يعود أصل كلمة التدوين إلى “دوّن” ومعناها الكتابة، أيّ تحويل الكلام، والأفكار، والوقائع أو نقل عن الآخرين إلى نص مكتوب يمكن قراءته. نشأ التدوين عند العرب حين بدأوا بتسجيل أهم الحوادث، كما يظهر في التاريخ الطبري قبل الإسلام، وكان للتدوين أشكال عديدة منها الحوليات، أي توثيق الأحوال التي مرّ بها مكان معين.
تعددت أشكال التدوين واختلفت من ثقافة إلى أخرى، فقد دوّن الأوروبيون ثوراتهم، وحقبات حكم ملوكهم، وتقدم العلم والترجمة في بلادهم كما فعل العرب أيضاً على مدار عصور طويلة، وحتى يومنا هذا أخذ التدوين منهجاً جديداً مع دخول الإنترنت إلى حياتنا، فتعددت أساليبه وأصبح منها ما هو على شكل صورة أو فيديو أو تدوين إلكتروني.
الرهبنة والتدوين
في وقت لم يكن فيه المجيدين للقراءة والكتابة يتجاوز العشر أشخاص ضمن المدينة الواحدة، بدء الرهبان والقساوسة المتعلمين والمجيدين لبعض اللغات إضافة إلى لغتهم الأم بتدوين أحوال المدينة، وطريقة المعيشة، والتقلبات المهمة التي تحدث من حولهم لتضاف إلى سجلات المدينة فيما بعد مشكّلةً تاريخاً ولو قصيراً يحفظ للمدينة ذكرياتها، وكان لتدوين الرهبان أثر كبير مازلنا نراه حتى الآن في كتب التاريخ، إذ سجلوا كل ما وقعت عليه أيديهم من معلومات وكل ما رأوا من وقائع، وربما بعض ما لم يروا أيضاً، فقد كان منهم من أخلص للحقيقة ومنهم من التف عليها وحاول فرض رؤيته، إذ لم يكن صعباً جداً حينها، لعدم تواجد جمهور يصحح وينفي أو لانشغال الناس بأمور الحياة وتحصيل لقمة العيش.
من أهم ما ساعد الرهبان على التدوين هو عدم وجود التزامات إجتماعية تأخذ من وقتهم وطاقاتهم، إذ لا يمكن للراهب أن يتزوج أو أن يشكّل أسرة تشغل اهتمامه، فقد انحصر قضاء وقته بين القراءة والكتابة وخدمة الدين والكنيسة، وأيضاً صلاحياتهم في الإطلاع على الكتب والوثائق التاريخية والأحداث من حولهم أكثر من غيرهم من العامة، هذه النفوذ والصلاحيات هي ما وفرت لهم هذه الفرصة وساعدتهم في بنائها.
ما يزال نجم الباحث والراهب سهيل قاشا يلمع حتى الآن إذ يعتبر من أهم الشاهدين على منعطفات وتحولات كبيرة ومهمة في تاريخ مدينة الموصل الديني والاجتماعي
في تاريخنا العربي الكثير من الرهبان الذين كان لهم دور حقيقي فعال في زمنهم وبقيت أثار أعمالهم حتى وقتنا شاهدة وموثقة، فنجد الكثير من الأسماء البارزة كالراهب سهيل قاشا العراقي من بلدة بخديدا شرق مدينة الموصل في العراق، فقد ولد سهيل بن بطرس بن متي قاشا لعائلة سريانية مهتمة بالدراسة والتحصيل العلمي وهذا ما انعكس على شخصيته لاحقاً وأخذ به في طريق طويل إلى أن أصبح كاهن السريان الكاثوليك في مدينة الموصل، ليصبح بعدها عضو في اتحاد المؤرخين العرب.
وشغل أكثر من منصب خلال حياته الأكاديمية، فعمل مدرساً في عدة مدارس في مدينة الموصل لاسيما وقد تخرج من جامعتها، كلية التربية قسم التاريخ، وكان مهتماً بالتدوين والكتابة بشكل كبير منذ شبابه فقد نشر حوالي 20 بحثاً اختلفت مواضيعها بين الفلسفة واللاهوت والتاريخ، وأيضاً كتب عدة مسرحيات في جوانب مختلفة منها في شرح حضارات وشخصيات مثل مسرحية “يوسف الصديق” ومسرحية “السريان تاريخ وحضارة”، حتى وصل عدد مؤلفاته ما يفوق ال77 مؤلف أغلبها يدور حول تاريخ العراق القديم والحوار الإسلامي المسيحي. وما يزال نجم الباحث والراهب سهيل قاشا يلمع حتى الآن إذ يعتبر من أهم الشاهدين على منعطفات وتحولات كبيرة ومهمة في تاريخ مدينة الموصل الديني والاجتماعي.
