هذه التسويات المناطقية تشكل وجهاً من أوجه البرود الذي أصاب الأزمة السورية. فلا يختلف اثنان على أن ما يجري في سوريا لم يعد ملفاً ملحّاً على طاولة المباحثات الدولية. والتعاطف الذي نالته مطالب الشعب السوري بالحرية والكرامة حلّت مكانه لا مبالاة وإهمال. فتراجع الهمّ السوري إلى الصفوف الخلفية، وتصدرت المشهد ملفات أخرى، يعتبرها المجتمع الدولي أكثر إلحاحاً وأهمية، رغم أن معاناة السوريين الإنسانية تمس الملايين داخل سوريا وخارجها، فبات الاهتمام منصباً على معالجة تداعيات ما يجري في سوريا، كالمؤتمر الذي عقده وزراء خارجية دول الجوار في مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن، لبحث تداعيات الأزمة الإنسانية السورية، دون النظر في أسباب الأزمة نفسها.
أحد مؤشرات البرود واللامبالاة يتجلى بالارتياح الذي باتت تتعامل به القوى التي وقفت إلى جانب النظام السوري، وحالت دون سقوطه، فدعمته عسكرياً وسياسياً وحتى اقتصادياً، وهي تشعر بأنها أنجزت مهمتها، ولم يعد الخطر محدقاً بنظام الأسد كما كان عليه الحال قبل أشهر، فالأزمة السورية غابت عن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وانتقل اهتمامه إلى الحدود الغربية، حيث تتحرش بلاده بالولايات المتحدة والغرب من خلال أوكرانيا، ودعم الانفصاليين التابعين لها، أما إيران فتواصل مفاوضاتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول ملفها النووي.
بالانتقال إلى الضفة الأخرى؛ تركيا منهمكة بنزع فتائل الألغام التي يزرعها الداخل والخارج في طريق حكومة رجب طيب أردوغان، مما أسهم بتشتيت الانتباه عن الملف السوري. أما الولايات المتحدة، فالرئيس باراك أوباما لا يعبأ إلا برفع نسبة التأييد له، التي تراجعت إلى مستويات غير مسبوقة.. بينما انحرف اهتمام الدول الغربية نحو النأي بالنفس، ومواجهة الارتدادات السلبية التي قد تنتج عن الأزمة السورية. وعِوض عقد مؤتمرات تبحث سبل تقديم العون للشعب السوري وتخفيف معاناته، دعت تسع دول أوروبية إلى اجتماع في بروكسل، لبحث “مواجهة التطرف الذي يمكن أن يجلبه المقاتلون في سوريا حال عودتهم إلى بلادهم”، والتنسيق بين هذه الدول لم يعد حول كيفية دعم المعارضة لمواجهة بطش النظام، بل حول سُبُل مواجهة خطر مواطنيها العائدين من سوريا.
برود الاهتمام بالملف السوري والارتياح الذي يشعر به النظام انتقلت عدواه إلى الملفات المرتبطة به. فمشاركة حزب الله النظام في القتال لم يعد يشكل مشكلة في لبنان، فالحزب مستمر في هذا التدخل وسط صمت القوى اللبنانية الأخرى التي طالما حذرت وطالبت بوقف هذا التدخل، يأتي هذا الصمت متزامناً مع سقوط الذريعة التي رفع لواءها حزب الله مبرراً هذا التدخل، فهو أقنع جمهوره وحاول إقناع بقية اللبنانيين أن مشاركته في القتال الدائر في سوريا يهدف لحماية لبنان واللبنانيين من خطر “التكفيريين” الرابضين على المناطق المتاخمة للحدود. لكن اليوم، وبعد استعادة النظام بقيادة حزب الله السيطرة على هذه المناطق، لم تعد فزّاعة “التكفيريين” تشكل تهديداً على لبنان، لكن الحزب مستمر بغرقه في الوحول السورية، دون من يرفع الصوت رافضاً لهذا التدخل.
هذا الواقع المرير انعكس ارتياحاً في حركة النظام السوري. فلم يجد الرئيس بشار الأسد غضاضة في تقديم ترشيحه للانتخابات الرئاسية المقبلة أمام الأشهاد. متحدياً زعماء العالم الذين طالما أطنبوا أسماعنا بخطابات تشدد على أن أيام الأسد ونظامه باتت معدودة، وليس من المسموح استمراره، فإذا به يشمّر عن ساعديه استعداداً لتدشين ولاية رئاسية جديدة، بعد الانتهاء من مسرحية الانتخابات بداية الشهر المقبل.
يجري كل ذلك، في الوقت الذي يواصل الشعب السوري في الكثير من المناطق نضاله لنيل حريته وكرامته، فكل يوم يسقط عشرات الضحايا المدنيين جراء البراميل المتفجرة التي ترميها طائرات النظام على المناطق السكنية، ويتواصل تعذيب آلاف السوريين في زنازين النظام الذي يُعلن موتهم فرادى جراء التعذيب والتجويع، ومازال ملايين السوريين مشردين في بقاع الأرض.
ليست المشكلة في أن يتم وأد الثورة السورية وإخمادها، فهي بذلك لن تكون أول ولا آخر ثورة تتم المتاجرة بها والرقص على أجساد شهدائها، فالنماذج أمامنا كثيرة، وما يجري في مصر ليس بعيداً مع اختلاف الظروف. المشكلة بل الكارثة هي أن يتم التعامي عن حقيقة أن الثورة أجهضت، فتستمر معاناة ملايين السوريين التي بدأت قبل ثلاث سنوات، في ظل لامبالاة العالم وإهماله، وربما التآمر عليهم.
يحق للسوريين أن يدركوا أن دماء الطفل حمزة الخطيب لم تزهر حرية. يحق لهم أن يعرفوا أن حنجرة إبراهيم قاشوش التي اقتلعها النظام لأنها صدحت “يلا ارحل يا بشار” لم تجد من يردد صداها.
هي حقيقة مرّة، لكن عدم الإقرار بها أشد مرارة.