في مدينة إسطنبول التركية، وعلى بُعد أكثر من 6 آلاف و500 كيلومتر عن موطنهم الأصلي، يعمل ثلّة قليلة من أبناء أقلية الروهينغيا المسلمة على إبقاء قضيتهم الإنسانية حية، في ظل أزمة وجود تهدد من تبقّى منهم في إقليم أراكان، وسط محاولات مستمرة لاقتلاعهم وتهجيرهم إلى خارج البلاد، بينما يستمر النزاع المسلح بين جيش ميانمار وجيش أراكان المطالب بالحكم الذاتي.
والروهينغيا أقلية عرقية مسلمة عاش أبناؤها لقرون طويلة في إقليم أراكان في دولة ميانمار الواقعة جنوب شرقي آسيا، ويتحدثون لغة روهينغية خاصة بهم مختلفة تمامًا عن باقي اللغات في أنحاء البلاد.
يقدَّر عدد مسلمي الروهينغيا اليوم بنحو 4 ملايين شخص، موزّعين في أكثر من 50 دولة حول العالم، حيث تحتضن كراتشي في باكستان أكبر جالية منهم، بينما يعيش أكثر من مليون ونصف لاجئ على الحدود البنغالية، إلى جانب قرابة 300 ألف يقيمون في السعودية، وفقًا لجمعية أراكان الإنسانية.
أجرينا حوارًا مع الرئيس التنفيذي لجمعية أراكان الإنسانية سليم الأراكاني، للحديث عن جهود الجمعية في إيصال صوت الروهينغيا، التي توصف بأنها “الأقلية الأكثر اضطهادًا في العالم”.
متى تأسّست جمعية أراكان الإنسانية، وما أبرز أهدافها؟
أسّسنا جمعية أراكان الإنسانية في إسطنبول عام 2015، انطلاقًا من إيماننا العميق بحقنا في الحياة والموطن، وكان هدفنا تسليط الضوء على معاناة الروهينغيا، ورفع الوعي العالمي بقضيتهم، وتقديم الإغاثة الإنسانية للاجئين والمهجرين. كما نركز على تمكين الشباب الروهينغي علميًا ومهنيًا ليصبحوا قادة المستقبل، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للمجتمع الروهينغي، وبناء شراكات دولية لدعم اللاجئين وتحسين أوضاعهم.
في ظل أزمة الوجود التي تواجهها أقلية الروهينغيا، كيف تعملون كأبناء شعب مهجّر يعيش في الشتات على مواجهة هذه التحديات والحفاظ على هويتكم وقضيتكم حية؟
لا شك أن العيش في العالم اليوم أصبح قاسيًا للغاية، حيث يتطلب استعدادات نفسية واجتماعية واقتصادية لمواجهة هذه التحديات، لا سيما أن غالبية هذه الأقلية تعاني من الفقر المدقع وتدني المستوى المعيشي، بالإضافة إلى الوضع القانوني الذي يكرّس حرمان الروهينغيا من المواطنة ومن الحقوق الأساسية الأخرى. ففي إقليم أراكان، يعتبر الروهينغيا فئة غير معترف بها ضمن النظام السياسي، ما يحرمهم من الخدمات الأساسية ويمنعهم من التنقل بين القرى أو مغادرة ولاية أراكان.
أما وضع الروهينغيا القانوني في الدول الأخرى، فإنه يتنوع بشكل كبير: فبعضهم لاجئون يمنعون من العمل أو التملُّك أو التنقل خارج مناطق المخيمات، بينما يعيش آخرون كمشرّدين غير معترف بهم، كما هو الحال في الهند ونيبال ودول أخرى. وهناك من يعيش كأشخاص مقيمين تحت أنظمة العمل والإقامة، مثلما يحدث في دول الخليج وماليزيا. هذه الظروف تخلق أزمة وجود حقيقية وأزمة هوية، حيث يواجهون صعوبة في الحفاظ على كيانهم الاجتماعي والإنساني.
ولمواجهة أزمة الروهينغيا، تتطلب الجهود العمل على إصلاح الوضع القانوني من خلال إدماجهم في أنظمة العمل والإقامة، وتوفير جوازات سفر تمنحهم حقوقهم الأساسية، أو منح الجنسية في الدول المناسبة.
