تمضي روسيا في طريق تعرف ملامحه جيدًا، تقود حربها الاقتصادية مع الولايات المتحدة بآليات مبتكرة، وتحاول بكل قوة كسر اعتمادها على الدولار الأمريكي وتوجيه هذا الشغف إلى الذهب الذي ضاعفت احتياطاتها منه أربع مرات، حتى فبراير الماضي، فأصبح فلسفة خاصة بها، تسعى إليها العديد من الدول، وفق مصطلح جديد أطلق عليه “إلغاء الدولرة” مقابل اقتناء الذهب واليوان الصيني.
وترصد أمريكا جيدًا تقدم روسيا السريع وتنويع مصادرها الاقتصادية بعيدًا عن الأصول الأمريكية، فوكالة بلومبيرغ الأمريكية قالت قبل ساعات، إن مخزون الدب الروسي من الذهب بلغ مليون أونصة في فبراير الماضي، لتترجم بذلك سيرها في طريق مختلف، ما زال الغرب يتمناه لاستقلاله الوطني وتعزيز سيادته بعيدًا عن الدوران في فلك أمريكا، بحسب تعبيرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال مقابلة له مع “سي إن إن” في نوفمبر الماضي، إذ تخوف من اعتماد الشركات والكيانات الأوروبية على العملة الأمريكية واعتبرها قضية سيادة.
منذ سنوات وهناك حالة من الجوع في روسيا لتخزين واقتناء الذهب، فتكشف بيانات البنك المركزي الصادرة حديثًا أن الاحتياطات الروسية الآن تبلغ نحو 2149.25 طن
تجاوزت عمليات شراء الذهب في روسيا المعروض من المناجم، وتخطت المشتريات المحلية من “الأصفر” أقصى حد لها، وهناك مداولات في البنك المركزي الروسي بشأن نقطة الانطلاق التي سيبدأ منها لاستيراد الذهب، حسب معلومات أوليغ كوزمين كبير الاقتصاديين في رينيسانس كابيتال بموسكو، والمستشار السابق في إدارة السياسة النقدية بالبنك المركزي، وهي المعلومات التي رفض ممثل للبنك المركزي الروسي التعليق عليها.
لماذا الذهب تحديدًا؟
منذ سنوات وهناك حالة من الجوع في روسيا لتخزين واقتناء الذهب، فتكشف بيانات البنك المركزي الصادرة حديثًا أن الاحتياطات الروسية الآن تبلغ نحو 2149.25 طن، فمخزون الذهب يعني الأمان عند الروس والوقاية من الصدمات الجيوسياسية والسلاح الباتر الذي سينتقم من التهديدات الأمريكية المتتالية بفرض عقوبات على موسكو، في ظل استمرار تدهور العلاقات بين القوتين الأكبر في العالم.
يتوقع الخبراء أن استمرار هذه التوترات مع واشنطن، سيذهب بالمزيد من سبائك الذهب إلى روسيا، وهي سياسة تبدو أنها كانت مخططة بعناية، لدعم أسعار الذهب العالمية خلال السنوات الأخيرة، ما يقفز بأسعاره عن 20% منذ عام 2016، الأمر الذي انعكس بدوره على رخاء خزائن البنك المركزي الروسي، وكسب ما يقرب من 10 مليارات دولار، بفضل ارتفاع أسعار مقتنياته من الذهب.
لا يتراجع ترامب ولو فقد أسنانه واحده تلو الأخرى من شدة الضربات الموجهة إلى سياساته الدولية، منذ بداية حكمه، فهو يعتمد منهج العقوبات ضد الجميع بشكل هستيري، ويرفض جميع المحاذير التي جاءته من أقرب حلفائه، حتى انصرفت الكثير من الدول إلى تنويع حيازاتها من الذهب، وكانت المبادرة واضحة في روسيا التي وصل احتياطي الذهب فيها إلى مستويات غير مسبوقة خلال العام الماضي، منذ أن أصبح بوتين رئيسًا منذ 17 عامًا، بحسب تقرير لمجلس الذهب العالمي.
تعرف روسيا أنه لن يمكن التلاعب بالذهب خلال الحرب الاقتصادية الأمريكية على معارضي سياساتها، حيث يمكن ببساطة تحميل الذهب وشحنه من أي دولة إلى أخرى، كعملة دفع تتجاوز العقوبات الاقتصادية المستهدفة
يقاوم الذهب هيمنة أنظمة الدفع بالدولار الأمريكي التي تشغل أكثر من 60% من الاحتياطات العالمية، ونحو 80% من المدفوعات العالمية، ما يجعل الولايات المتحدة ترى أنها صاحبة حق في فرض سياساتها كسيف مسلط على رقاب العالم، وخاصة الدول النامية والفقيرة، لا سيما أنها الدولة الوحيدة في العالم التي تتمتع بحق النقض في صندوق النقد الدولي، ومن هنا كان الذهب أحد أكثر الأسلحة أهمية في يد روسيا لتحرير نفسها من هيمنة البترودولار.
تعرف روسيا أنه لن يمكن التلاعب بالذهب خلال الحرب الاقتصادية الأمريكية على معارضي سياساتها، حيث يمكن ببساطة تحميل الذهب وشحنه من أي دولة إلى أخرى، كعملة دفع تتجاوز العقوبات الاقتصادية المستهدفة، وهي وسيلة عرفت موسكو قوتها جيدًا عام 2015، عندما تعرضت أسعار النفط والاحتياطيات المالية الروسية للانهيار بسبب انخفاض أسعار النفط بمقدار 60%، وخسر أعضاء “أوبك” نحو 500 مليار دولار خلال عام فقط، ما دفع موسكو لوضع سياسة عاجلة تضمن عدم التلاعب بها مرة أخرى، ومنذ بداية الربع الثاني من عام 2017، ارتفعت احتياطاتها من الذهب إلى 38% في الوقت الذي امتنعت فيه عن شراء العملات الأجنبية لأكثر من عامين.
