تتدخّل الكثير من العوامل في تحديد وجهاتك السياحية. فمن جهةٍ هناك التذاكر والمال وجوازات وتأشيرات السفر، ومن جهةٍ ثانية هناك هدف الرحلة وطبيعة الوجهات المقصودة والدوافع الشخصية وراء زيارتها والسفر إليها. لكن في الوقت نفسه، تؤثّر العوامل السياسية، سواء المحلية أو العالمية، على قراراتنا السياحي، وأحيانًا كثيرة يحدث الأمر دون أنْ ندرك ذلك.
بكلماتٍ أخرى، تستخدم الدول والحكومات السياحة كأداةٍ سياسية قد تدعم دولًا وتؤثّر عليها بشكلٍ إيجابيّ، أو قد تكون أداة حرب ناعمة يمكن لها أنْ تعجز دولًا أخرى وتحطّ من استقرارها وتؤثّر عليها بسلبيةٍ كبيرة. وبشكلٍ عام، تُعتبر السياحة صناعة هشة إلى حدٍ ما، فهي معرضة لجميع أنواع التأثيرات الداخلية والخارجية المختلفة، بما في ذلك الكوارث الطبيعية أو القضايا السياسية على سبيل المثال.
في السنوات الأخيرة، قد رأينا العديد من الأمثلة حيث تسبّب المناخ السياسي السلبي أو الرسائل السياسية المثيرة للجدل في انخفاض عدد السياح. فقد يتذكّر الكثيرون الأزمة التركية-الروسية التي حدثت عام 2015 وأسقط خلالها الجيش التركيّ المقاتلة الروسية “سوخوي 24” على الحدود التركية السورية. وقتها، لم تكن روسيا مضطرة لاتخاذ الاحتياطات أو الاستراتيجيات العسكرية ضدّ تركيا، كان يكفي أنْ تلعب في ملعب السياحة الدولية حتى تحقّق نقطةً لصالحها على حساب الأخرى.
تستخدم الدول والحكومات السياحة كأداةٍ سياسية قد تدعم دولًا وتؤثّر عليها بشكلٍ إيجابيّ، أو قد تكون أداة حرب ناعمة يمكن لها أنْ تعجز دولًا أخرى وتحطّ من استقرارها وتؤثّر عليها بسلبيةٍ كبيرة
وهو ما حدث بالفعل، فقد أدى التوتر السياسي بين البلدين إلى خفض أعداد السياح الروس في العام التالي للحادثة بشكل غير مسبوق، إلى نحو 48 ألف سائح روسي فقط، بعد أن كان عددهم في عام 2015 يزيد على 650 ألف سائح. أمّا جهود تركيا في إصلاح الموقف فقد نجحت في آخر شهر أيلول/سبتمبر من العام الذي يلي ذلك، ما يُعتبر متأخرًا جدًا للمساعدة في إنقاذ الموسم السياحي لذلك العام.
أداة قمعية ووسيلة لإعادة سرد الماضي ورسم المستقبل
من جهةٍ أخرى، تنتهج بعض الدول نحو فرض الكثير من القيود على المجال السياحيّ وتقويضه من باب أنّ السياحة قد تعمل على تغيير ثقافتها أو تؤثّر على سياساتها الداخلية أو تغيّر من عقول مواطنيها بجعلهم أكثر انفتاحًا على العالم والآخرين. فكثيرًا ما يخاف السياسيّون من الأفكار الهدّامة والأسئلة التي قد يجلبها المسافرون معهم أو التي قد يلتقطها مواطنوها إنْ هم سافروا للخارج.
فعلى سبيل المثال، بدأت الصين في العشرين عامًا الماضية بدعم السياحة والسماح لشعبها بحرية السفر إلى الخارج، وذلك بعد عقودٍ من العزلة القسرية. وفي أقلّ من عقدين اثنين، تضاعفت سياحة وسفر الصينيّين إلى الخارج، فقد سجّلت الحكومة ما يقارب الـ536 مليون رحلة في عام 1995، فيما وصل العدد إلى مليار رحلة تقريبًا في عام 2012. وفي يومنا هذا، يتم تصنيف الصينيّين كواحدة من أكثر الجنسيات في عدد المسافر على مستوى العالم أجمع وهي ثالث أكثر دولة يقصدها السياح، فيما تعمل الحكومة ورئيسها على التفاوض مع العديد من الدول لتسهيل الحصول على التأشيرات السياحية لشعبها.