كيف مارس المتصوفون التدوين عبر التاريخ؟
برز نجم المتصوفين وازدادت أعداد متبعين النهج الصوفي في العالم الإسلامي، وتنوعت مناشئهم وبيئاتهم، وأيضاً اختلاف أهدافهم جنباً إلى كونهم متصوفون ملتزمون يطبقون تعاليم الصوفية، خرج منهم الكثير من المدونين والمسجلين للوقائع التاريخية المهمة والمستكشفين الكبار الذين ما زالت مخطوطاتهم تُستخدم حتى الآن تثري التاريخ العربي في الجغرافية وغيرها، وبفضل التنقل المستمر والترحال الدائم للمتصوفين كان لهم الفرصة لتدوين كل ما رأته أعينهم وكل ما شهدوه من وقائع، أو ما مروا به من مدن وأماكن جغرافية مختلفة، فقد ألفوا كتباً ومخطوطات هي الآن من أهم مصادر الجغرافية التاريخية والاجتماعية، لأن الرحال هنا يستقي المعلومات والحقائق من المشاهد الحيّة، وتصويرها المباشر، مما يجعل قراءتها غنية بالحقائق ومسلية.
اختلفت مسميات المهتمين بالتدوين بين كاتب ورحالة وراو حتى ظهر مصطلح جديد سميّ بـ “أدب الرحلات”، وهو مصطلح واسع انتشر سريعاً ولقي اهتماماً واسعاً بين القراء، إذ أصبح هذا المصطلح تخصص كامل بمبادئه وأشكاله الخاصة، منه رأينا محيي الدين بن عربي الأندلسي، الذي ولد في مرسية بالأندلس سنة 1146م، وهو واحد من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور، نشأ في جو ديني بين أبيه وجدّه الذي كان قاضياً رفيع المستوى في الأندلس.
محيي الدين بن عربي الأندلسي
تعلّم القرآن حتى اشتد ساعده وأصبح ملماً بمعاني اللغة، طاف في الشرق وتنقل كثيراً، ذهب إلى قونيا والقاهرة والموصل ورحل إلى مكة حتى استقر في الشام، لقبه أتباعه ومريدوه من المتصوفين بعدة ألقاب أشهرها “الشيخ الأكبر” و “البحر الزاخر”،كتب عن الفتوحات المكية وعن الفلك تحدث عن الكون حتى كتب رسائل سمّيت باسمه. توفيّ ابن عربي سنة 1240م ودفن في جبل قاسيون في دمشق وترك كتباً شاهدة على ما قدمه للتاريخ الإسلامي،ومخطوطات وأوراق تشرح الفلسفة الصوفية والأحوال الاجتماعية لبلاد الشام والعراق ونهجاً يتبعه الآلاف حول العالم.
حاشية البلاط والتدوين
عرف العالم على مدار العصور وعلى الصعيد السياسي بالأخص أقلاماً كثيرة تكتب وتوثق حياة السلاطين، تترجم أفكارهم وتقدم كتبهم وتمدحهم في السر والعلانية. بعضهم من بقي وفياً لسلطانه بعد تركه للحكم وبعضهم من تراجع سريعاً، وكما هو معروف فإن التاريخ يكتبه المنتصر وليس المهزوم، فقد يحتاج السلطان لتوثيق انتصاراته وكتابة تاريخه ويكون قلمه هو الوسيلة الأولى لتثبيت جذور سلطته في الأرض، فعندما نقرأ لمحمد حسنين هيكل سنرى بوضوح مبادئ الرئيس المصري جمال عبد الناصر وسياسته أثناء حكم مصر عام 1956.
لم يقتصر عمل هيكل على كتابة وتدوين أفكار ومبادئ الرئيس المصري بل إنه عمل بالصحافة والتدوين بجدّ طوال حياته وكان صحفياً دأوباً على الكتابة
إذ كان هيكل أحد أشهر الصحفيين المصريين في القرن العشرين، من الذين ساهموا في صياغة سياسة مصر لوقت طويل منذ فترة الملك فاروق. عاش هيكل حياته يدعم مبادئ عبد الناصر، ويدخل في حوارات طويلة معه إذ ربطتهم علاقة رئيس وصحفي مخلص حتى عينه عام 1970 وزيراً للإرشاد القومي، وقام هيكل بتقديم كتب عبد الناصر وتحريرها وكتب كتاباً كاملاً بعد موت عبد الناصر عن حياته وسجّله مدعماً بالصور والتواريخ. وجود هيكل بجانب بعبد الناصر قد كان له تأثيراً قوياً في الإعلام المصري حينها، ما أدى إلى جذبه اهتمام وقلوب الشعب المصري.
