فكّر في الأسبوع الماضي لوحده، كم مرة ظهرت أمامك فيديوهات الشيف التركي الشهير حديثاً “بوراك أوزديمير” وهي يطهي كميات ضخمة من اللحوم محشية ومشوية بطريقة تستفز معدة المتخمين قبل الجياع، ماذا عن الأشهر الماضية كلها، كم مرة سمعت التعليق “أوه يس .. Oh Yes” بعد فيديوهات “تيستي Tasty” الفياضة بالشوكولاتة والجبن السائح والمعكرونة الساخنة الهشة والدجاج الذهبي المقرمش؟
لعلك وإن لم يخب الظن واحدٌ من ما يزيد عن 90 مليون متابع لصفحة “Tasty” على فيسبوك، أو من 30 مليون آخرين يتابعونها على إنستجرام، أو لعل واحدة من مليارات المشاهدات التي جنتها المنصة في شهر فبراير المنصرم فقط تعود لك، وإن كانت عن طريق الصدفة. فبغض النظر عن المنصة التي تستعملها أكثر، أو أين تقضي معظم وقتك على الساحة الافتراضية يومياً، فإنك على الأرجح كنت ضحية لما يطلق عليه “إباحية الطعام”، أو الـ”Food Porn”.
مؤخراً، وإذا أخذنا بالحسبان المقاطع الغنائية والمحتوى الإباحي الجنسي، فإن ثالث أكثر أنواع المحتوى البصري شيوعاً على الإنترنت هي فيديوهات الطعام وإعداده، والمصورة بشكل يخاطب الحواس أكثر من كونها تقدم وصفة طهي يمكن للمشاهد أن ينفذها في منزله (على إنستجرام مثلاً لا تكلف منصة Tasty نفسها عناء إضافة المقادير وطريقة الإعداد حتى).
تتبع منصة Tasty لموقع وشبكة Buzzfeed، فالشبكة التي دشنت أول قسم مخصص للطبخ في 2012، قررت بعد 3 أعوام، أي في 2015
السؤال المهم هنا؛ وأمام كل الشعبية التي يلقاها المحتوى المخصص للطعام على الإنترنت، كيف تستطيع وسائل الإعلام الرقمية تحديداً الإقدام خطوة للأمام وتوظيف هذا الباب غير التقليدي في جني الربح والانتشار إلى جمهور أوسع؟ وللإجابة، نقوم في هذه المقالة بطرح تجربتين إعلاميتين رياديتين نجحتا بتوظيف قسم الطعام بطريقة بارعة أدرت عليهما أرباحاً ونسبة نمو ومتابعة غير مسبوقة، هما تجربة منصة Tasty التابعة لشبكة Buzzfeed، ومنصة Cooking التابعة لصحيفة نيويورك تايمز، فبينما تُبرز الأولى نموذج الربح الفوري القائم بجزءٍ جيدٍ منه على منصات السوشال ميديا (فيسبوك، إنستجرام، يوتيوب، تويتر)، تقدم الثانية تجربة أكثر عراقة وعمقاً، وتعتمد في الأساس على الاشتراكات الشهرية المدفوعة.
Tasty..مصيدة الجياع
تتبع منصة Tasty لموقع وشبكة Buzzfeed، فالشبكة التي دشنت أول قسم مخصص للطبخ في 2012، قررت بعد 3 أعوام، أي في 2015، أن تبدأ التجريب بمنصة طعام مستقلة، أطلقت عليها اسم “Tasty” لينتهي بها المطاف بأن تكون أكثر المنصات التابعة للشبكة نجاحاً ورواجاً.
تبلغ “Tasty” من العمر 4 سنوات فقط، لكنها وبمقاييس عدة تنتج اليوم محتوى رقمياً من أكثر أنواع المحتوى مشاهدة على الإنترنت، وفي ذورة إنتاجها في 2017، وقبل سياسات فيسبوك الأخيرة التي أضرت بمعظم الناشرين، كانت المنصة تصل إلى ربع مستخدمي الفيسبوك عالمياً، وإلى نصفهم في الولايات المتحدة. أما بالنسبة للوضع اليوم، فلم يبهت هذا النجاح كثيراً، فوفق موقع شركة “مختبرات توبيولار Tubular Labs”، وهي شركة متخصصة بتعقب الفيديوهات ال رقمية، وصل عدد مشاهدات مقاطع Tasty في شهر فبراير الماضي، وعلى منصة فيسبوك وحدها، إلى ما يزيد عن 1.4 مليار مشاهدة. كما أتى محتواها فبراير الماضي الخامس في قائمة أكثر محتوى مشاهد عالمياً على منصات فيسبوك، تويتر، إنستجرام ويوتيوب مجتمعة.
وتعد Tasty أسرع مصادر الدخل التابعة لشبكة Buzfeed نمواً، وتعتمد في أرباحها بشكل رئيسي على الترويج الدعائي ضمن محتواها (مثل وصفات حلوى تعتمد بالكامل على بسكويت معين) عدا عن الأرباح التي تجنيها من جوجل وفيسبوك وغيرها.
