الفايكنج
يشهد التاريخ المعاصر ذروة الرقي والتقدم الحضاري والتنمية المستدامة في البلاد الإسكندنافية شمال الكرة الأرضية، في النرويج والسويد والدنمارك، التي أصبحت حلمًا لكل متعطش للإنسانية والعيش بكرامة، لكن التاريخ – ليس ببعيد – ذاته، روعنا بأبشع المجازر والحروب الإنسانية التي عرفتها تلك المنطقة، راسمًا صورة دموية شيطانية عن سكانها، والسؤال هنا هل أنصف المؤرخون قوم “الفايكنج”؟!
من هم الفايكنج؟
هم شعوب جرمانية نوردية، استوطنوا مناطق شمال أوروبا وتمت تسميتهم “بالنورثمان” أي الشماليين، ويُعتقد أن أصول كلمة “فايكنج” جاءت من كلمة “فيك” أي خليج صغير في لغة المناطق الشمالية، كما أن هذا الاسم من الممكن أن يكون مصدره منطقة من النرويج تُسمى “فيكين” حيث عاش الفايكنج.
يقول بعض المؤرخين إن هؤلاء القوم الذين اشتهروا بركوب البحر والقرصنة لم يطلقوا على أنفسهم اسم “الفايكنج”، ولكن هذا الاسم الذي ارتبط بهم طوال السنين، لم يظهر في كتب التاريخ حتى منتصف عصرهم خلال القرن العاشر الميلادي.
تنقسم جماعات الفايكنج إلى ثلاثة أفرع: السويديين الذين عبروا بحر البلطيق وتوغلوا في روسيا، والنرويجيين الذين اقتطعوا أراضٍ من شرق إنجلترا وأيرلندا، والدانماركيين الذين غزوا جنوب الأندلس وشمال المغرب وجنوب إيطاليا، وهاجموا القسطنطينية
امتدت فترة حكمهم من القرن الثامن وحتى القرن الحادي عشر (793-1066)، وعاشوا بالتحديد في بلاد إسكندينافيا (السويد والنرويج والدنمارك)، واشتهروا بكثرة تجوالهم وسفرهم لمسافات بعيدة، إذ سيطروا على مناطق عديدة من غرب أوروبا وصولاً إلى آسيا الوسطى.
تنقسم جماعات الفايكنج إلى ثلاثة أفرع: السويديين الذين عبروا بحر البلطيق وتوغلوا في روسيا، والنرويجيين الذين اقتطعوا أراضٍ من شرق إنجلترا وأيرلندا، والدانماركيين الذين غزوا جنوب الأندلس وشمال المغرب وجنوب إيطاليا وهاجموا القسطنطينية.
بداية “الفايكنج”.. وحشية المحارب وبراءة الفلاح
لا أحد يُنكر أن الفايكنج اكتسبوا شهرتهم وبدأ عصرهم بمجزرة دموية مأساوية عام 793 عندما أبحر نحو 100 رجل مدجج بالسلاح من قوات الفايكنج – يقول بعض المؤرخين إن قائد هذه الحملة كان راغنار لوثبروك القائد الأسطوري في الأدب النوردي -، إلى جزيرة بها دير “لينديس فارن” في مملكة نورثمبريا شمال شرق إنجلترا.
وجد المحاربون ديرًا فيه رهبان مسالمين ومقتنيات ذهبية وفضية اعتبروها كنوزًا وغنائم بعدما قتلوا ونكلوا بالرهبان بكل فظاعة وصلبوا راهبهم الأكبر، وقد كتب الشاعر والعالم اللاهوتي آلكوين من يورك عن هذه المجزرة التي عاصرها: “لم نر مثيلًا من قبل لهذا الإرهاب في بريطانيا كما نعاني الآن من الوثنيين، لقد سكب الهمجيون دم القديسين حول المذبح، وسحلوا أجساد القديسين في هيكل الرب، مثل الروث في الشوارع”.
حتى ذلك الوقت كان الاعتقاد السائد لدى شعوب الفايكنج أن العالم ينحصر حولهم ولا وجود لعالم وراء البحر، أو قد يكون هناك عالم
توالت الهجمات البربرية والوثنية كما وصفها الرهبان الإنجليز على الساحل الشمالي لإنجلترا بدعوات من شعوب الفايكنج، إذ صورتهم سجلات إنجلترا في القرون الوسطى دائمًا على أنهم “ذئاب مفترسون بين الخراف”، لكن هذه الهجمات كانت تحمل أهدافًا أخرى بعيدة عن التعطش للدماء والحروب كما تم ذكره.