كما أن تعزيز الهوية يعتبر من الأولويات، من خلال حماية اللغة والثقافة والدين عبر برامج تعليمية وتوعوية. في الجمعية، نحن نعمل بجدّ وبالتعاون مع الأفراد لإيصال معاناة شعبنا إلى العالم، من خلال الإعلام والمشاركة الدولية، لضمان استمرار الاهتمام بهذه القضية المنسية.
الروهينغيا وضعهم القانوني معقّد، ما التحديات الرئيسية التي تواجهكم خلال تنفيذ مشاريعكم، وكيف تتعاملون معها؟
التحديات التي نواجهها في تنفيذ مشاريعنا عديدة وتعتمد على الدولة التي نعمل فيها، ولعلّ أبرزها تكمن في عدم وجود مسار قانوني لتقديم المساعدات في بعض المناطق مثل أراكان، إضافة إلى القيود التي تفرضها بعض الدول على استقبال مساعدات خارجية للاجئين، كما هو الحال في نيبال وسريلانكا والهند، حيث لا يتم تقديم مساعدات كافية للاجئين، ما يزيد من صعوبة تنفيذ مشاريعنا الإنسانية.
ومن بين هذه التحديات أيضًا نقص التمويل وتضاؤل حصة المسلمين الروهينغيا من المساعدات الإنسانية على مستوى العالم، خاصة في العالم الإسلامي، الذي ينشغل بعدة قضايا كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، ما يدفع المؤسسات الإنسانية إلى تقليل اهتمامها بقضية الروهينغيا رغم احتياجهم الشديد إلى جميع أنواع المساعدات.
في مناطق أراكان وبنغلاديش تحديدًا، نواجه تحديات كبيرة في الوصول إلى المحتاجين. في أراكان، تعرقل الأوضاع الأمنية الوصول إلى المناطق المتضررة، بينما في بنغلاديش، تمثل وعورة الطرق وبُعد المسافات عقبات رئيسية في نقل المساعدات، ما يصعّب قدرة الجمعية على تنفيذ مشاريعها وتوسيع نطاقها، ما يجعل الاستدامة أمرًا صعبًا.
رغم هذه التحديات، نعمل جاهدين لإيجاد حلول قانونية تمكّننا من تقديم المساعدات للمحتاجين، خاصة اللاجئين. نخصص جزءًا من التبرعات لدعم المجتمع المحلي، ونسعى لإقامة شراكات جديدة مع منظمات دولية لتعزيز قدرتنا على تقديم المساعدة. كما أن لدينا خططًا طويلة الأمد تهدف إلى تحقيق تأثير ملموس ومستدام في حياة اللاجئين. بالإضافة إلى ذلك، نستخدم وسائل الإعلام لزيادة الوعي بالقضية، وضغطنا على الجهات المانحة لدعم جهودنا وتوفير الموارد اللازمة.
رغم قلّة الموارد، فإنكم تركزون على التعليم، ما سبب ذلك؟ وما أبرز المشاريع التي تقدمونها في هذا المجال؟
على مرّ العقود الماضية، حُرم شعبنا الروهينغيا من الحصول على التعليم في أراكان وبنغلاديش ودول اللجوء، ما أدى إلى ضعف واضح في القيادات الأكاديمية والفكرية، وتراجُع في وجود نشطاء مؤهّلين، كما ارتفعت نسبة الأمية بين الأجيال الجديدة، وهو ما يشكّل تحديًا كبيرًا لمستقبلنا.
التعليم يعدّ أداة أساسية لتحرير الشعوب المضطهدة وتحقيق التنمية المستدامة. بالنسبة لنا، كروهينغيا، تتضاعف أهمية التعليم في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها، من اضطهاد وحرمان من الحقوق الأساسية، حيث يُعتبر التعليم خطوة حيوية نحو تحسين أوضاعنا وبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
ورأينا في جمعية أراكان أن التعليم سيظل له دور محوري في تحسين حياة شبابنا على عدة مستويات، من بينها: تحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير مهارات ومعرفة الروهينغيا، ومكافحة الفقر، والحفاظ على هويتنا الثقافية التي تسعى بعض الجهات لطمسها.
