بعد 37 عامًا من آخر تعداد سكاني شامل، تمكنت وزارة التخطيط العراقية من إجراء إحصاء يعد الأوسع نطاقًا في تاريخ البلاد، فعلى مدار يومي 20 و21 من الشهر الجاري، قامت فرق الوزارة بجولات ميدانية في كافة المحافظات والمدن والقرى والمناطق النائية، في عملية إحصائية وُصفت بأنها الأكثر شمولًا وتعقيدًا.
أُجري التعداد السكاني على 3 مراحل، اكتملت اثنتان منها، وتضمنت إحصاء السكان والأبنية، أما المرحلة الثالثة، فستُنفذ خلال الأيام المقبلة، وتهدف إلى جمع بيانات دقيقة حول المستوى التعليمي والأمراض المزمنة والوضع المادي للأسر العراقية.
إحصاءات أولية
أعلن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، خلال مؤتمر صحفي الاثنين الماضي، النتائج الأولية للتعداد السكاني، كاشفًا أن عدد سكان العراق بلغ 45,407,895 نسمة، شاملاً الأجانب واللاجئين.
وأوضح السوداني أن عدد الأسر في البلاد بلغ 7,898,588 أسرة، مشيرًا إلى أن نسبة الذكور بلغت 50.1% بإجمالي 22,784,062 نسمة، مقابل 49.8% للإناث بعدد 22,623,833 نسمة، كما بيّن أن الأسر التي ترأسها النساء تشكل 11.33%، في حين أن نسبة الأسر التي يتزعمها الرجال وصلت إلى 88.67%.
وفيما يتعلق بالمساكن، أفاد السوداني بأن عددها بلغ 8,037,221 مسكنًا، موضحًا أن الوحدات السكنية الأفقية تمثل 92.1%، في حين تشكل الوحدات السكنية العمودية 6.6%، ولم تتجاوز نسبة المساكن البدائية المبنية من الطين 0.4%.
أما التركيبة العمرية للسكان، فقد أظهر الإحصاء أن نسبة من هم دون سن العمل (أقل من 15 عامًا) بلغت 36.1%، بينما بلغت نسبة من هم فوق سن 65 عامًا 3.7%.
الاستنتاجات والتوصيات
أظهرت نتائج الإحصاء السكاني في العراق تقاربًا ملحوظًا مع توقعات الحكومة العراقية ومنظمات الأمم المتحدة، مما يعزز الثقة بدقة البيانات المسجلة، ووفقًا للخبير الإحصائي أحمد سامي، فإن التعداد الذي أُجري بنجاح يبرز الموارد البشرية الهائلة التي يمتلكها العراق، حيث يشكل من هم في سن العمل نسبة كبيرة من السكان، وهو مؤشر على توفر طاقات شابة يمكن استثمارها في التنمية الاقتصادية.
وأشار سامي، في حديث لـ”نون بوست”، إلى أن التوازن المثالي بين عدد الذكور والإناث يُعد ميزة نادرة لا تتوفر في العديد من الدول، وأضاف أن البيانات المستخلصة من التعداد ستُستخدم كأساس لوضع خطط شاملة في مجالات الاقتصاد والبنية التحتية والصحة والتعليم، إلى جانب تحسين خدمات الكهرباء والمياه لتلبية احتياجات السكان المتزايدة.
ورغم أهمية الإحصاء السكاني في العراق، أشار الخبير الإحصائي إلى بعض القضايا التي كان من الممكن تفاديها، فقد اعتبر أن فرض حظر التجوال ليومين لم يكن ضروريًا، خصوصًا في ظل شكاوى من تأخر فرق الإحصاء في الوصول إلى العديد من المناطق، كما أوضح أن البيانات التي جمعتها الفرق لم تكن تتطلب حظر التجوال بقدر ما احتاجت إلى تفعيل خطط بديلة أكثر مرونة، مشيرًا إلى أن هذا الإجراء تسبب في إرباك للأسر وأثر على دقة جمع المعلومات المتعلقة بالصحة والتعليم.
من جانبه، أكد الباحث السياسي رياض الزبيدي أن التعداد السكاني، على الرغم من أهميته، لم يكن بمنأى عن التبعات السياسية والديموغرافية، ولفت إلى أن هناك مناطق مثل جرف الصخر وعزيز بلد والعوجة والعويسات في بابل وصلاح الدين والأنبار وبغداد لا يزال سكانها الأصليون غير قادرين على العودة إليها بسبب سيطرة الفصائل المسلحة، وأوضح أن هذا الواقع سيؤثر سلبًا على التوزيع الجغرافي للسكان، وقد يحرم تلك المناطق من أي خطط تنموية مستقبلية بسبب تغييب سكانها الأصليين عن الإحصاء.