أحد هذه الأسباب كان الزيادة المطردة في السكان التي شهدتها تلك البلاد التي قلت على إثرها الأراضي الزراعية التي كان يعمل بها الفلاحون البسطاء الذين كانوا يشكلون نسبة كبيرة من سكان المنطقة، فضلًا على أن المناخ البارد وطبيعة التربة كانت تقتل المحاصيل وتسبب المجاعات.
حتى ذلك الوقت كان الاعتقاد السائد لدى شعوب الفايكنج أن العالم ينحصر حولهم ولا وجود لعالم وراء البحر، أو قد يكون هناك عالم، فأراد المفكرون والمستكشفون منهم أن يتوسع عالمهم وساعدهم على التجوال في البحار التطور الذي طرأ على صناعة السفن هناك.
الغيرة على الدين كانت سببًا كافيًا بالنسبة لمعظم الفايكنج لقتل كل من هو على غير دينهم ويعبد غير آلهتهم
وبالفعل كان البحر حينذاك هو أسهل وسيلة للاتصال بين الممالك النرويجية والعالم الخارجي، كما كانت عليه في القرن الثامن ميلادي، حيث بدأت الدول الاسكندنافية في بناء السفن الحربية وإرسالها لمداهمة البعثات لبدء عصر الفايكنج.
الغيرة على الدين كانت سببًا كافيًا بالنسبة لمعظم الفايكنج لقتل كل من هو على غير دينهم ويعبد غير آلهتهم، وهذا يبرر تعدد هجماتهم البربرية على الكنائس والأديرة، لكن في المقابل عاش الكثير من أبناء الفايكنج الأوروبية حياةً سلميةً، يزرعون ويتاجرون ويندمجون في القارات الأربعة التي استقروا فيها.
الدين ومعتقداته عند “الفايكنج”
تعتبر ميثولوجيا الفايكنغ من أكثر المعتقدات إثارة عبر العصور، وأثرت على مجالات الفنون والخيال، وكانت مصدر إلهام للعديد من المؤلفين والمنتجين والموسيقيين والرسّامين وغيرها من الفنون، فقد أُنتجت عدة أفلام وكتب تتحدث عنها، كثلاثية “تولكين سيد الخواتم”، وسلسلة قصص مصورة للبطل الخارق “ثور” التي تُصدرها “مارفل كومكس”، كما كُتبت العديد من الأغاني عن هذه الميثولوجيا، وفي مجال الألعاب أيضًا، استوحت العديد من ألعاب الفيديو عوالمها من النوردية مثل لعبة “وورلد أوف ووركرافت” وأيضًا لعبة “إله الحرب”.
كان دينهم قبل المسيحية مشابهًا لدين القبائل الألمانية الأخرى، حيث قدسوا عددًا من الآلهة مثل “أودين” رب الأرباب وإله الحرب والحكمة والموت، الذي أنعم على البشرية بالأبجدية، وزعيم الآلهة النرويجية “ثور” إله الرعد، و”بالدر” إله الضوء، وكذلك الإلهة الجميلة “فرييا” التي كانت تجتاح المعارك لتختار المقاتلين، كذلك إلهة التزلج “سكادي” التي ارتبطت بالانتقام، إضافة إلى نيورد وفريي وأيدون وهيمدال وفريغ ولوكي والعديد من الآلهة الأخرى.
كانت الديانة النوردية تتبع هيكلية وتسلسلًا هرميًا، وتعتمد على عدد من الروايات، لكن لم يكن لهم دين كتابيّ
أما الجنة عند الفايكنج فكانوا يسمونها “فالهالا”، واعتقد محاربو الفايكنغ بأنهم إذا ماتوا بشكل بطولي فإنهم سيدعون للسكن مع أودين في فالهالا في قصره في عالم الآلهة، ويتم الاستعداد مع الآلهة لمواجهة مجموعة كبيرة من العمالقة الأشرار تحت قيادة “لوكي”.