ومن أبرز مشاريعنا التعليمية توفير المنح الدراسية باللغات الأجنبية لمراحل التعليم الجامعي والدراسات العليا، حيث نقدم دعمًا شاملًا للطلاب، يشمل الإرشاد الأكاديمي وتلبية جميع احتياجاتهم الدراسية.
كما نعمل على تقديم الدعم المباشر للكتاتيب القرآنية في مدارس أراكان ومخيمات اللاجئين في بنغلاديش والدول الأخرى، لضمان استمرار التعليم الديني والتربوي لأطفالنا في ظل الأوضاع الصعبة التي نعيشها.
التعليم دون اكتساب المهارات العملية يتحول إلى مجرد شهادات جامعية غير مفيدة. كيف تساهمون في تطوير مهارات الشباب الروهينغي في ظل غياب الاهتمام الدولي بقضيتهم؟
من يزور مقر ّجمعيتنا يلاحظ وجود شباب روهينغي أكملوا دراستهم الثانوية أو الجامعية، أو من يواصلون تعليمهم. في البداية، يركز هؤلاء الشباب على قضيتهم الأساسية (قضية الروهينغيا)، وكذلك على تطوير أنفسهم من خلال تعلُّم مهارات جديدة لتحسين حياتهم الشخصية ودعم قضيتهم.
يواصل الطالب الروهينغي دراسته الجامعية في تخصّصه، وأثناء الإجازات يشارك في برامج تدريبية شاملة تنظمها جمعيتنا، تهدف إلى تزويدهم بالمهارات والمعرفة اللازمة لسوق العمل، مثل المهارات العملية في التكنولوجيا، والحرف اليدوية، وريادة الأعمال، ومهارات الحاسب الآلي، والتواصل، والعلاقات العامة، بالإضافة إلى الذكاء الاصطناعي. كما نخطّط لإطلاق منصات تعليمية عن بُعد تتيح للشباب الوصول إلى موارد معرفية، خاصة لأولئك الذين يواجهون تحديات في الحصول على التعليم بسبب قلة الموارد.
وهذه عيّنة من برامجنا:
- مشروع نجوم لإعداد القادة: يركز على تطوير المهارات القيادية لدى الشباب ذوي الشخصيات القيادية.
- برنامج رواحل: تطوير مهارات الطلاب المتميزين في تركيا، واكتشاف ذوي الشخصيات القيادية بينهم من خلال تنظيم دورات ومحاضرات وورش عمل مركزة.
- مشروع سفراء: يهتم بالطلبة المتميزين في أراكان وبلاد اللجوء، ويوفر منح دراسية لهم في تركيا من أجل التحصيل الدراسي في مجالات معيّنة تخدم القضية الروهينغية.
- اللقاءات الموسمية: تقديم أنشطة تعليمية وتطويرية للطلاب الروهينغيين في تركيا خلال إجازة منتصف العام والإجازة الصيفية.
- برنامج التدريب على رأس العمل: تأهيل الشباب عمليًا داخل مقرّ الجمعية لاكتساب وتزويدهم بخبرات عملية تأهّلهم للدخول إلى سوق العمل.
كيف يتم توثيق وحفظ الثقافة والتراث الروهينغي ضمن برامجكم التعليمية في ظل التهجير القسري؟
تعدّ منصة “زيتا” الرقمية واحدة من أبرز مشاريعنا التنموية التي تركز على توثيق التاريخ والتراث الروهنغي، حيث تعتمد المنصة بشكل كامل على مشاركة الطلاب، وتهدف إلى تعزيز الأمل ورفع الروح المعنوية لدى الروهينغيا، بالإضافة إلى رفع الوعي الثقافي ومكافحة الأمية، كما تسعى المنصة إلى تعزيز الانتماء للهوية الروهنغية وتيسير التواصل الفعال بين المجتمعات الروهنغية المنتشرة في مختلف الدول.
كيف تساهمون في إبقاء قضية الروهينغيا حيّة في الساحة الدولية عبر الإعلام؟
بحمد الله، أنشأنا وكالة أنباء متخصصة في أخبار مسلمي أراكان “الروهينغيا” عام 2013، والتي كانت أول وكالة تهتم بهذا الشأن، وقد أسّسها مجموعة من النشطاء، واستمرت حتى عام 2020 قبل أن تتوقف بسبب ظروف قاهرة.
