لم يتبق سوى يومين تقريبًا على نتائج الانتخابات المحلية في الجمهورية التركية التي من المفترض أن تحدد رؤساء البلديات لمدة 5 سنوات، ولاستحقاق هذا المنصب يحاول 12 حزبًا من المشاركين في المنافسة الانتخابية إقناع الناخبين بقدرتهم على قيادة المدن التركية ودفعها إلى مرحلة مختلفة وجديدة من التغيرات التي تلائم تطلعاتهم وتوقعاتهم، ولذلك لا تهدأ الإعلانات الانتخابية عن تذكير الشارع التركي بخطط ووعود كل حزب على حدة.
إذ تعكس الحملات الانتخابية مشاريعهم المستقبلية، فمنذ بداية شهر فبراير/شباط، بدأت الأحزاب بالتصريح عن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، على الرغم من أن جوهرها سياسي بحت إلى حد ما، فبحسب التجارب التركية السابقة، لا تعني هذه الانتخابات تحسين قطاع الخدمات في البلاد فقط، وإنما تقيس أيضًا شعبية الأحزاب وتأثيرها سياسيًا وإيدلوجيًا في الوسط التركي، لا سيما في بلدية إسطنبول التي تعتبر بداية الطريق إلى السلطة.
ومع تركيز أنظار العالم على بلدية إسطنبول، أشارت بعض الاستطلاعات الداخلية إلى أن رئاسة بلدية أنقرة ستكون الأصعب على حزب العدالة والتنمية من إسطنبول، ومع ذلك سيكون فوزه في بلدية إسطنبول دفعة قوية ومرحلة تاريخية لأردوغان وحزبه الذي يؤمن بأن إسطنبول هي “الخلاصة” و”مفتاح جميع المدن التركية الأخرى”، ويرى بأن خسارتها تعني خسارة تركيا، مع العلم أن الأهمية الإستراتيجية لإسطنبول لا تنبع من كونها ثقلاً تجاريًا واقتصاديًا في تاريخ البلاد فحسب، وإنما لامتلاكها 18.5% من مجموع الناخبين مع وجود 10 ملايين و560 ألف و963 شخص، بمعنى آخر، هناك واحد من كل 5 ناخبين يعيشون في إسطنبول، وهي نسبة مرتفعة مقارنة مع المدن الكبرى الأخرى.
البرامج الانتخابية والوعود السياسية
ومن أجل الفوز بأكبر عدد ممكن من الأصوات، عقدت الأحزاب تحالفات مختلفة لبناء قواعد جماهيرية واسعة في البلاد، مثل تحالف الشعب الذي يقوده حزب العدالة والتنمية والحركة القومية، وتحالف الأمة الذي يرأسه حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد، وغيرها من التضامنات الشفهية غير الرسمية مثل تأييد أنصار حزب الشعوب الديمقراطي لمرشح حزب المعارضة، الشعب الجمهوري.
ومع وجود 57 مليون و58 ألف و636 ناخبًا محتملًا في صناديق الاقتراع، تكافح الأحزاب في طمأنة المواطن التركي من جميع المشاكل التي قضت مضجعه خلال السنوات الماضية، وعلى هذا الأساس اختلفت لهجة الخطابات السياسية، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن تحالف الشعب ركز على فكرة بقاء تركيا واستمرارها، أما الأحزاب المعارضة فتعمدت استغلال جميع الأزمات الدبلوماسية والاقتصادية التي مرت بها تركيا مؤخرًا لوضع اللوم على الحزب الحاكم والترويج لأنفسهم على أنهم الحل البديل لمستقبل أكثر استقرارًا ووضوحًا.
بكلمات أخرى، اعتمد البيان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية على مبدأ الحفاظ على البيئة والقيمة الإنسانية، فبعد أن قدم أردوغان 74 مرشحًا عن حزبه وزار أكثر من 50 مقاطعة، رفع شعار حملته التي تقول “دعونا نحكم سويةً”، ليؤكد أهمية قرارات ومقترحات الشعب التركي في إدارة مدنه، فحين أعلن أردوغان أنه سيتم تجنب أساليب الدعاية الانتخابية التقليدية التي تسبب تلوثًا مرئيًا وضوضائيًا لكثرة المنشورات والأعلام الحزبية والحافلات التي تنطلق منها الأغاني الدعائية وتجوب في الشوارع، توقع الشعب التركي بيانًا انتخابيًا مختلفًا عن السنوات السابقة.
وبالفعل لخص أردوغان أهداف الحزب المستقبلية كالتالي: “مخططات المدن” و”البنية التحتية والمواصلات” و”التحول العمراني” و”مدن لا مثيل لها” و”المدن الذكية” و”مدن تحترم البيئة” و”الأنشطة الاجتماعية للبلديات” و”العمران الأفقي” و”الإدارة مع الشعب معًا” و”التوفير والشفافية” و”مدن تصنع القيم”، وهي سياسات من شأنها حل الكثير من المشاكل المضرة للبيئة وغير المناسبة للمواطنين في العصر الحاليّ.