كانت الديانة النوردية تتبع هيكلية وتسلسلًا هرميًا، وتعتمد على عدد من الروايات، لكن لم يكن لهم دين كتابيّ، وكانوا يتناقلون الميثولوجيا شفهيًا، وكذلك لم يمارس الفايكنج تقاليدهم دينية في المعابد، بل مثل السلتيين القدماء، في أماكن مقدسة بالبساتين وضفاف الأنهار، وكان المكتب الكهنوتي واحدًا من أشرف المنازل التي تُكرم بها الملوك، ويمكن للكاهن تقديم القرابين، سواء كانت أشياء أم حيوانات أم بشر.
مجتمع وقانون الفايكنج
كحال المجتمعات في أي مكان وفي عصور مختلفة، كان مجتمع الفايكنغ ينقسم إلى ثلاث طبقات: الطبقة الأولى طبقة النبلاء وهم الملوك والأسياد والأثرياء، والطبقة الثانية الأحرار وهم الزراع والتجار وموظفو الدولة، والطبقة الثالثة والأخيرة هي طبقة العبيد، وهم إما أرقاء بالميلاد أو أسرى حرب.
الرجل هو السيد في العائلة، لكن مع تمتع المرأة بحقوق كثيرة، فيما اعتاد أثرياء الفايكنغ الزواج بأكثر من واحدة، حيث تكاثرت أعدادهم الأمر الذي أدى إلى زيادة ملحوظة في السكان نتج عنها خروج الفايكنغ من بلاد إسكندينافيا إلى العالم الخارجي.
على الرغم من أن الفايكنغ لم يكن لديهم أي قوانين مكتوبة، فإن تأثيرهم على النظام القانوني لا يزال على قيد الحياة حتى اليوم، وخاصة في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية
كان الفايكنج يدفنون موتاهم في سفن اعتقادًا منهم أنها ستأخذهم إلى أرض الأموات، كما دفنوا مع الميت حاجياته بما فيها كلابه وعبيده وجارياته أحيانًا، ويتم حرق السفينة في البحر.
وفيما يتعلق بالقانون، فعلى الرغم من أن الفايكنج لم يكن لديهم أي قوانين مكتوبة، فإن تأثيرهم على النظام القانوني لا يزال على قيد الحياة حتى اليوم، وخاصة في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، لأن كلمة“Law” أي قانون هي كلمة لشعب الفايكنج.
كما كانت لديهم لوائح تتعلق بضبط القوانين في كل منطقة، فقد كانوا ملزمين بحضور اجتماع يُعرف “بالحدث أو المسألة” حيث يتم حل جميع المسائل القانونية، وكان هذا الاجتماع يُعتبر حدثًا كبيرًا في مجتمع الفايكنج، ويمكن أن يستمر لعدة أيام، وتُقام فيه الأسواق والمهرجانات، كما كان يُسمح للنساء بالذهاب إلى هذا الاجتماع لتقديم خدماتهن.
المرأة عند الفايكنج لها احترامها
بينما كانت المرأة تعاني من الظلم في المجتمعات المتقدمة في أوروبا وغيرها في العصور الوسطى، تمتعت النساء في شعب الفايكنج بتقدير وحقوق كثيرة، حيث كان بإمكان الرجال والنساء الحكماء والمتعلمين تولي السلطة أيضًا.
وكان منهنّ حارسات مفاتيح الأملاك والثروة، لا سيما رجالهم في حملاتهم الخارجية، وهذا دليل على أن بعضهن كنّ مدربات على القيادة العسكرية أيضًا، مع وجود وصف للمحاربات الإناث في الميثولوجيا والملاحم والأساطير.
على الرغم من أن بعض نساء الفايكنج كان يتم إجبارهنّ على الزواج في سن الثانية عشر تقريبًا، كان لهنّ الحق في الطلاق أيضًا
كما بدا للنساء أدوار روحانية في مجتمع الفايكنج، بالصوالج المكتشفة في مقابر العديد من النساء، وكانت فريغا، إلهة الزواج والجمال والذهب والموت، من أكثر الشخصيات تبجيلًا، وتظهر بصورة تركب فيها عربة تجرها قطتين بصحبة الخنزير هيلديسفيني.
وعلى الرغم من أن بعض نساء الفايكنج كان يتم إجبارهنّ على الزواج في سن الثانية عشر تقريبًا، كان لهنّ الحق في الطلاق أيضًا، ولكي تتطلق كان عليها أن تحضر شاهدين لإخبارهما عن انفصالها، لعدة أسباب: إما لإساءة المعاملة من الزوج أو كسله عن العمل أو حتى بسبب غزارة شعر صدره.