فرضت الصين عزلةً قسرية على مواطنيها من خلال القيود السياحية خوفًا من تأثر سياساتها الداخلية وتغيير أفكار الشعب
تلعب السياحة أيضًا دورًا كبيرًا في مساعدة الحكومات لنشر أيديولوجيّاتها والتأكيد عليها والترويج لها عن نطاقٍ واسع، داخليًا كان أم خارجيًّا. يظهر ذلك جليًّا في تركيزها على المتاحف الوطنية والتاريخية والترويج لها كمزاراتٍ ومقاصد سياحية يسعى السيّاح لزيارتها والتعرّف عليها وعلى ما فيها.
تعمل الحكومات هنا على خلقِ سردية محدّدة من خلال المتاحف الوطنية السياحية والتي تعمل بدورها على خلق ذاكرة جَمعية حيّة تربط الماضي بالحاضر وترسّخ الهوية والوعي الوطنيّ في الدولة والمجتمع بشكلٍ لا واعٍ. بحيث تصبح محتويات المتحف أو سرديّته وما يقدّمه جزءًا من الرواية التاريخية التي تهتمّ الدولة بأنْ يعرفها السيّاح والزائرون، سواء كانوا محليّين أم عالميّين.
ووفقًا لهذا، يمكننا فهم الأهمية الكبيرة التي تلعبها التحف والأشياء والهدايا السياحية التي تعرضها الدول للسياح؛ فهي تعمل على إضفاء الأولوية على بعض الجوانب والقصص المحددة دون غيرها. ومع الوقت، تصبح تلك القصص قصصًا رسمية وراسخة بحيث تطغى على القصص الأخرى وتمحو وجودها أو تضعفه تمامًا كما يتمّ التركيز على معلم سياحيّ دون غيره في نفس المكان.
استغلال المأساة والموت للترويج السياحيّ
تمامًا كفكرة المتاحف، تعمل الحكومات أيضًا على التركيز بالمواقع التي ارتبطت تاريخيًا أو في وقتٍ سابق بالموت والمآسي الإنسانية والترويج لها كوجهاتٍ سياحية أساسية ومركزية في الدولة، مثل معسكرات الهولوكوست والمعتقلات النازية في دول شرق أوروبا، ومتحف الإبادة الجماعية في رواندا التي راح ضحيّتها أكثر من نصف مليون شخص عام 1994.
تستغل السياسة في بعض الأحيان مواقع الأحداث المأساوية والدموية المُظلمة والترويج لها كأماكن سياحية
يُعرف هذا النوع من السياحة باسم السياحة المُظلمة أو سياحة المأساة. ويعتقد الخبراء أنّها لا تهدف فقط إلى استشعار الحزن والمأساة والمعاناة بقدر ما تهدف أساسًا إلى تعريف الناس بالمواقع المظلمة إنسانيًا حتى يمكنه الاعتبار والتعرّف على بشاعة وخطورة الشر الكامن في الإنسان وما يرافقه من انحطاط في القيم الإنسانية والأخلاق البشرية وتذكّره بالقيم الحضارية وحقوق الإنسان بغض النظر عن أصله أو انتمائه أو تفكيره.
وبالتالي، لا يمكن إنكار تداخل الأهداف بين السياحة والسياسة. فقد تنبّهت العديد من الدول مبكّرًا إلى إمكانية توظيف السياحة لخدمة السياسة أو السياسة لخدمة السياحة. يكفي أنْ تمنع دولة ما رحلات الطيران والوفود السياحية إلى دولة أخرى حتى تؤثّر بشكلٍ مباشر على اقتصادها وتزعزع اقتصادها، لا سيّما إنْ كان الخلاف أو الصراع ما بين دولة قوية وأخرى نامية. ويكفي أنْ يحدث توتّر سياسي في دولةٍ ما حتى تقوم دول أخرى باستخدام السياحة كوسيلة ضغط تحقّق من خلالها مصالحها.