ساهم تعاقب الحضارات على مختلف المناطق التونسية خلال ثلاثة آلاف سنة في إثراء المخزون التراثي وتنوّعه، فكان له دور حيويّ في التنمية من خلال التعريف بأبرز مكونات هذه الحضارات، وإقبال الملايين من السيّاح من كل بقاع العالم للتعرّف على تاريخ تونس وتراثها المتنوّع.
وساهمت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في تثمين هذا التراث غير المادي، من ذلك أنها قامت بإدراج “فخّار سجْنان” (خزف سجْنان) في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لهذه المنظمة العالمية.
ونظمت وزارة الثقافة التونسية، قبل أسبوع، معرضًا للفخار اليدويّ، تحت عنوان “فخّار سجْنانْ.. فخرنا.. من المحلية إلى العالمية”، بمدينة الثقافة.
(سجْ)، (نانْ): اختلاف حول الجذور التاريخية
سجْنان، هي إحدى المدن التونسية، في محافظة بنزرْت، أقصى الشمال التونسي، وعلى بعد نحو 100 كيلومتر شمال العاصمة تونس. وسجنان، تلك المدينة الجبلية الهادئة، المطلّة على البحر، يجلب جمال مناخها، وشاطئها، وبساطة أهلها، آلاف السيّاح، وخاصة في فصل الصيف، يزورونها للتمتع بجمال غابتها، وسحر شواطئها.
واختلف الباحثون حول الجذور التاريخية لهذه المدينة العريقة، فهناك من اعتبر أنّ اسمها ذو أصول عربية، فهو يتكوّن من كلمتين، (سجْ)، و(نانْ)، أما الجزء الأول، فيعني “الحجر البركاني من العصور الجيولوجية الأولى، تؤكده المغارات الحجرية التي تعتبر من معالم هذه المدينة، وتسمى (الحوانيت)، وهي أقرب إلى المقابر الرومانية”، أما (نانْ)، فهو “الخبز الذي ينضج على نار هادئة على من الطين”.
تمّ رسميًا، إدراج ملف عنصر المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجْنان في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو
ويرى شقّ ثان، أنّ اسم “سجْنان” يعود إلى أوصول تاريخية أمازيغية، خاصة وأنّها ما تزال تحتفظ ببعض الشواهد الأمازيغية.
من المحلية إلى العالمية
أكدت وزارة الثقافة التونسية، في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أنه تمّ، رسميًا، إدراج ملف عنصر المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجْنان في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو. وأفادت، في بيان لها، أنّ “عنصر فخار سجْنان هو أول ملف تتقدم به تونس ويسجل بعد مرور 20 سنة من غياب التسجيل لدى اليونسكو”، وأضافت أنّ “هذا التسجيل يمثل خطوة مهمة نحو إعادة الاعتبار للشأن الإبداعي الحرفي، وتثمين إسهاماته في عملية إثراء المشهد الثقافي الوطني، وإخراج فخّار سجنان من نطاق المحلية إلى العالمية، نظرًا لما يحمله هذا العنصر من معاجم زخرفية وخصائص تاريخية وفنية واجتماعية واقتصادية متميزة”.
وشدّد رئيس جمعية المحافظة على البيئة بسجنان منجي البجاوي، على أنّ “لفخار نساء سجنان، خصوصيات عديدة تميّزه عن المنتوجات الخزفية في عديد الجهات التونسية الأخرى، فهو يدويّ الصنع، ومرتبط بالمرأة الريفية، على عكس الفخار الذي يعتمد على آلة الخراطة، كما هو موجود في مناطق نابل والمكنين وجربة، التي تشتهر هي الأخرى بصناعة الخزف”.
إعداد الطين
وأكد البجاوي في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، أنّ “فخار نساء سجنان يتميز أيضًا بنوعية الطين المستخدم، فهو غنيّ بالكلس، بالإضافة إلى الزينة، وهي في أغلبها نقوش بربرية، ورسومات، وأشكال تعبّر عن نمط حياة أهالي سجنان والقرى المجاورة لها، وهي أشكال فنية ذات بعد إنسانيّ”.