اقتصاد الفايكنج
عمل معظم الفايكنج بالزراعة وتربية الماشية، كما عمل بعضهم بصيد السمك أو بناء السفن، وبعضهم الآخر بالتجارة، وهؤلاء هم الذين جابوا البحار طلبًا للتجارة.
كان الاقتصاد الأساسي لإسكندنافيا اقتصادًا زراعيًا، فكان الفصل الزراعي القصير كافيًا لتلْبية الحاجة من الحبوب وعلف الماشية والمخزون، ولأن معظمهم سكنوا على طول السواحل، لعب صيد السمك وتجارة البحر دورًا مهمًا في حياتهم، حتى قبل هجمات الفايكنغ اهتمت أسواق أوروبا إلى الجنوب بالسلع الخام القادمة من بحر الشمال والبلطيق، كالفراء والخشب والكهرمان والعبيد (الذين كانوا يجلبون غالبًا من المناطق السلافية).
ازدهرت تجارة الرقيق أو عبيد السُلاف في مجتمع الفايكنج، فكانوا يأخذون الناس من الطبقات الدنيا من الرجال والنساء والأطفال من الجزر الأوروبية التي قاموا بغزوها وبيعهم كعبيد
أنصف المؤرخون الفايكنج باعتبارهم من أمهر بناة السفن ذلك الوقت، إذ إنهم حسنوا من بنائها وشكلها، وبنوا السفن التجارية والبحرية وطوّعوها لتكون صالحة للإبحار في البحار والأنهار معتمدين في ذلك على الأشرعة والرياح.
وكانت لسفنهم شكلها المميز والعظيم، فهي ذات مقدمة مقوسة، كما أنهم عرفوا طرقًا خاصة بهم لمعرفة الاتجاه في البحر، فمثلًا استعانوا بالغربان لمعرفة اتجاه اليابسة، وبـ”حجر الشمس”، وهو حجر يتكون من الكريستال عادةً، ولديه خصائص انكسار الضوء، بحيث يستخدم في معرفة اتجاه الشمس سواء كانت السماء غائمة أم بعد الغروب، وقد تمكن الباحثون من محاكاة عمل الحجر بالفعل.
فيما ازدهرت تجارة الرقيق أو عبيد السُلاف في مجتمع الفايكنج، فكانوا يأخذون الناس من الطبقات الدنيا من الرجال والنساء والأطفال من الجزر الأوروبية التي قاموا بغزوها وبيعهم كعبيد، وكانت تنظم لهم أسواق رقيق هائلة في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط ليتم بيعهم فيها.
لغة الفايكنج.. أصل لغات حديثة
تحدث الفايكنج شكلًا من أشكال اللغة النوردية القديمة، تتكون من ستة عشر حرفًا يتكون من خطوط مستقيمة، وهي لغة أثرت على خلق اللغات الحديثة في السويد والدنمارك والنرويج وأيسلندا، إذ إن اللغة الأيسلندية أقرب لغة إلى اللغة النوردية القديمة، وما زالت موجودة حتى اللحظة.
في عام 911 ميلاديًا شن الفايكنج حملة على باريس انتهت بالفشل، بقيادة زعيمهم “رولو” الذي يُعتقد أنه شقيق الملك راغنار لوثبروك
وهناك مدينة واحدة في السويد ما زالت تتحدث النوردية القديمة تُدعى بلدة “ألفدالن”، وقد تم استخدامها كلغة مكتوبة في تلك المدينة حتى عام 1950، وبسبب هذا ظلت تلك المدينة مقطوعة تقريبًا عن العالم الخارجي حتى وقت قريب، مما مكّن ثقافة الفايكنج من البقاء على قيد الحياة.
حكم الفايكنج لفرنسا وإنجلترا
في عام 911 ميلاديًا شن الفايكنج حملة على باريس انتهت بالفشل، بقيادة زعيمهم “رولو” الذي يُعتقد أنه شقيق الملك راغنار لوثبروك، وفي “معركة شارتر”، انهزم رولو على الرغم من غياب العديد من بارونات فرنسا.
