منذ اندلاعها في مارس/آذار 2011 أفرزت الثورة السورية عددًا كبيرًا من الأعمال الروائية، حيث توجه معظم الروائيين السوريين مرغمين نحو رواية الفاجعة، فبعض الإحصاءات تشير إلى صدور أكثر من 50 رواية بعد الثورة، وفي عام 2014 وحده صدرت 14 راوية كانت بمثابة الانطلاقة الأولى لأدب الثورة السورية، وفي عام 2015 بلغ عدد الروايات المنشورة 24 رواية ثم راحت تتوالى الكتابات التي حاولت تجسيد الثورة والحرب السورية التي كانت أشبه بملحمة مأساوية مفتوحة جرفت معها الأخضر واليابس وأحدثت قدرًا هائلًا من الدمار والخراب وهجّرت أعدادًا مهولة من السوريين، نام بعضهم في المخيمات ومكث جزء منهم في صفائح التنك وعصفت أهوال الحرب بعدد غير قليل هرب من العنف واختار اللجوء والبقاء في المنفى.
وعلى غرار التغير الكبير الذي حدث في حياة السوريين بعد الثورة ثمة تغيرات كبيرة طرأت أيضًا على عملية الكتابة الإبداعية، إذ أضحت الكتابة أكثر ألمًا بشكل جسد العنف الأصولي والبعثي والرسمي، وعلى الرغم من كل محاولات الكتاب لتجسيد آلام الحرب المستعرة التي نشبت بعد الثورة على يد النظام السوري وحلفائه، يمكننا القول بأنه لا يوجد عمل أدبي واحد استطاع أن يكون بحجم المأساة.
كتابات ما قبل الفاجعة
في زمن الخوف وخلال الحقبة المرعبة التي كانت تعيشها سوريا في ظل نظام حكم شمولي قمعي قبل اندلاع الثورة صدرت رواية “مديح الكراهية” للكاتب الروائي خالد خليفة خلال عام 2006، وتقع أحداث الرواية خلال حقبة الثمانينيات لتحكي لنا عن حرب النظام السوري بقيادة الأسد الأب ضد تنظيم الإخوان المسلمين في سوريا وتحديدًا في حماة وحلب، إذ وصل العنف حينها إلى درجة محتدمة أفقدت البشر تسامحهم وتفشت الكراهية وانتشر عبقها الأسود في كل مكان إلى الدرجة التي حولت حلب مدينة الحضارات إلى مدينة الموت، رواية “مديح الكراهية” تجسد مرحلة شديدة القتامة من تاريخ سوريا.
بعد اندلاع الثورة السورية انهالت الروايات التي تنفست عبير الحرية وكتبت عن مثالية الأيام الأولى للثورة، ومن أهم الروايات التي جسدت هذه المرحلة رواية “طبول الحب” للكاتبة السورية مها حسن
في نفس حقبة ما قبل الحرب صدرت أيضًا رواية “القوقعة: يوميات متلصص” للكاتب السوري مصطفى خليفة في عام 2008 وقد كانت هذه الرواية صفعة مدوية لكل الخائفين والراضين بالقمع والاستبداد، وتحكي الرواية قصة شاب سوري تلقفته المخابرات السورية وهو عائد إلى وطنه سوريا من فرنسا وذلك بعد أن أنهى دراسة الإخراج السينمائي ليمكث البطل 13 عامًا في السجن دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه، وهناك يسرد علينا البطل هول ما يحدث في السجن وما يتعرض له السجناء من انتهاكات من النظام السوري، سخرية القدر هنا أن الشاب كان مسيحي وتم إلقاء القبض عليه في أحداث الإخوان المسلمين ليخبرنا الكاتب أن الظلم طال الجميع، وإذا كانت روايات ما قبل الفاجعة يمكنها أن تخبرنا شيئًا فستخبرنا فقط بحتمية الثورة.
بداية انفجار الشعب السوري: كتابات ما بعد اندلاع الثورة
بعد اندلاع الثورة السورية انهالت الروايات التي تنفست عبير الحرية وكتبت عن مثالية الأيام الأولى للثورة، ومن أهم الروايات التي جسدت هذه المرحلة رواية “طبول الحب” للكاتبة السورية مها حسن، وتبدأ أحداث الرواية حين تقرر الفتاة “ريما” أن تفتح حسابًا على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تحت اسم مستعار وهو إيزابيل صباغ وعبر الموقع تتعرف ريما على شاب سوري يُدعى يوسف من كفرنبل لتنشأ بينهما علاقة حب قوية لا تلبث أن تتطور مع بداية اندلاع الثورة السورية وانخراط يوسف في صفوفها، حيث يصبح عين ريما في الوطن وينقل لها جميع الأحداث التي لا تنقلها القنوات الفضائية.
كتاب هذه المرحلة حاولوا قدر استطاعتهم توثيق سيرة القتل والدمار والعنف، أو كما أطلق عليها الروائي والناقد نبيل سليمان “روايات الزلزال السوري”
ومع توالي أحداث الرواية نشهد أيامها الجميلة الأولى قبل أن يقمعها النظام السوري بكل وحشية ليستمر المتظاهرون في سلميتهم على الرغم من كل ما لاقوه من سلطات الحكومة السورية، ومع انتشار المظاهرات وزيادة القمع تبدأ مرحلة جديدة من الثورة السورية وهي مرحلة تسلح المتظاهرين، حيث ينضم يوسف إلى الجيش الحر لينتهي الحلم الجميل بالحرية وتبدأ آلام الحرب، رواية “طبول الحب” تحكي عن جمال الثورة قبل انكسارها.