ويرى الباحث السياسي أيضًا أن التعداد السكاني، رغم بعض العيوب التي كان يمكن تفاديها، أظهر بوضوح التحديات والتحولات التي شهدها العراق خلال العقود الماضية، وأبرز الزبيدي التضخم السكاني الكبير في المدن الكبرى مقابل انخفاض سكان المناطق الريفية، ما يعكس تغيرات ديموغرافية حادة، كما أشار إلى أن النتائج الأولية كشفت عن ضعف واضح في البنى التحتية، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى إعادة هيكلة وتطوير القطاعات الحيوية في البلاد.
وأشار الزبيدي إلى أن الحكومة العراقية وضعت أهدافًا محددة للتعداد السكاني، تشمل التخطيط لتطوير قطاعات مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، ومعالجة التحديات الديموغرافية، لافتًا إلى ضرورة تقييم مدى إمكانية تحقيق هذه الأهداف عمليًا في ظل الواقع الحالي.
التنمية المستدامة والإسكان
كشف الإحصاء السكاني في العراق عن وجود أكثر من 8 ملايين وحدة سكنية بين منازل أفقية ووحدات عمودية في الأبراج السكنية، مما يوفر بيانات حيوية لتحديد الحاجة المستقبلية للوحدات السكنية والبنية التحتية، كالكهرباء والمياه.
ومع ذلك يُشير الوضع الراهن إلى تحديات كبيرة، أبرزها استمرار ظاهرة البناء العشوائي في العديد من المناطق دون الحصول على التراخيص اللازمة، ما قد يؤدي خلال السنوات الخمس المقبلة إلى صعوبة تحديد الأعداد الدقيقة للمساكن، وبالتالي التأثير السلبي على خطط الحكومة لتطوير البنية التحتية والخدمات الأساسية.
في هذا السياق، أكد أمين بغداد السابق، الباحث علاء التميمي، أهمية التعداد السكاني في تعزيز التنمية الحضرية، مشيرًا إلى أنه “يشكل أساسًا للتخطيط الحضري والتنمية المستدامة في القطاعات الاقتصادية والصحية، حيث يمكن الحكومة من اتخاذ قرارات دقيقة لتوفير الخدمات الضرورية، وتطوير البنية التحتية بما يتماشى مع معدلات النمو السكاني”.
غير أن التميمي يرى أن العراق لم يكُن مؤهلًا بشكل كافٍ لإجراء التعداد السكاني الحالي، نظرًا للتحديات الاقتصادية والخدمية التي تواجهها البلاد، وأوضح أن غياب التخطيط السكاني طويل الأمد منذ عام 2003، وعدم تبني سياسات واضحة للتعامل مع النمو السكاني المتسارع، أدى إلى فشل الحكومات المتعاقبة في ربط الزيادة السكانية بتطوير قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية والاقتصاد، مما ترك تأثيرًا سلبيًا على التنمية الشاملة.
من جهتها، أشارت المهندسة الاستشارية زينب محمود إلى أن المشكلة الرئيسية في العراق تكمن في غياب الخطط الاستراتيجية لتطوير البنية التحتية، وخاصة في القطاع الصحي، وهو واقع استمر لأكثر من أربعة عقود، وأضافت أن عدم وجود تخطيط حضري للمدن أدى إلى تفاقم العشوائيات والمشكلات داخل المدن الكبرى، مما يجعل معالجتها أمراً بالغ الصعوبة.
وأوضحت المهندسة في حديثها لـ”نون بوست” أن العاصمة بغداد لم تشهد توسعًا حضريًا مدروسًا، إذ إن المدينة التي يفترض أن تستوعب حوالي 4 ملايين نسمة وفق المعايير الحضرية، أصبحت تضم اليوم نحو 10 ملايين نسمة، بينما بقيت منظومات الطرق والبنية التحتية والمستشفيات دون تطوير يُذكر، باستثناء إضافات بسيطة لا تتناسب مع الزيادة السكانية الكبيرة.