تم عقد معاهدة بينه وبين الملك الفرنسي شارل البسيط، حيث قدم رولو الولاء للملك الذي بدوره قدم له الإقطاعية في شمال فرنسا تدعى منطقة “نورماندي” حيث يقوم حسب المعاهدة بالدفاع عن ضفاف نهر السين، وتزوج من ابنة الملك.
أسرة قائد الفايكنج “رولو لوثبروك” “نورماندي” حكمت في فرنسا من عام (911-1066) ثم أصبحوا ملوك إنجلترا وحكامها من عام (1066-1144) عندما أصبح الغازي “ويليام الثاني” ملك لإنجلترا عام 1066 تحت وصية الملك السابق الملك إدوارد
واعتنق رولو المسيحية ولم يوقف الهجمات كونه مثل رئيس الفايكنغ، فقد قام بشن هجمات على منقطة فلاندرز التي (تقع اليوم تقربيًا كلها في بلجيكا)، واستمر مع الاستيلاء على بيسين في 924، وتزوج أيضًا من “بابو من بايو” التي أنجبت له وليام الأول دوق نورماندي.
وبذلك فإن أسرة قائد الفايكنج “رولو لوثبروك” “نورماندي” حكمت في فرنسا من عام (911-1066) ثم أصبحوا ملوك إنجلترا وحكمها من عام (1066-1144) عندما أصبح الغازي “ويليام الثاني” ملك لإنجلترا عام 1066 تحت وصية الملك السابق الملك إدوارد بعد أن قاد الغزو النورمان لإنجلترا وأطاح بملكها هارولد الثاني وأصبحوا ذريته من بعده ملوكًا لإنجلترا حتى عام 1145 بوفاة حفيدة ويليام الغازي ماتيلدا التي تعتبر أول ملكة حكمت إنجلترا اعتلى ابنها من زوجها جيفري.
قبل كولومبوس.. الفايكنج في أمريكا!
اقترب الفايكنج من أمريكا لأول مرة في خريف عام 986 ميلاديًا عندما وصلها “بجارني هيرجولفسون” القادم بسفينة محملة بالسلع من النرويج لمستعمرة الفايكنج في أيسلندا، ثم أراد التوجه إلى جرينلاند، لكن الضباب استملك الأجواء وأصبحت الرؤية شبه معدومة فتاه المبحرون عن مسارهم.
تقول روايات الفايكنج في ملاحمها إنه من المحتمل أن يكونوا قد أبحروا في الضباب لمدة أسبوعين، وعندما أصبح الجو واضحًا، اكتشفوا أنهم ذهبوا بعيدًا عن الجنوب ووجدوا أنهم أمام ساحل مجهول تملأه الغابات الكبيرة والكثيفة.
بعد نحو 14 عامًا، وطئت أول قدم أوروبية من الفايكنج الأراضي الأمريكية في ربيع العام 1000 ميلادي، بقيادة ليف إريكسون ومعه طاقم مكون من 35 شخصًا
لم تهبط سفينة هيرجولفسون على الأراضي الأمريكية، بل عاد إلى جرينلاند، وأخبر الناس بقصته حتى وبخوه، لعدم استكشافه للأرض الجديدة بشكل أكثر شمولًا، لأنه إذا كانت روايته عن الغابات الكبرى صحيحًا، فقد يكون هذا هو الحل لإحدى المشكلات الكبرى في مستعمرات جرينلاند، وهي “قلة الأخشاب” واختصار وقت نقلها.
بعد نحو 14 عامًا، وطئت أول قدم أوروبية من الفايكنج الأراضي الأمريكية في ربيع العام 1000 ميلاديًا، بقيادة “ليف إريكسون” ومعه طاقم مكون من 35 شخصًا، بعدما بدوره أقنع بارجني ببيع سفينته ووصفه له الطريق كما شاهده.
تحدث إريكسون عن رحلته للدولة التي أطلق عليها اسم “هيلاند” أي “الأرض ذات الألواح الحجرية الكبيرة” ، وهو وصف يطابق ساحل “جزيرة بافين” اليوم، من هنا أبحر جنوبًا إلى الساحل مع الغابات الكبيرة التي رآها بجارني.
والأكثر جدلًا كانت إحدى الجزر القريبة من سواحل كندا التي عرفت باسم “نيوفاوندلاند” التي أطلق عليها اسم “غابة البلد”، وبعدها أراد أن يذهب جنوبًا، إلى المناخ الأكثر دفئًا في البلد الجديد، ووجد ساحلاً به مروج وغابات كبيرة في مكان وصفه بأنه “منخفض ومليء بالكثير من الكثبان الرملية”، وهذا أيضًا يُطابق “جزيرة فينلاند” اليوم.
