خرج الجزائريون للجمعة السادسة على التوالي في مسيرات تطالب برحيل النظام وعدم تمديد ولاية الرئيس بوتفليقة الذي دعاه الجيش للتنحي، إلا أن الأخير لا يزال يصر على عدم الالتفات لهذه الدعوات من خلال ممارسة مهامه التي كانت آخرها تعيين مبعوث عنه للمشاركة في أشغال القمة العربية الجارية حاليًّا في تونس.
وفي الجمعة الأولى بعد رسالة قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح الداعية إلى تطبيق المادة 102 من الدستور القاضية بإعلان المجلس الدستوري شغور منصب رئيس الجمهورية، تمسك الجزائريون بسلمية حراكهم الذي بدأوه في 22 من فبراير الماضي، وأكدوا أنه لا سلطة تعلو فوق سلطة الشعب لحل الأزمة التي تعيشها البلاد.
السيادة للشعب
مثلما كان منتظرًا، كانت مسيرات هذه الجمعة أول اختبار لدعوة قائد أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح بتطبيق المادة 102، حيث تباينت الآراء في الشارع بين مؤيد لها ومشترط أن ترفق بالمادة 7 من الدستور التي تقول: “الشعب مصدر كل سلطة، والسيادة الوطنية ملك للشعب وحده”، ما يعني أن إقرار مرحلة انتقالية سواء بإعلان شغور منصب الرئيس أم باستقالته يكون بالعودة للشعب وحده الذي يملك سلطة رسم مبادئ المرحلة القادمة دون الالتزام بما جاء في المادة 102 التي تنص على استلام رئيس مجلس الأمة منصب الرئيس بالنيابة عقب إعلان حالة الشغور لمنصب الرجل الأول في الدولة.
وفي العاصمة الجزائر، تجمع مئات الآلاف منذ الساعات الأولى لصباح الجمعة وسط المدينة في ساحتي البريد المركزي وموريس أودان وعلى طوال الشوارع المؤدية إليهما أو المتفرعة منهما، مطالبين برحيل النظام، ومستهجنين أي استقواء من نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالخارج.
ورفع المتظاهرون العلم الوطني ورددوا مختلف الأناشيد الوطنية التي تؤكد سيادة الشعب وقوته، هاتفين في الوقت نفسه بشعارات تطالب بـ”التغيير الجذري والشامل للنظام” و”بناء دولة الحق والقانون”، و”تطبيق أحكام الدستور” و”احترام إرادة الشعب” و”محاربة الفساد” و”رفض التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي للبلاد” و”لا للقوى غير الدستورية” و”عدم التضييق على الصحافة”.
ولتزامنها مع ذكرى استشهاد العقيدين سي الحواس وعميروش، رفع المتظاهرون لافتات وصور لهذين الشهيدين وصور أخرى لرموز ثورة التحرير الوطني، مشددين على ضرورة بناء دولة ديمقراطية على أساس بيان أول نوفمبر الذي كان نداء النضال التحرري ضد الاستعمار الفرنسي في 1954، ولأول مرة، عرفت المسيرات بعض الشعارات المناوئة لرئيس الأركان بسبب دعوته لتطبيق المادة 102 من الدستور.
أهم ما ميز حراك 29 من مارس هو التشبث بسلمية المسيرات الشعبية والتأكيد على أن مطالب الجزائريين الذين خرجوا منذ أكثر من شهر للمطالبة برحيل النظام غير قابلة للمساومة أو التجزئة
ومنعت الشرطة في شارع كريم بلقاسم بتلملي المتظاهرين الذين كانوا يرغبون في التوجه للاحتجاج أمام مقر الرئاسة في المرادية بأعالي العاصمة، ونفت المديرية العام للأمن الوطني أن تكون قد أطلقت الشرطة الرصاص المطاطي على المتظاهرين، مثلما نقلت وكالة رويترز، كما أكدت أنها لم تعط أي معلومة عن عدد المشاركين في مسيرة العاصمة، مثلما زعمت الوكالة البريطانية ذاتها، وهو الأمر الذي ارتاح له الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي الذين اعتبروا ما نقلته رويترز تأليبًا وتحويرًا للحقيقة.
ولعل أهم ما ميز حراك 29 من مارس هو التشبث بسلمية المسيرات الشعبية والتأكيد على أن مطالب الجزائريين الذين خرجوا منذ أكثر من شهر للمطالبة برحيل النظام غير قابلة للمساومة أو التجزئة، مبينين أن تطبيق المادة 102 لن يكون دون تفعيل المادة السابعة من الدستور، أو ما أسماه الحراك الشعبي تطبيق #المادة_2019_تتنحاو_قاع (ترحلون جميعًا)، أي الاحتكام لشرعية الواقع لا شرعية الدستور.
أنا هنا
في المقابل، يبدو أن رئيس البلاد عبد العزيز بوتفليقة أو القوى غير الدستورية التي تدير الجزائر باسمه – كما تقول المعارضة وحتى الموالاة اليوم – غير آبهين بما يحدث يوميًا في الشارع الجزائري من تطورات، فالرئيس وفق البرقيات التي توردها وكالة الأنباء الرسمية ما زال يمارس مهامه بشكل طبيعي، وكالعادة دون أن يظهر أو يسمعه الشعب.