تراجع الطلب العالمي على الذهب إلى أدنى مستوى قبل عامين، ورغم ذلك حافظت روسيا على موقفها منه، بعد أن عرفت جيدًا أنه أحد أكثر الاستثمارات ثباتًا في السياسة الجغرافية بالعالم، لا سيما في زمن كهذا، تستخدم فيه الحرب الاقتصادية على أوسع نطاق، وتجعل من البترودولار وسيلة لكسر رقاب الدول، حيث لا تفرق أمريكا ترامب بين حليف وعدو، أو كبير وصغير.
تهديد الدولار.. كيف؟
لا تقف محاولات روسيا والصين وبعض الدول المعادية للسياسات الأمريكية على اقتناء الذهب فقط لتحييد الدولار في الحرب العالمية المستعرة حاليًّا، ولكنهم يشرعون أيضًا في إيجاد بدائل أخرى للدولار، إذ تقوم روسيا والصين ببناء نظام دفع بخلاف الدولار للشركاء التجاريين الإقليميين، ويعرف بنظام الدفع SWIFT، ويعمل كمحور لحركة رسائل تحويل الأموال العالمية ويقف حائلاً أمام تهديدات الولايات المتحدة، ويرفض أن يكون خاضعًا لإملاءات مثل هذه الهيمنة مرة أخرى.
ترى بعض الدول التي تحاول استحداث أنظمة جديدة للتعاملات الدولية، أن العلاقة بين النفط والدولار لم تعد مهمة إلى حد بعيد
الهوس الروسي بمقاومة أمريكا جعلها تشرع في بناء آخر يكون بديلاً لـSWIFT، بعد التهديد بإغلاقه، بالتعاون مع الصين وتثبيت نظام نقدي دولي جديد يستثني الدولارات الأمريكية، إذ يمكن للصين شراء النفط الروسي باليوان، وبعد ذلك يمكن لروسيا استبدال هذا اليوان مقابل الذهب في بورصة شنغهاي، وبذلك تحرز روسيا تقدمًا سريعًا في جهودها لتنويع مصادرها بعيدًا عن الأصول الأمريكية.
هذه التطورات في الاقتصاد العالمي، جعل الخبراء يتوقعون “إلغاء الدولرة” قريبًا، إذا تبنت المزيد من الدول نفس فلسفة روسيا والصين، في تنويع الأصول المالية بالاعتماد على الذهب واليوان الصيني، والمثير أن بولندا والمجر، أول من استجابوا للفكر الروسي، بشراء كميات كبيرة من الذهب في ظل الصدمات الجيوسياسية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والتعامل مع القارة العجوز بأسلوب لي الذراع.
وترى بعض الدول التي تحاول استحداث أنظمة جديدة للتعاملات الدولية، أن العلاقة بين النفط والدولار لم تعد مهمة إلى حد بعيد، خاصة أن توحيد الدولار كعملة احتياطية عالمية جاء بسبب قوة وديناميكية الاقتصاد الأمريكي، الأمر الذي جعل مصدري النفط يطالبون منذ الثمانينيات بتوجيد نظام الدفع لهم بالدولار الأمريكي، عندما كان الاقتصاد الأمريكي صاحب الدور المركزي في النظام العالمي، والأكثر انفتاحًا وابتكارًا وإنتاجية في العالم، كما كان الوسيط الأكثر ملاءمة وسيولة وموثوقية للتبادل، ولكن الآن أصبح هناك مزاحمة متزايدة لهذا الدور من التحالفات الجديدة التي ترى ضرورة البناء على عملة أخرى تتحدى الدولار في المستقبل القريب، في ظل انفتاح بعض الاقتصادات على التطور في عمق أسواق رأس المال.
جذر أي انهيار دائمًا، هو عدم الثقة في استقرار أو فائدة المال لتكون بمثابة مخزن فعال للقيمة أو وسيلة للتبادل، وبمجرد أن يتوقف المستخدمون عن الاعتقاد بأن العملة مفيدة، تصبح في ورطة كما هو الحال الآن لـ”الدولار”
كانت الحجة القديمة لاستمرار الدولار على القمة، أنه لم يستطع تحريكه من مكانه أي عملة أخرى ولا حتى اليور نفسه، فمن يستطع ذلك؟ الآن “اليوان” يهدد هذه الوظيفة في ظل إبرام عقود نفط آجلة لمناطق عديدة حول العالم باليوان لأول مرة منذ عقود، بجانب التطورات العالمية منذ العام الماضي لكل من الذهب والدولار، والتنبؤات الكثيرة بتغير الجغرافيا السياسية، بجانب التوقعات الاقتصادية السيئة للدولار بسبب حرب التعريفة التي يفرضها الرئيس ترامب على العديد من دول العالم، وتوافر الطلب والطلب المحتمل على السبائك الذهبية.
تاريخيًا لا يوجد ما يمنع هذا السيناريو، فالزمن مليء بالانهيارات المفاجئة للعملة، ويشهد على ذلك الأرجنتين والمجر وأوكرانيا وأيسلندا وفنزويلا وزيمبابوي وألمانيا، الذين عاصروا أزمات كبرى في عملاتهم منذ عام 1900، فجذر أي انهيار دائمًا، هو عدم الثقة في استقرار أو فائدة المال لتكون بمثابة مخزن فعال للقيمة أو وسيلة للتبادل، وبمجرد أن يتوقف المستخدمون عن الاعتقاد بأن العملة مفيدة، تصبح في ورطة كما هو الحال الآن لـ”الدولار”.