عام 1960 وجدت بعثات كشوفًا أثرية تدل على وجود بقايا سفن الفايكنج في ثلاثة مواقع أخرى بالقرب من السواحل الشمالية للقارة الأمريكية الشمالية
وقد استعمر إريكسون ومن معه لبضعة شهور قد تكون في “جزيرة لابرادو” قبل عودتهم محملين الأخشاب الكثيرة معهم، وقد ذكر أن نحو أكثر من 15 شخصًا من الفايكنج لقوا مصرعهم في طريق العودة لجرين لاند بسبب ارتطام السفينة بالشعب المرجانية.
عام 1960 وجدت بعثات كشوفًا أثرية تدل على وجود بقايا سفن الفايكنج في ثلاثة مواقع أخرى بالقرب من السواحل الشمالية للقارة الأمريكية الشمالية، أي قبل وصول بعثات الاستكشاف الأوروبية بقيادة “كريستوفر كولومبس” بنحو خمسة قرون.
الفايكنج والمسلمين
شهد التاريخ معارك محدودة بين الفايكنج والمسلمين، لكنها طاحنة، بدأ هجوم الفايكنج على الأندلس عام 844 من الجهة الغربية، بعد أن خرجوا من سواحل إنجلترا في سفنهم الطويلة، ورسوا بها عند مدينة (أشبونة – لشبونة اليوم -)، بـ54 سفينة كبيرة عليها آلاف المقاتلين الأشداء.
كان في المدينة قس صغير يُدعي ألفونسو كان شديد الكراهية للحكم الإسلامي، ساعد الفايكنج في أثناء احتلالهم المدينة، ودلهم على عوراتها وثغراتها، فدخلوا المدينة ونكلوا بها ثم غادروها بعد 13 يومًا، بعد مقاومة قادها عبد الله بن حزم وسكان المدينة.
ما إن قامت معركة تابلادا الحاسمة في قرية طلياطة غربي إشبيلية بقيادة محمد بن رستم فقتل نحو ألف منهم بينهم القائد، وأحرقوا لهم 30 سفينة واتخذوا مئات الأسرى، أعملوا فيهم القتل وراحوا يصلبونهم أمام أعين من بقي من الفايكنج
وكانت الأندلس في ذلك الوقت تحت الحكم الأموي بقيادة عبد الرحمن الأوسط الذي أرسل قواته على عجل لنجدة إشبيلية بقيادة عبد الله بن كليب ومحمد بن رستم واجتمعت جيوش من مدن الأندلس المختلفة للجهاد، وتلقّى النورمانيون أيضًا المدد الجديد ونشبت معارك متعددة تفوقوا فيها على الأندلسيين.
وما إن قامت معركة تابلادا الحاسمة في قرية طلياطة غربي إشبيلية بقيادة محمد بن رستم فقتل نحو ألف منهم بينهم القائد، وأحرقوا لهم 30 سفينة واتخذوا مئات الأسرى، أعملوا فيهم القتل وراحوا يصلبونهم أمام أعين من بقي من الفايكنج، إلى أن تراجعوا نحو السفن الباقية، فتتبّعهم الأندلسيون ليفتدوا أسراهم بما وجوده من سلع، وغادر الفايكنج بعيدًا، فطلبوا الهدنة والصلح مع الأوسط، وعم بينهم السلام.
أما في العصر العباسي، وخاصة تحت حكم الخليفة هارون الرشيد، نشطت الحركة التجارية بين بلاد العرب وشعوب أوروبا ومنهم الفايكنج، الذين عملوا على التجارة بنظام المقايضة مقابل البضائع، كالفراء والعسل والجلود والعاج والأسماك وغيرها، كما حرص العرب المسلمون على الحصول على البضائع الإسكندنافية من الفايكنج مثل القبعات والمعاطف المصنوعة من فرو الثعالب السوداء – وهي واحدة من أغلى الفراء -، وكذلك عبيد السلاف.