وأشار إلى أنها “تعبّر بعفوية عن التّوق إلى الحرية، وذلك يظهر بالخصوص من خلال الأشكال والألوان التي تزيّن المصنوعات الخزفية” .
لفخّار نساء سجنان، خصوصيات عديدة تميّزه عن المنتوجات الخزفية في الجهات التونسية الأخرى، فهو يدويّ الصنع، ومرتبط بالمرأة الريفية
وأوضح كذلك أنّ “فخار سجنان بنوعية الطّين المستخدم وبالألوان، والزينة، وهي في أغلبها أشكال فنية ذات بعد إنساني، ونقوش ذات أصول بربرية، أمّا الرّسوم التي تحملها تلك الأعمال الإبداعية فهي تصوّر في الغالب نمط حياة الأهالي وتعتمد على مواد محلية، في معظمها بيولوجية، أي أنّها لا تعتمد على المواد المصنّعة”.
وحول انتشار صناعة الخزف بسجْنان، قال رئيس جمعية المحافظة على البيئة: “يصل عدد الحرفيات المشتغلات في قطاع الفخار اليدوي بسجْنان إلى نحو 380 حرفية، تمثّل هذه الحرفة اليدوية مصدر رزقهن الوحيد للإنفاق على أسرهنّ”.
إبداع من رحم المعاناة
تعيش نساء سجنان، المبدعات، اللاتي يتمهنّ صناعة الخزف من الطين الطبيعيّ، عناءً كبيرًا، فهنّ ينهضن مبكّرات، ويتوجّهن إلى الجبال القريبة لجمع كميات من الطين، ثم يعدن إلى مخابرهنّ (بيوتهنّ)، لإعداد الطين قبل تحويله إلى أواني للطبخ والزينة على غرار المزهريات والتماثيل المختلفة، عبر تمليس وتزويق الفخار. وتصنع نساء سجنان من الطين، بفضل أناملهنّ المبدعة، مصدرًا للرزق.
فخار سجنان بنوعية الطّين المستخدم وبالألوان، والزينة، وهي في أغلبها أشكال فنية ذات بعد إنساني، ونقوش ذات أصول بربرية.
وبالرغم من تخصيص أسبوع ثقافي بمدينة الثقافة لاستضافة حرفيات سجنان بهدف التعريف بمهاراتهن في مجال الصناعة اليدوية للفخار، وكذلك تشريكهنّ في المعارض الوطنية والدولية، وتخصيص ميزانية لمقتنيات الوزارة من الفخار اليدوي لنساء سجنان، إلى جانب إحداث مسلك ثقافي بالمنطقة سيشمل المواقع التراثية والأثرية والمسالك البيئية والسياحية، بهدف الترويج للفخار والمزيد التعريف به، وهو ما جاء على لسان وزير الثقافة محمد زين العابدين، فإنّ الحرفيات عبّرن عن غضبهنّ، مطالبات بـالإسراع بتنفيذ هذه الوعود بهدف تحسين ظروف عملهنّ، خاصة في تخصيص قرية حرفية تمكنّهن من عرض منتوجهنّ للزائرين، حتى يتحوّل فعلًا إلى مصدر رزق قارّ، من خلال التعريف به داخليًا، وعالميًا، فيساهم بالتالي في تنمية الجهة.
نساء سجنان والفخار اليدويّ
أعدّ المعهد الوطني للتراث دراسة من خلال “الجرد الوطنيّ للتّراث الثقافيّ اللّامادّي”، اعتبر فيه أنّ “الفخار اليدوي، يشكّل على النحو الذي يمارس في منطقة سجنان، حيث الاعتماد على أسلوب القولبة، تقليدًا شائعًا في مختلف أنحاء البلاد، ذلك أنّه يعدّ مهارة متوراثة، ملتصقة بجملة الأنشطة التي تتعاطاها المرأة التقليدية بالوسط الريفي”.