وأضافت أن التعداد السكاني يمثل فرصة ذهبية للحكومات العراقية لتخطيط برامج الرعاية الصحية بشكل فعّال، من خلال الاستفادة من البيانات المتعلقة بعدد السكان وأعمارهم وتوزيعهم الجغرافي، وأشارت إلى أن هذه البيانات تتيح وضع خريطة دقيقة لبناء مستشفيات ومراكز صحية جديدة، مما يسهم في تحسين إدارة الموارد الصحية، التي تضيع في الوقت الراهن بسبب غياب الإحصائيات الدقيقة.
أهمية الإحصاء في التخطيط الحضري
تؤكد المهندسة الاستشارية في حديثها لـ”نون بوست”، أنه بعد الانتهاء من عمليات التعداد السكاني، يتعين على الحكومة العراقية اتخاذ خطوات فورية لوضع خطط شاملة، سواء كانت قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأجل، لمعالجة التحديات التي كشف عنها التعداد، وتشدد على ضرورة وضع استراتيجيات للحد من تفاقم الأوضاع الحالية، مع إعداد دراسات شاملة للتحضير لإنشاء مدن جديدة في المناطق القريبة من المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة والموصل والناصرية.
وتكشف النتائج الأولية للتعداد السكاني عن الحاجة الملحة لإنشاء مدن جديدة، بالإضافة إلى تطوير شبكة من الطرق السريعة لتخفيف الازدحامات المرورية المزمنة في مراكز المدن، وهو ما يمكن للحكومة الاستفادة من الخطط الموضوعة لإنشاء “طريق التنمية الدولي”، الذي سيربط جنوب العراق بشماله، من خلال إنشاء مدن صناعية وسكنية تلبي احتياجات النمو السكاني وتتواءم مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وهو نموذج مشابه لما قامت به العديد من الدول التي أسست مدنًا جديدة بناء على احتياجاتها الاقتصادية والبنية التحتية المتطورة.
معرفة عدد السكان وتوزيعهم الجغرافي سيسهم بشكل كبير في تحسين إدارة المياه والطاقة، بالإضافة إلى ضبط معدلات التلوث التي تعاني منها العديد من المدن العراقية، خاصة بغداد والبصرة.
وسيسهم التعداد السكاني في تحسين عملية التخطيط الاقتصادي كذلك، حيث ستقدم النتائج النهائية للإحصاء السكاني للبلاد سجلات دقيقة عن حجم القوة العاملة ومستويات التعليم، بما سيسعف الحكومة في تحديد القطاعات التي تحتاج إلى تعزيز القوى العاملة، لا سيما مع التضخم الكبير في أعداد خريجي الجامعات في مختلف التخصصات العلمية.
وفي هذا السياق، يشير الخبير الإحصائي أحمد سامي إلى أن نتائج التعداد السكاني أظهرت تحذيرات من نقابتي الصيدلة وطب الأسنان بشأن زيادة أعداد الخريجين في هذين المجالين عن الحاجة الفعلية للقطاعين العام والخاص في العراق، مع التوقع بأن الفائض سيستمر لمدة تصل إلى 10 سنوات، وهو ما يمكن أن يعد نموذجًا يمكن البناء عليه في مختلف المجالات التعليمية والاقتصادية.
التعامل مع التحديات البيئية والكوارث
يعاني العراق من نقص كبير في الإحصائيات الدقيقة للعديد من القطاعات، وهو ما يجعل عملية التخطيط والتنمية المستدامة تواجه صعوبة بالغة، وفي إطار التعداد السكاني الذي يشمل استمارات جديدة في مرحلته الثالثة، سيجري جمع بيانات مفصلة عن مختلف جوانب الحياة، مما يعد خطوة حاسمة نحو تحسين الوضع.
وفي هذا السياق، تشير المهندسة الاستشارية زينب محمود إلى أن التعداد السكاني يمكن أن يكون أداة مهمة في استغلال البيانات المتوافرة لوضع سياسات فعالة لحماية البيئة والموارد الطبيعية، فمعرفة عدد السكان وتوزيعهم الجغرافي سيسهم بشكل كبير في تحسين إدارة المياه والطاقة، بالإضافة إلى ضبط معدلات التلوث التي تعاني منها العديد من المدن العراقية، خاصة بغداد والبصرة.
وتضيف أن أهمية البيانات لا تقتصر على الجوانب البيئية فقط، بل تمتد إلى تحسين استجابة البلاد لحالات الطوارئ والكوارث، سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان، فالتعداد السكاني سيوفر للحكومة المعلومات اللازمة لرسم استراتيجيات للتعامل مع هذه الأزمات، مثل إنشاء مراكز دفاع مدني وطوارئ.