كما كانت الفضة في ذلك الوقت ثمينة ومكلفة، فجلب تجار الفايكنج الفضة العباسية بكميات كبيرة إلى الدول الإسكندنافية، وقد تم العثور على آلاف القطع منها في مناطق بحر البلطيق وروسيا، وقد أسفرت عمليات الحفر والتنقيب في كثير من المناطق الإسكندنافية الحديثة، عن العثور على نقود عربية مخبأة، حيث كانت تستخدم النقود العربية كعملة مشتركة في مناطق أيرلندا وشمال إنجلترا من القرن العاشر حتى القرن الثاني عشر.
تعتبر وثائق رحلته واحدة من أهم المراجع في تاريخ الفايكنج ومعرفة عاداتهم وسلوكياتهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية والدينية وحتى وصف أشكالهم، وتجميع التاريخ المبكر لروسيا وشعبها
ومن الوثائق التاريخية الشيقة والنادرة عن علاقة العالم الإسلامي بالفايكنج، ما سجله الرحالة الإسلامي “أحمد ابن فضلان” في رحلته الشهيرة إلى بلاد الفايكنج التي ترجمت لعشرات اللغات، حيث ذهب إلى النرويج بسفارة خاصة من الخليفة العباسي المقتدر بالله يدعوهم فيها إلى الإسلام.
تعتبر وثائق رحلته واحدة من أهم المراجع في تاريخ الفايكنج ومعرفة عاداتهم وسلوكياتهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية والدينية وحتى وصف أشكالهم، وتجميع التاريخ المبكر لروسيا وشعبها.
ومن الجدير ذكره أنه تم العثور على بقايا امرأة من الفايكنج كانت ترتدي خاتمًا من الفضة مطعم بحجر أرجواني نقش عليه بالخط الكوفي كلمة “الله”، وعلى الرغم من أن لباس تلك المرأة في القبر كان لباسًا إسكندنافيًا تقليديًا، فإن تحلل الجثة حال بين العلماء وبين معرفة نوعها العرقي، وهل كانت هدية أو غنيمة حرب، وما إذا كانت معتنقة للدين الإسلامي أم لا.
فيما وجد بعض الباحثون أدلة على أن الفايكنج وصلوا إلى شمال إفريقيا وفلسطين وحتى بغداد، ولكنهم بالطبع لم يستطيعوا احتلال تلك البلاد في الشرق العربي بسبب قوة الإمبراطورية الإسلامية وقتها.
نهاية الحكاية
انتهى عصر الفايكنغ بعد آخر غزوة لهم بقيادة الملك النرويجي “هارالد الثالث”، في معركة “جسر ستامفورد” عام 1066 في إنجلترا التي لقي الهزيمة فيها، كما يعتبر البعض أن عصر الفايكنج في الدول الإسكندنافية انتهى بتأسيس السلطة الحاكمة في هذه الدول وإقرار المسيحية بأنها الديانة السائدة.
بعدما أصبحت الكنيسة الكاثوليكية أكثر بروزًا في أوروبا، تكيف الفايكنج مع هذه الديانة وقواعدها وأنظمة الملوك والمثل العليا الجديدة
ويقدر هذا التاريخ تقريبًا بنهاية القرن الـ11 في الدول الإسكندنافية الثلاثة، وقد تميز نهاية عصر الفايكنج في النرويج بمعركة ستيكلي ستاد عام 1030، وعلى الرغم من خسارة جيش أولاف هارالادسون (الذي عُرف فيما بعد بالقديس أولاف) هذه المعركة، فإن المسيحية انتشرت بعد وفاته جزئيًا بقوة شائعات الآيات الإعجازية، ولم يعد يُسمى النرويجيون بالفايكنج.
فبعدما أصبحت الكنيسة الكاثوليكية أكثر بروزًا في أوروبا، تكيف الفايكنج مع هذه الديانة وقواعدها وأنظمة الملوك والمثل العليا الجديدة، فتركوا الغزوات والحروب وعاشوا في أرضهم، وبقي منهم الآن الدنماركيون والسويديون والنروجيون الآيسلنديون وسكان جريند لاند.
لتنتهي بذلك قصة الفايكنج الذين اشتهروا بوحشيتهم في الحروب التي برعوا في تخطيطاتها، وشهدت فترتهم براعة هندسية وزراعية ونقلة نوعية في مجال الملاحة وصناعة السفن التي تجوب البحار لمسافات بعيدة لنقل البضائع، حاملةً معها الطموح الأول للفلاح الإسكندنافي البسيط في الحياة الكريمة.