وتأتي هذه القرارات والمشاريع على خلفية وعي الحكومة بالتغيرات المستقبلية التي تنتظر العالم، إذ أشار أردوغان خلال خطابه أن 55% من سكان العالم يعيشون حاليًّا في المدن، وسيزيد المعدل إلى 3 أضعاف في المستقبل، وبالتالي لا يمكن انتظار هذه التحولات وعواقبها دون استعداد، وتبعًا لذلك سيتم استغلال التكنولوجيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي في عمليات التخطيط والتشكيل.
اتفق كلاهما على محاربة الإرهاب وحماية الحدود والأمن التركي من العمليات والجماعات المتطرفة الخطيرة، إلا أن الأحزاب المعارضة للحزب الحاكم انتقدت العمليات العسكرية عبر الحدود
وفي المقابل اعتمد حزب المعارضة على وعود ومشاريع تتعلق بتغير ملامح المدن وبنيتها التحتية وشكلها الإداري، فلخصت مشاريع على الشكل التالي: “المدن المتسامحة” و”المدن المنتجة” و”المدن التشاركية” و”المدن السعيدة” و”المدن الذكية والمبتكرة” و”المدن الصديقة للبيئة”، وهي مشاريع تشكل الاهتمام بالجوانب البيئية للمدن والمساحات الخضراء، متوعدةً بتوفير بيئة مناسبة لزيادة مشاركة النساء والأطفال والشباب والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع، بنسبة 32.3%، ما يعني أنه ركز على المساعدة الاجتماعية والاقتصادية للفئات المهمشة نسبيًا في المجتمع التركي.
أما فيما يخص القضايا الخارجية والإقليمية، اختلفت أهداف الأحزاب في بعضها واتفقت في البعض الآخر، إذ اتفق كلاهما على محاربة الإرهاب وحماية الحدود والأمن التركي من العمليات والجماعات المتطرفة الخطيرة، إلا أن الأحزاب المعارضة للحزب الحاكم انتقدت العمليات العسكرية عبر الحدود وتدخلها في شؤون الدول الأخرى، لا سيما أنها لا ترى عناصر PYG تهديدًا للأمن التركي.
كما يختلفان أيضًا فيما يتعلق بقضية اللاجئين وبالأخص السوريين، فلطالما انتقدت الأحزاب المعارضة سياسة الحكومة التركية مع اللاجئين السوريين الذين بلغ عددهم نحو 4 ملايين لاجئ، إذ توعدت الأحزاب المعارضة بإرجاعهم إلى بلادهم وعدم ترك البلاد لهم، وبذلك بات اللجوء السوري ورقة مهمة في الانتخابات التركية على مر السنوات الماضية.
التوقعات العامة.. إسطنبول شبه محسومة وأنقرة الحلقة الأصعب
اختلفت آراء الخبراء ونتائج الاستطلاعات العامة حول نتائج الانتخابات، فبحسب استطلاع نشرته شركة “optimar” في أواخر شهر يناير/كانون الثاني بمدينة إسطنبول، قال 45.9% من المشاركين في الدراسة أنهم سيدلون بأصواتهم لمرشح العدالة والتنمية، بن علي يلدريم، بينما عبر 41.6% منهم عن تأييدهم لمرشح حزب الشعب الجمهوري، إكرام إمام أوغلو. أما بالنسبة إلى مدينة أنقرة، بينت النتائج أن 42% من سيدلون بأصواتهم لمرشح حزب الشعب الجمهوري، منصور يافاش، في المقابل، قال 31.8% من المشاركين أن مرشح حزب العدالة والتنمية، محمد أوزهاسكي، سيكون خيارهم الأول والوحيد، بينما بقي 12.5% من المشاركين مترددين.
ستبقى مدينة إزمير أهم مقالع الحزب المعارض وليس من المتوقع أن يتغير توجه المدينة العلماني، فهي لا تنظر إلى البلديات من منظور خدماتي، وإنما تتعامل مع هذه المسألة، كنوع من الولاء لمؤسس الجمهورية
ما يعني، أن انتصار حزب العدالة والتنمية في العاصمة التجارية شبه محسوم، ولو كان الفارق ضئيل، فالمعركة الحقيقة تتضح في أنقرة التي يُعتقد أنها قد تفتح أحضانها لمرشح حزب المعارضة، وفي كلا الحالتين من المرجح أن يكون تفاوت معدل الأصوات متواضعًا بين الطرفين، وهو إن كان يشير إلى شيء، فهو يعني أن الحزب المعارض اجتهد في الفترة الماضية لظفر بهذا المنصب بعدما غابت رؤيته عن المدن التركية الكبرى.
ومع ذلك، ستبقى مدينة إزمير أهم مقالع الحزب المعارض وليس من المتوقع أن يتغير توجه المدينة العلماني، فهي لا تنظر إلى البلديات من منظور خدماتي، وإنما تتعامل مع هذه المسألة، كنوع من الولاء لمؤسس الجمهورية والإصرار على المبادئ العلمانية في البلاد، وعلى هذا الأساس ليس من المرجح أن نرى تأثير أو تغير في نتائج الأصوات هناك.
وبصرف النظر عن البرامج الانتخابية والوعود السياسية، تبقى هذه الانتخابات المحلية من أهم المحطات التي تمر بها البلاد بعد تحولها للنظام الرئاسي وخوضها تحديات دبلوماسية واقتصادية متتالية خلال السنوات المنصرمة، لكنها من المفترض أن تضمن للشارع التركي سنوات من الاستقرار والأمان المعيشي.