لكننا أعدنا إطلاق الوكالة في عام 2024، وهي تواصل اليوم تقديم الأخبار والتقارير اليومية التي تتابع كل ما يتعلق بمسلمي أراكان في أنحاء العالم، وتساهم في توفير المعلومات اللازمة لوسائل الإعلام حول الأحداث المتعلقة بالروهينغيا، وتقدم تقارير حصرية لوكالات الأنباء، كما تعمل على ربط القنوات الإعلامية بالخبراء للتعليق على التطورات المهمة.
ونعمل حاليًا على تطوير برنامج تدريبي في مجالات الإعلام للطلاب الروهينغيا، ليتمكنوا من المشاركة في الفريق من خلال الرصد والتحرير والنشر وإعداد المحتوى لمنصات التواصل الاجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك، نعمل على المشاركة في المؤتمرات الدولية والندوات لتعريف صانعي القرار بالقضية، ونستفيد من المؤثرين والمنظمات لتوسيع نطاق نشر الرسالة.
ما الذي يمكن أن يقدمه المجتمع الدولي لمساعدتكم في تخفيف معاناة الروهينغيا؟
نستمر في التأكيد على أن المجتمع الدولي مقصّر في حق القضية الروهينغية على كافة الأصعدة، سواء الإنسانية أو الحقوقية أو السياسية، وحتى الدبلوماسية.
يمكن للمجتمع الدولي أن يمارس ضغوطًا سياسية لإيجاد حلول دائمة تضمن حماية حقوق الروهينغيا، وإنهاء المجازر التي ترتكبها قوات ميانمار أو الميليشيات البوذية، فضلًا عن محاسبة المسؤولين عن الجرائم من السلطة العسكرية. كما يجب زيادة حصص اللاجئين من المواد الغذائية، وتحسين الظروف البيئية والمعيشية في مخيمات بنغلاديش.
إضافة إلى ذلك، من الضروري توفير دعم مالي لتمويل المشاريع الإغاثية والتنموية، وتقديم الدعم التعليمي من خلال منح دراسية وبرامج تدريبية للاجئين، مع العمل على ضمان عودة آمنة وكريمة للمهجّرين.
بعد كل هذه الصعوبات، هل لديكم رسالة توجّهونها إلى العالم بشأن معاناة الشعب الروهينغي واحتياجاته؟
قد تكون قضيتنا بعيدة عن دائرة الاهتمام العالمي، لكنها جزء من الوجع الإنساني المشترك، فعلى كل من يؤمن بحق الإنسان في الحياة والكرامة أن يتحمل مسؤولية دعم هذا الشعب الذي يعاني بشكل مستمر، ويواجه خطر الإزالة والاقتلاع من أرضه.
مرّت عقود على مأساتنا دون أي حل أو تقدُّم ملحوظ، ولا نرى أي بوادر لحلّ قريب، لذلك نحن بحاجة إلى التضامن الدولي لدعم استمرار وجودنا والحفاظ على هويتنا، فـ 3 ملايين من البشر تم اقتلاعهم من جذورهم، وتشتّتوا بين الحدود، يعانون من الفقر والجوع، وحرمان التعليم والرعاية الصحية.
إن مأساة الروهينغيا هي إحدى مآسي العصر، ورغم بشاعتها لا يحظى موضوع الإبادة الجماعية والتهجير القسري بالاهتمام الكافي، كما أن معاناة الأطفال الروهينغيا الذين ليس لهم ذنب سوى أنهم وُلدوا في هذه الأقلية الدينية والعرقية، تبقى مهملة.
نوجّه هذه الرسالة للتذكير بحجم معاناتنا، ولحثّ الجميع على التحرك العاجل من أجل المساندة. نحتاج إلى تضامن الشعوب والحكومات والمؤسسات الدولية في دعم قضيتنا.
وفي النهاية، قد تكون كلماتنا عاطفية، لكنها نابعة من واقع مؤلم لا يمكن تجاهله. نحن جميعًا في هذا العالم على أرض واحدة، والإنسانية تقف في صمت أمام معاناة هذا الشعب، فلا تدعوا التاريخ يذكر أن العالم غفل بينما عانى الروهينغيا في صمت. ساعدوهم.