بداية الفاجعة السورية: الجرح الذي لم يلتئم بعد
كتاب هذه المرحلة حاولوا قدر استطاعتهم توثيق سيرة القتل والدمار والعنف، أو كما أطلق عليها الروائي والناقد نبيل سليمان “روايات الزلزال السوري” وهي الحقبة التي هُزمت فيها سلمية الثورة وانتصرت العسكرة التي بدأها النظام منذ اليوم الأول، ومن أهم الروايات المجسدة لهذه المرحلة رواية “عائد إلى حلب” للكاتب السوري عبد الله مكسور.
بين طيات هذه الرواية تنتشر رائحة الموت الذي تستدعيه الحرب ليخيم على سوريا دون أن يغادرها
وتحكي الرواية عن الحرب السورية، إذ يقول الكاتب على لسان أحد أبطاله: “إنها الحرب، تستنهض أجمل وأقبح ما فينا، إنها الحرب حين يغدو الوطن جملًا تصطف لتحكي قصة الوجع المكابر”، تتقاذف الحرب السورية بطل الرواية لترميه في حي سيف الدولة في حلب التي يسيطر عليها جيش النصرة، ومن هناك يحكي لنا البطل عن فاجعة الحرب التي تأكل السوريين، إذ إنها حرب مختلفة الأهداف متضاربة الأطراف لن ينجم عنها سوى سقوط المزيد من الضحايا الأبرياء وتدمير الوطن.
بين طيات هذه الرواية تنتشر رائحة الموت الذي تستدعيه الحرب ليخيم على سوريا دون أن يغادرها، فمنذ انتهاء مرحلة سلمية المظاهرات صار الموت حدثًا اعتياديًا، فيما بعد يتمكن البطل من الهرب من معسكر جيش النصرة لتتلقفه أهوال أخرى مع أخوته السوريين وهي النزوح والهجرة واللجوء المخيمات.
المرحلة الثالثة: النبش في تاريخ سوريا وصولًا للحظة الحاليّة
كانت روايات هذه المرحلة هي الأكثر نضجًا من الناحية الكتابية، فوفقًا لروائيين هذه الحقبة فنظام الأسد مهد لتلك الثورة منذ زمن بعيد، واللحظة الحاليّة كانت آتية لا محالة، ففي وراية “مدن اليمام” للكاتبة ابتسام تريسي تدور الأحداث في زمنين مختلفين، الزمن الأول في الثمانينيات وتجري أحداثه في مدينة حلب والزمن الثاني في 2011 داخل أكثر من مدينة سورية، وطوال صفحات الرواية تسرد لنا الكاتبة بعبقرية فذة ذاكرة القهر الممتدة والحتمية التاريخية للتغير الحاليّ، كما أنها تذكرنا أيضًا بأن الذي عاشته سوريا بعد الثورة لا يختلف كثيرًا عن الجرائم التي صنعها الأسد الأب في الثمانينيات.
الأمر الملحوظ في جميع الروايات السورية التي تحكي عن الثورة والحرب أنها تتقاطع جميعًا فيما يخص مسألة النهاية المفتوحة، إذ تقدم جميعها مشاهد مبتورة لم تكتمل وربما تعد هذه النقطة هي الأكثر مصداقية
وفي روايته “السوريون الأعداء” يحكي الكاتب السوري فواز حداد أنثروبولوجيا المشهد السوري بماضيه وحاضره ليخبرنا أن أحداث الحرب السورية ليست حديثة العهد ولكنها تتوالد من الماضي، وطوال 475 صفحة هي عدد صفحات الرواية يحكي حداد عن جذور الشر داخل المجتمع السوري من اللحظة التي بدأت فيها مجزرة حماة في الثمانينيات ووصولًا للحظة انفلات الثورة، إذ يقول الكاتب أن سوريا انتزعت من يد أصحابها في الماضي على يد نظام قمعي ليستردها أبناؤها لأيام قليلة فقط قبل أن يخسروها ثانية، رواية “السوريون الأعداء” هي رواية تاريخية توثيقية تغطي حقبة كاملة امتدت منذ طلقات الانقلاب العسكري الذي قاده حافظ الأسد ضد رفاقه في أثناء الستينيات وحتى اندلاع الحرب السورية.
الأمر الملحوظ في جميع الروايات السورية التي تحكي عن الثورة والحرب أنها تتقاطع جميعًا فيما يخص مسألة النهاية المفتوحة، إذ تقدم جميعها مشاهد مبتورة لم تكتمل وربما تعد هذه النقطة هي الأكثر مصداقية لأن تفاصيل المشهد السوري رغم كونها حافلة بالأحداث لا تزال منقوصة وماضية صوب نهاية مجهولة، وكل ما فعله الروائيون السوريون هو محاولة ترميم الخراب وحفظ الذاكرة عبر تدوين وتوثيق مشاهد الحاضر بكل فواجعه ومآسيه وأخيرًا محاولة معرفة تأثير الواقع الحاليّ على الشعب السوري، ففي النهاية وحتى لو كانت الأحداث موجعة فأثرها على النفس واستقراء ما يدور بداخل الأشخاص يختلف عن مجرد ذكر تلك الأحداث، إنها مهمة شديدة الصعوبة لا تستطيع حتى الحكايات التخفيف من وطأتها.