وجاء في برقية لوكالة الأنباء الجزائرية أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عين رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح ليمثله خلال أشغال القمة الـ30 لجامعة الدول العربية المزمع تنظيمها يوم الأحد في العاصمة التونسية، حسبما أفاد بيان لرئاسة الجمهورية.
يفهم من مواصلة بوتفليقة القيام بمهامه العادية وفق ما تنقله وكالة الأنباء الحكومية، أنه غير مبال بما يحدث ضده في الشارع الجزائري حتى ولو كان أغلب من كانوا يدعمونه البارحة قد تخلوا عنه وطالبوه بالتنحي، وفي مقدمتهم وزيره الأول السابق أحمد أويحيى
وأوضح البيان أنه “تلبية للدعوة التي تلقاها من رئيس الجمهورية التونسية باجي قايد السبسي عين رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة عبد القادر بن صالحي رئيس مجلس الأمة لتمثيله في القمة الـ30 لجامعة الدول العربية التي ستنعقد في تونس يوم 31 من مارس 2019”.
ويفهم من مواصلة بوتفليقة القيام بمهامه العادية وفق ما تنقله وكالة الأنباء الحكومية، أنه غير مبال بما يحدث ضده في الشارع الجزائري حتى ولو كان أغلب من كانوا يدعمونه البارحة قد تخلوا عنه وطالبوه بالتنحي، وفي مقدمتهم وزيره الأول السابق أحمد أويحيى.
لكن سياسة الهروب للأمام ومحاولة ربح الوقت أصبحت غير مجدية للرئيس الذي يحكم البلاد منذ 1999 ولمحيطه، خاصة بعد فشله حتى في تنفيذ الوعود التي أطلقها لإخماد نار الجزائريين الممتعضين من تشبثه بالسلطة ومن قراراته الأخيرة، فأبسط الإجراءات لم يفلح فيها وهي تشكيل حكومة جديدة، فقد مرت أكثر من 3 أسابيع على الإعلان عنها، ولم يتمكن الوزير الأول نور الدين بدوي من جعل الطاقم الحكومي الجديد يرى النور، بسبب رفض المعارضة والنقابات العمالية المشاركة في المشاورات التي باشرها لتكوين حكومة قد تضمن التمديد لبوتفليقة وتعمل على تجنب خروجه من الباب الضيق.
غموض
ووسط هذا التعنت من الرئيس بوتفليقة ومحيطه، يبقى الغموض يميز ما قد تخبئه الأيام القادمة للجزائريين، فعند النظر للحلول الدستورية يبرز مخرجان الأول يتمثل في تطبيق المادة 102 التي دعا إليها رئيس أركان الجيش، لكن المعارضة والنشطاء يطالبون أن يرافق هذا التطبيق بتفعيل المادة السابعة التي تسقط باقي المحظورات عن الرئيس بالنيابة ومنها السماح له بتشكيل حكومة تصريف أعمال وتعديل قانون الانتخابات بتعيين لجنة مستقلة تشرف على عملية الاقتراع من بدايتها إلى نهايتها، بما يضمن إجراء انتخابات رئاسية في أقرب وقت لاختيار خليفة بوتفليقة الذي سيقع على عاتقه تنفيذ بقية مطالب الجزائريين.
أما المخرج الثاني، فيتمثل في تقديم بوتفليقة استقالته، وقبلها يعين شخصيات ذات إجماع وطني فيما تبقى من الثلث الرئاسي في مجلس الأمة، يُختار واحد منها رئيس لهذا المجلس خلفُا للرئيس الحاليّ عبد القادر بن صالح المرفوض شعبيًا، إضافة إلى تعيين حكومة جديدة ذات شخصيات مستقلة، ويقوم بعدها بالاستقالة ليتم تطبيق المادة 102 أيضًا لكن مع انتخاب هيئة رئاسية تسير البلاد لفترة مؤقتة.
إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، يصر الجزائريون على التمسك بمواصلة سلمية حراكهم إلى أن تبزغ شمس على هذه الأرض لا يكون فيها مكان لبوتفليقة ونظام
ويتداول في الكواليس أسماء الرئيس السابق اليامين زروال ورئيسي الحكومة السابقين أحمد بن بيتور وعبد العزيز بلخادم ليكونوا أعضاء هذه الهيئة، لكن تبقى هذه مجرد حلول ومقترحات لا تحمل صفة الرسمية، في وقت تزداد فيه مخاوف الجزائريين مما ستحمله الأيام القادمة خاصة في ظل توالي أخبار عن تمسك محيط بوتفليقة بالسلطة وقيام شخصيات باستغلال الوضع الحاليّ للقيام بتجاوزات مالية في عدة شركات عمومية وخاصة.
وإلى أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، يصر الجزائريون على التمسك بمواصلة سلمية حراكهم إلى أن تبزغ شمس على هذه الأرض لا يكون فيها مكان لبوتفليقة ونظامه، وتختفي منها رموز النظام التي جعلت بلادًا تتوفر على كل أسباب التقدم والتصنيف في قائمة الدول المتطورة تجد اليوم صعوبة حتى في تسيير احتياجاتها البسيطة في حال انخفض سعر برميل النفط.