لم يقتصر عمل هيكل على كتابة وتدوين أفكار ومبادئ الرئيس المصري بل إنه عمل بالصحافة والتدوين بجدّ طوال حياته وكان صحفياً دأوباً على الكتابة، دوّن تاريخ مصر المعاصر وشهد على التحولات السياسية الكبيرة في المنطقة، ألّف ما يزيد عن 20 كتاباً في تاريخ وأعلام مصر وقدّم العديد من الكتب المعاصرة لزمانه وما زال لقلمه حتى الآن صدى قويّ في الصحافة العربية لأنه ترك إرثاً كبيراً شاهداً على فترة طويلة من حياة دولة مصر. وهنا نرى أهمية التدوين كنوع مؤثر في بيئته يدعم ويدحض رؤى ويثبت أخرى.
محمد حسين هيكل برفقة الرئيس المصري جمال عبدالناصر
إشراك التدوين في السياسة له فائدة كبيرة أهمها أنه أعطى الفرصة لغير المثقفين والعارفين في الحقل السياسي من عامة الناس و طبقاتها المختلفة فرصة لمعرفة ما يجري حولهم وإطلاعهم على الأجواء السياسية في بلادهم. وأحياناً لعب دور كاشف الستار عن حقائق وخفايا غُيّبت عن الناس لأهداف مختلفة.
التدوين في ظل الحرية المسلوبة
تدوينات السجن أو أدب السجون هو نوع أدبيّ يصف كل ما كتب أثناء سجن الكاتب أو إقصائه، مثل الإقامة الجبرية أو قيد ضدّ إرادته. إذ يمكن أن يكون المكتوب قد حدث قبل السجن أو داخله على شكل يوميات أو خواطر يشرح الكاتب ما يعاني منه داخل السجن من كل تغييرات وحوادث يأخذ بعضها شكلاً تفصيلياً وبعضها الآخر خواطر قصيرة، ويعد أدب السجون هو نوع من أنواع التدوين لأن كاتبه أيضاً شاهد وجزء فعال في الحدث، فقد شهد وعاش ودوّن ما رآه.
كتب الروائي عبد الرحمن منيف روايتيّ “شرق المتوسط” و “الأن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسط أمّا عن النّصوص الأدبية التي عكست تجربة السّجن شعرًا أو نثرًا فهي ليست قليلة
عُرف تدوين السجون وعذاباته منذ القدم عربياً وعالمياً أيضاً، وساعد التدوين في السجن في فضح الكثير من الأنظمة الاستبدادية على مر العصور، وعرّف الناس على خبايا لم يكن يعرف بها العامة أو على الأقل من لم يعش تجربة السجن، فكم من رئيس حُبس بعد انقلاب على حكمه وكم من شاعر سجن لقوله كلمة حق، وهو ما يتجرد في الحقل السياسيّ على وجه الخصوص. فقد كتب الروائي عبد الرحمن منيف روايتيّ “شرق المتوسط” و “الأن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسط أمّا عن النّصوص الأدبية التي عكست تجربة السّجن شعرًا أو نثرًا فهي ليست قليلة، نذكر منها: “روميات أبي فراس الحمادنيّ”، و”علي ابن الجهم” وأمثالهم في الأدب القديم.
“هذا هو هروبي إلى الحرية. وللأسف، بالطبع، لم يكن هروباً حقيقياً، ولكن كنتُ اتمنى لو كان كذلك. كان هذا هو الهروب الوحيد المُتاح من سجن فوتشا بجدرانها العالية وقضبانه الحديدية؛ هروب الروح والفكر”. بهذه الجمل ابتدء علي عزت بيجوفيتش، أول رئيس جمهوري للبوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب، كتاب مذكراته “هروبي إلى الحرية” من داخل السجن حين دخله عام 1983 إلى 1988
ولد بيجوفيتش في مدينة بوسانا كروبا في البوسنة، نشأ ودرس في العاصمة البوسنية سراييفو وتخرج من جامعتها كلية الحقوق وعمل مستشاراً قانونياً لمدة 25 سنة، كان بيجوفيتش مهتماً بالتعرف على دينه عن قرب فأنشأ مع زملاء الدراسة جمعية يناقشون فيها المواضيع الدينية لتتطور فيما بعد وتصبح مؤسسة خيرية ذو تأثير كبير، وحين احتلت النازية الألمانية مملكة يوغسلافيا تحت زعامة قائدها جوزيف بروز تيتو كان بيجوفيتش معارضاً بارزاً وسجن عدة مرات أولها اعتقله الشيوعيون اليوغوسلاف بعد الحرب وحكموا عليه بالسجن ثلاث سنوات عام 1964 والمرة الثانية حوكم هو وعدد من أصدقائه بتهمة نشر مجموعة متنوعة من المبادئ الاسلامية عُدت على أنها جرائم، وتهم أخرى عدة حيث حكم عليه بالسجن أربعة عشر عاماً.