وليست الدعاية أو المشاهدات وسيلة الربح الوحيدة للمنصة، فبالإضافة إلى إصدارها منصات صغيرة تابعة لها مثل “تيستي للأطفال، تيستي نباتي” وغيرها الكثير، عمدت المنصة إلى جني أرباحها بشكل مباشر بعيداً عن وساطة المواقع الكبرى، بإنشائها متجراً إلكترونيا يتبع لها يحمل اسم “متجر تيستي Tasty shop ” باعت من خلاله عشرات آلاف النسخ من نحو 5 كتب طبخ تحتوي وصفاتها، عدا عن موقد طبخ ذكي يحمل ماركتها المسجلة أصدرته في 2016 وأطلقت عليه اسم Tasty One Top، وغيرها الكثير مما تطلق عليه اسم “عدة مطبخ Tasty”.
واحد من كتب الطهي المطبوعة التي أصدرتها Tasty
وبهذا الخصوص، وفي لقاء مع صحيفة نيويورك تايمز في 2017، تطرق المدير العام لـTasty إلى الآفاق الربحية التي فتحتها المنصة أمام شبكة Buzzfeed، متحدثاً عن إمكانية توظيف محتوى رقمي غير ملموس لخلق تجارة كبيرة، مشبهاً الأمر بأفلام ديزني التي صنعت منها الشركات أزياء وألعاب وأثاث وحدائق وملاهي وكل شيء تقريباً، لدرجة أن أفلاماً عمرها عشرات السنين ما تزال تدر أرباحاً حتى اليوم، وهو ما تأمل الشبكة بتوظيفه والانتفاع منه في حالة Tasty.
ويحب المعلنون الاستثمار لدى Tasty من باب أنها تجلب لهم جمهوراً من الفئات العمرية الأصغر، وأنها تقدم لهم بالإضافة إلى ذلك تقارير مفصلة لفعالية الاستثمار لديها والعائدات التي تجلبها للمعلنين عندها. ولم يكن نجاح Tasty بالنسبة لـ Buzzfeed مجرد عائدٍ ماديّ، بل بكونها نموذجاً اقتصادياً وإعلامياً اتبعته وأعادت إنتاجه في منصات فرعية تنتج أنواع محتوى تتراوح بين التجميل، التوعية البيئية والمجتمعية، أدلة سياحية وغذائية، عالم الحيوان والنبات والحرف وغيرها الكثير من ما سجل للشبكة أرقاماً غير مسبوقة من المشاهدات على الإنترنت، ومما يعد أسرع فروعها نمواً في الأرباح.
ليست Tasty لوحدها
وإن كان الحديث عن تجربة Tasty قد تسبب بربط قسم المطبخ بذهنك بالمنصات الإلكترونية ذات المحتوى الخفيف والمبنية أساساً على “صيادة النقرات”، فإنا ندعوك للتفكير مجدداً، فبعد النجاح غير المسبوق الذي سجلته الشبكة، لحقت صحف عريقة مثل نيويورك تايمز ولونس أنجلس تايمز وغيرها بركب Buzzfeed، وأسست لأنفسها منصات مستقلة تماماً للطعام ( لا نتحدث عن قسم مضمن داخل مواقعها الإلكترونية الرئيسية، بل نتحدث عن منصات منفردة).
في غضون عامٍ ونصف، وبعد إطلاق منصة “طهي Cooking” في 2014، حصلت صحيفة نيويورك تايمز على 120 ألف اشتراك مدفوع مقابل 5 دولارات شهرية، غير مشمولة في 15$ أخرى يدفعها مشتركو الصحيفة لبقية الأقسام شهرياً. فإذا كنت مستخدماً مسجلاً في الصحيفة، وتتابع الأقسام السياسية، ورغبت أن تتابع قسم الطبخ، عليك حينها أن تدفع 5$ إضافية، وهذا يعني بحسبة صغيرة، وإذا افترضنا أن عدد الاشتراكات ما يزال ثابتاً منذ 2015، فإن الصحيفة تجني 600 ألف دولار شهرياً من المنصة لوحدها.
وبالتزامن مع إطلاق موقع المنصة الإلكتروني، أصدرت نيويورك تايمز في سبتمبر 2014 تطبيقاً مجانياً احتوى على ما يزيد عن 16 ألف وصفة طهي، راكمتها الصحيفة خلال ما يزيد عن نصف قرن من أعمدة الطبخ بالصحيفة والتي ساهم بها أسماء كبيرة من الطهاة ونقاد الطعام، ما شكل كنزاً ثميناً لمحبي الطعام في الغرب، وبعد 3 سنوات من “استدراج” الناس عبر معداتهم، بدأت الصحيفة بجعل منصتها Cooking مدفوعة بالكامل. وبالإضافة إلى العدد الكبير من المشتركين، وحتى العام الماضي، قالت الصحيفة إن نحو 3 ملايين شخص يشتركون اليوم في القائمة البريدية الخاصة بموقع المنصة.
إن بدت متأخرة قليلاً عن الركب، فإن صحيفة لوس أنجلس تايمز تعيد مطلع أبريل إطلاق منصتها المستقلة للطعام، بعد 7 أعوام على إعادة ضمها في الموقع الرئيسي للصحيفة.