وأوضحت الدراسة أنّ “ممارسة الفخّار اليدوي بسجْنان يعتبر تقليدًا اجتماعيًّا، يكاد يكون معمّمًا على جميع النساء، وإن اختلفت درجة الإتقان وكثافة النشاط”.
ويتوفّر الطين بكثرة في سجنان، وهو ما يسهّل على النساء توفيره، وبعد عملية تجفيف الطين بأشعة الشمس، وتنقيته، يوضع في إناء كبير، أو في حفرة، في ركن من أركان المنزل، ويخلط بالماء حتى يلين، ويضاف له مسحوق من الفخار بغاية التماسك، حتى يصمد خلال عملية الحرق.
وبتحوّل عجينة الطين إلى درجة الليّن، تبدأ “الملّاسة” (الحرفية) عملها، وقد افترشت الأرض، و”جعلت من قاعدة معدة من الطّين و روث البقر تسمى “غلاق“، حيث يتمّ استئصال قطعة أولى من عجين الطين لتوضع فوقها، فتسطّح لتشكّل قعر القطعة المزمع صنعها. ثمّ توضع لفافات الطين على امتداد محيط القطعة الواحدة فوق الأخرى. وهكذا ترتفع الجوانب تدريجيًّا بعد أن تكون قد التحمت ببعضها البعض عبر صقلها بقطعة من خشب تسمّى “مشّاطة”. كما يقولب بطن القطعة ليأخذ شكله النهائيّ، لتنتهي هذه المرحلة بتركيب العرى والأنابيب، حسب نوعية الآنية المراد صنعها”.
وتتمّ عملية تجفيف الأواني المصنوعة بوضعها تحت أشعّة الشمس، ثم تقوم “الملّاسة” بطلائها بمحلول من الصلصال الذي يخرجها في شكل ناعم، وأملس، وأنيق.
العملية النهائية تتمثل في “الحمي”، أي حرق الأواني، باستعمال نار مشتعلة باستخدام الحطب الذي يتوفر في الغابات القريبة، أو اعتمادًا على روث البقر.
ممارسة الفخّار اليدوي بسجْنان يعتبر تقليدًا اجتماعيًّا، يكاد يكون معمّمًا على جميع النساء، وإن اختلفت درجة الإتقان وكثافة النشاط
إثر ذلك تمرّ “الملّاسة” إلى “مرحلة الزخرفة باستخدام اللون الأسود المستخلص من مسحوق ورق شجرة الذّرو، لتضاف إلى اللون الأحمر المستخرج من المغرّة التي هي عبارة عن محلول من الطين الأحمر الذي عادة ما يثبّت قبل الحرق. وعند الانتهاء من رسم الأشكال الزخرفية ذات الطبيعة الهندسية في هذه المرحلة، تحال القطعة من جديد للحرق، لكن لوقت قصير، و فوق درجة حرارة أقلّ، وبذلك يثبّت ماء الذّرو على الطين، ويتحوّل لونه من الأخضر إلى الأسود البرّاق”.
القرية الحرفية وصعوبة الترويج
تجد الحرفيات لفخار سجنان صعوبة كبيرة في عملية ترويج منتوجهنّ، حتى أنّ بعضهنّ يتسمّرن على جنبات الشوارع الرئيسية لساعات طويلة بحثًا عن الزبائن الذين يرغبون في اقتناء منتوجات الفخّار الذي يثمّن في الذاكرة الشعبية التونسية نظرًا لقيمته الصحية عند استعماله سواء في حفظ الغذاء أو استهلاكه أفضل من الأواني المصنوعة من البلاستيك، والتي تخلّف، بعد طول استعمالها أمراضًا عديدة.