مع تقدم التكنولوجيا وظهور الشبكة العنكبوتية صار للتدوين أشكال كثيرة ومختلفة
وفي عام 1988 عندما تعثر الحكم الشيوعي في البوسنة تم العفو عنه، وأفرج عنه بعد ما يقرب خمس سنوات قضاها في السجن، وكان وضعه الصحي في خطر. دوّن بيجوفيتش أفكاره ومبادئه الإسلامية وشرع في توصيف سمات الإنسانية طارحاً اسئلة فلسفية وكتابات شتى معارضاً أو معضداً أو متجاوزاً، وكان ناشط سياسي وفيلسوف إسلامي كبير في زمانه، وهنا أرانا بيجوفيتش شكلاً جديداً من التدوين حيث يكتب الكاتب أفكاره و يثريها ببراهين وأدلة داعياً القارئ للتفكير والاستنتاج.
فلم يقدم معلومات وتفاصيل سطحية فقط بل طرح مشاكل بلاده والأمة الإسلامية حينها. أعطى التدوين هذا السجين المثقف والناقد فرصةً ليعبر عن مبادئه وخططه تجاه بلاده مما ساعده لاحقاً ليكون رئيساً فارقاً في تاريخ البوسنة والهرسك.
التدوين في العصر الحديث
مع تقدم التكنولوجيا وظهور الشبكة العنكبوتية صار للتدوين أشكال كثيرة ومختلفة، ككتابة بوست في منصة فيس بوك لإبداء رأي أو تعليق على حدث ما وإلحاقه بروابط مختلفة، أو التدوين الشخصي عبر موقع إنستغرام بالصور والنصوص القصيرة مثل كتابة المذكرات الشهرية.
وذهب البعض إلى إنشاء صفحات عامة يشاركون فيها أسفارهم وأماكن زياراتهم مع توصيات للمتابعين حول العالم، أو مدونات في الطبخ ووصفات الطعام الموثقة بالفيديو عبر اليوتيوب وإتاحة التعليق والمحادثة مع الناشر، ويوجد الآن منصات كثيرة تتميز كل منها بشيء مختلف عن الآخر وأصبح لدينا مدونات خاصة تسمح للمدوّن بكتابة ما يريده من مواضيع ومشاركة الرابط مع جمهوره أشهرها منصة (wordpress).
ربما سنشهد ابتعاداً عن استخدام الورقة والقلم في المستقبل القريب ولكن ستبقى فوائد التدوين وأهدافه كما هي حاجة ومتعة بحد ذاتها
هناك سؤال يطرحه المهتمون بالتدوين دائماً وهو: هل تشكل منصات التواصل الاجتماعي خطراً على التدوين ووجوده؟ بالطبع لا، لأن الهدف من التدوين مازال موجوداً بالرغم من الاستخدام المفرط لمنصات التواصل ولكن بطرق اختلفت عن السابق. ربما سنشهد ابتعاداً عن استخدام الورقة والقلم في المستقبل القريب ولكن ستبقى فوائد التدوين وأهدافه كما هي حاجة ومتعة بحد ذاتها.
مرّ التدوين منذ بداية ظهوره حتى الآن بعدة تقلبات وتغيّر قالبه كثيراً بتنوع مريديه، فأخذ أشكالاً كثيرة تشبه المدوّن أحيانا وأخرى تشبه القارئ المستهدف. شهد على التغيّر العمراني والجغرافي وتوثيق التاريخ وشرح بنية المجتمع وأهمها أن قدم لنا صورةً متكاملة عن نمط العيش لمن سبقونا. أعطانا شروحاً وافية ساعدتنا على فهم أنفسنا والبيئة من حولنا. تغير أشكال التدوين وتقلبها لم يكن محض صدفة أو تأثراً أنياً متغيرا بل كان تغيراً جذرياً وهيكلياً في بعض الأحيان. إذ في كل مرة كتب بها مدوّن من خلفية وبيئة مختلفة عن الذي قبله كان يضيف بصمته على شكل التدوين وطريق تطوره.
المدونون والصحفيون والهواة والمستكشفون كل منهم أحضر معه أسلوبه وإضافاته وإحساسه بالواجب مشاركته مع القراء من حوله.