ورغم أن محرري الصحيفة يصرون على نفي أي محاكاة في محتواهم البصري تحديداً لمحتوى Tasty، فإن نيويورك تايمز، استجلبت في 2018 محررين اثنين من منصة Tasty، كي يسهما في صياغة وقولبة محتوى الفيديوهات لديها، ما أدى لوجود شبه كبير فعلاً، يستطيع أي مستخدم أن يلاحظه، شاهد هذا الفيديو على سبيل المثال! ولا تقف المحاكاة أو التقليد (إن جاز التعبير) عند هذا الحد، فالعام الماضي، ومحاكاة لتجربة شبيهة لدى “تيستي” سبقتها بعامين، أصدرت نيويورك تايمز كتاب طبخ يستطيع القراء تخصيصه قبل الشراء ليحتوي على الوصفات التي يفضلونها، كما ذكر تقرير لرويترزأن الصحيفة فعلت أيضاً ما سبقتها له Tasty، وقامت بالتعاون مع شركة Chef’d لإنتاج أدوات طبخ لاستخدامها بوصفات معينة على Cooking، بغرض التسويق لها.
وإن بدت متأخرة قليلاً عن الركب، فإن صحيفة لوس أنجلس تايمز تعيد مطلع أبريل إطلاق منصتها المستقلة للطعام، بعد 7 أعوام على إعادة ضمها في الموقع الرئيسي للصحيفة. “Food” ستقدم محتوى أسبوعياً تنشر فيه كل خميس تغطية مكثفة لكل ما له علاقة بالطعام، بشكل يتجاوز الوصفات فقط.
وفي محاولة لامتصاص صدمة سياسة فيسبوك الأخيرة، وما أحدثته من زعزعة في تقليد نشر المحتوى على السوشال ميديا، يزداد عدد المنصات التي تسعى للالتفاق على القيود الجديدة، وإنشاء تجارتها المضمونة وأرباحها الثابة بعيداً عن أهواء مارك زوكربيرج وفريقه. وإن كانت تجربة تيستي تقدم نموذجاً لمنصة ما تزال ثابتة بقوة رغم سياسة فيسبوك (يعود هذا لأسباب عدة من بينها العدد الضخم جداً أساساً في المتابعين من قبل حدوث التغيير بالسياسات)، فإن نموذج نيويورك تايمز في الدفع مقابل الغذاء يعد إلهاماً للمنصات التي تصارع اليوم كي تستعيد ربع عدد المشاهدات أو الوصول الذي كانت تجنيه سابقاً.
لماذا لا تنتقل التجربة لنا؟
وما دامت سياسة فيسبوك عامة، ولم يسلم منها العرب ولا الغرب، فإن الأولى بالمنصات العربية اليوم أن تبدأ بالتفكير بإيجاد طرقها الخاصة، غير التقليدية، في جني الأرباح، وإن كانت هناك مشكلات طبيعية في فكرة الاشتراكات المدفوعة في العالم العربي، بسبب ضعف البنية التحتية في معظم الدول، فإن هذا لا ينفي الحاجة إو إمكانية توظيف حب الناس للطعام في جلب الأرباح التي تساعد المنصات الإعلامية في الوقوف على أقدامها والاستقلال عن رأس المال الريعي الذي يملي عليها سياساته.
العرب مثلهم مثل بقية شعوب الأرض يحبون تناول الطعام ويحبون رؤيته أيضاً، حتى وإن كانت منطقتهم غارقة في الأخبار السياسية المتجددة على مدار الساعة
والغريب في العالم العربي اليوم ليس فقط غياب أدنى اهتمام بقسم المطبخ، وحصره في مواقع “تخاطب المرأة” وتكتسي باللون الزهري، كأن حب الطعام وإعداده والاهتمام به يقتصر على النساء فقط، بل أيضاً أن النسخ العربية من منصات أجنبية كبرى (سي إن إن، بي بي سي، سكاي نيوز، إندبندنت على سبيل المثال) تهمل أقسام الطعام تماماً، رغم أن النسخ الغربية منها تقدم أقسام مطبخ قوية إلى حد ما.
والحقيقة أن العرب مثلهم مثل بقية شعوب الأرض يحبون تناول الطعام ويحبون رؤيته أيضاً، حتى وإن كانت منطقتهم غارقة في الأخبار السياسية المتجددة على مدار الساعة، والدليل على ذلك أن صفحة مثل Tasty قائمة على “الفود بورن” بالأساس، تتابع بكثرة في المنطقة العربية ( كمثال بسيط وغير قابل للتعميم بالضرورة، فإن أكثر من ثلث أصدقائي على فيسبوك يتابعونها، ونحو ثلثي متابعيني على إنستجرام)، رغم أن الطعام ليس قريبا من الثقافة ولا حتى تعاليم الدين الإسلامي السائدة بالمنطقة، ما يؤكد أن المتابعة تعتمد على الإبهار البصري بالأساس، وليس على اهتمام بالطبخ كهواية مثلاً.
المصدر: أسطرلاب