنشاء في محاولة للخروج من تحت عباءة احتكار الفيس بوك وتويتر وانستغرام لمنظومة السوشيال ميديا خاصة بعدما ثبت فقدانهم لكثير من الحيادية والموضوعية فيما يتم عرضه أو ما تتبناه من استراتيجيات تسمح لبعض الفئات بنشر أفكارها ومقترحاتها فيما تغلق الباب أمام آخرين.
اتفاق بين إدارة فيس بوك وتل أبيب على خدمة المصالح الصهيونية
ازدواجية في المعايير
تعاني المنصة الزرقاء من حالة من الإزدواجية في المعايير فيما يتعلق بما ينشر وما يحظر نشره، في ظل قائمة من المبررات غير مقبول كثير منها منطقيًا، ولعل الأشهر القليلة الماضية كشفت ذلك بشكل كبير، هذا بخلاف ما واجهته إدارة فيس بوك من اتهامات أخرى، أهمها: تسريب بيانات العملاء ، ونشر التمييز حول العالم، والتحيز السياسي في أمريكا، ونشر إعلانات وهمية.
هذا بخلاف استغلال بيانات العملاء لأغراض سياسية، حيث وصل عدد المتضررين من اختراق بياناتهم 87 مليون مستخدم تم استخدام المعلومات الخاصة بهم بطريقة غير قانونية مع شركة كامبريدج أناليتيكا البريطانية لصالح حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقت ترشحه للرئاسة، وهو ما دفع مارك زوكربرج الرئيس التنفيذي لـ “فيس بوك”، للمثول أمام لجنة تحقيق مكونة من نواب في الكونجرس.
ولعل فضيحة التسريبات الأخيرة التي منيت بها الشركة بشأن التجسس على المستخدمين، خاصًة العرب وشخصيات فلسطينية لصالح حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك من خلال تسريب معلومات خاصة بهم والاطلاع على “الماسنجر” أو المحادثات الخاصة وتسريب محتوياتها، أكبر دليل على تلك الازدواجية.
في سبتمبر 2016، نجحت دولة الاحتلال في إخضاع عملاق التواصل الاجتماعي إلى رغباتها، وأجبرت الحكومة الإسرائيلية إدارته على إرسال وفد مسئول إليها، للتوقيع على اتفاق، يلبي كل طلبات حكومة تل أبيب، على رأسها وقف المنشورات التي تنتقد الكيان الصهيوني وحظر نشرها تحت مسمى “معاداة السامية”وهو المصطلح الفضفاض الذي تستخدمه فيس بوك لإسكات الأصوات المناوئية للاحتلال.
كشفت وزارة القضاء الإسرائيلية أن إدارة الفيس بوك استجابت عام 2017 لما يقرب من 85% من طلبات إسرائيل، لإزالة وحظر وتقديم بيانات خاصة بالمحتوى الفلسطيني على موقع التواصل الاجتماعي
وبالفعل قامت إدارة المنصة بشطب وإغلاق آلاف الحسابات التي تعود لمؤسسات أو شخصيات فلسطينية، مثل صفحات رسمية لحركة حماس وعدد من قادتها في قطاع غزة، وحتى شبان ينشطون في الدفاع عن القضية الفلسطينية، تزامن ذلك مع شن حملة اعتقالات طالت العديد من الشبان على خلفية آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ما اعتبره رموز المقاومة انحيازا من الموقع العالمي للكيان الصهيوني، وأداة جديدة له في قمع حرية وإرادة الشعب الفلسطيني.
التحيز الواضح من قبل فيس بوك للصهيونية على حساب العرب والمسلمين بات واضحا حتى بشهادة المواقع العبرية ذاتها والأخرى الداعمة لها، حيث أشار موقع “The Intercept” الأمريكي، في تقرير له إلى أن الموقع حرص على استرضاء إسرائيل من خلال العمل مباشرة معها لتحديد المحتوى الذي يجب أن يخضع إلى الرقابة.
وفي الشأن ذاته كشفت وزارة القضاء الإسرائيلية أن إدارة الفيس بوك استجابت عام 2017 لما يقرب من 85% من طلبات إسرائيل، لإزالة وحظر وتقديم بيانات خاصة بالمحتوى الفلسطيني على موقع التواصل الاجتماعي، وهو ما ينسف فكرة الحيادية من جذورها حتى وإن سبح بها زوكربرج والعاملين معه ليل نهار.