هذه الصعوبة وغيرها، عبّرت عنها حرفيات سجنان لــ”نون بوست” خلال معرض للفخار اليدويّ لنساء سجنان الذي نظمته وزارة الثقافة، من الثاني إلى الثامن من شهر مارس الجاري، تحت شعار “فخّار سجْنان.. فخرنا.. من المحلية إلى العالمية”، بمدينة الثقافة.
إبداع الحرفيات
وأكدت الحرفية فاطمة أنها وبقية زميلاتها، يبذلن مجهودًا كبيرًا، ويشقين من أجل توفير الطين من الجبل، ثم لا يكتمل الصورة النهائية لمختلف المنتوجات إلا بعد المرور بعديد المراحل المرهقة، ولذلك فهنّ يتعاونّ فيما بينهنّ، ويعمل مجموعات، حتى يتقاسمن العمل، وينجزن أعمالهنّ في أبهى صورة يمكن أن تجلب الزائر، والذي يقبل على شراء الأواني الفخارية التي تستعمل كأواني للطبخ، وكذلك للزينة في المنزل.
وطالبت جنّات بضرورة الإسراع ببعث قرية حرفية، وهي عبارة عن سوق يومي خاص بالخزف، تعرض فيه الحرفيات منتوجاتهنّ أمام الجميع، وخاصة الزائر لمدينة سجنان، التي تستقبل أعدادًا كبيرة خاصة خلال فصل الصيف، مشدّدة في حديثها لــ”نون بوست” على أهمية الترويج، فقالت: “ما الفائدة من العمل اليومي وإنتاج الأواني الفخارية الخاصة بالمطبخ وأنواع من التحف الجميلة، إذا لم يسرع المسئولون بإيجاد المسالك الترويجية لها داخل تونس وخارجها”.
أما منيرة فقد أكدت أنّ حرفيات فخّار سجْنان هنّ من النساء، ولا هدف لهنّ سوى مساعدة عائلاتهنّ على إيجاد مصادر للدخل، وبالتالي إعانة أزواجهنّ على مصاريف البيت وتربية الأولاد، مشيرة إلى أنّ أغلب هؤلاء النسوة ينحدرن من عائلات ضعيفة ومتوسطة الدخل، وهو ما يجعل من حرفتهنّ، هذه، تخضع لدوافع اجتماعية، تقف الحاجة وراءها، أكثر من البحث عن التألق والإبداع والشهرة”.
وتحوي المتاحف التونسية، وخاصة متحف باردو، في العاصمة التونسية، أنواعًا من الفخار، تبرز تطوّره عبر الزمن
ويؤكد المعهد الوطني للتراث على أنّ فخار سجنان أصبح يثير انتباه الرجال، ولم يعد مقتصرًا على النساء فقط، حيث يساعد الرجل الحرفية (الملّاسة) في جلب الطين والمشاركة في بعض المراحل التي تمرّ بها عملية صناعة فخار سجنان، إلى جانب تسويق المنتوج والتعريف به. ولا يقتصر الأمر على النساء والرجال، بل يساهم الأطفال في عمليات الصنع والتسويق.
وأكد المهندس محمد زاهر كمون، أنّ تونس عرفت منذ العصور القديمة صناعة الفخار، حيث اشتهر البربر بالفخار اليدويّ المصنوع بطريقة الملاسة الموروثة عن حضارات ما قبل التاريخ مثل الحضارة القبصية.
وقد صنع البربر كلّ ما هو ضروري للحياة اليومية كأواني الطبخ، والطهي، والتخزين. ويعرف الفخار البربري بأنه يحمل زخارف بسيطة، وهو يصنع إلى اليوم، والدليل على ذلك فخار سجْنان.
وتحوي المتاحف التونسية، وخاصة متحف باردو، في العاصمة التونسية، أنواعًا من الفخار، تبرز تطوّره عبر الزمن، إلى جانب متحف رقادة بمدينة القيروان، والذي يجمع الفخار الإسلامي، وكذلك تضمّ زاوية سيدي قاسم الجليزي للتعرف أصنافًا من الفخار والخزف الأندلسي