في فيلمه الوثائقي “ثلاثة غرباء متطابقون“، يتتبع المخرج تيم واردل قصة بوبي شافران وإدي جالاند وديفيد كيلمان، ثلاثة توائم متطابقة لم يعرف أحدهم عن الآخر شيئًا حتى جمعتهم الصدفة في عمر التاسعة عشر في أحد ضواحي مدينة نيويورك الكبيرة. تبدو القصة إنسانية بحتة في البداية. فاجتماعهم بعد هذا العمر يجعل من الوثائقي مقنعًا ومن القصة جديرة بالرواي، لكنّها لا تتوقّف أبدًا عند هذا الحدّ وحسب.
ففي لحظةٍ من لحظات الفيلم، نجد أنفسنا وقد اتّجهنا إلى منعطفٍ مفاجئ حول شرور التجارب الإنسانية والأبحاث العلمية التي انتهكت إنسانية الأفراد وجرّدتهم من الكثير حتى غدوا “فئرانًا مختبرية” تُجرى عليها الأبحاث وتتحوّل حياتها إلى أرقام وبيانات ومعلومات يرصدها المراقبون. وبكلماتٍ أخرى، يسلّط الفيلم الضوء على الجانب المظلم لواحدة من تجارب علم النفس ويثير لدينا العديد من الأسئلة الأخلاقية حولها.
فُصلوا عند الولادة والتقوا بعد 19 عامًا
تبدأ القصة في عام 1980 بانضمام بوبي شافران إلى الكلية بعد بلوغه سن التاسعة عشر. وما إنْ دخل ساحتها حتى بدأ زملاؤه باستقباله كما لو كان صديقًا مقرّبًا، لكنّ الغريب بالأمر أنّ الجميع كان يناديه باسم إدي، وما هي لحظات حتى أدرك أحدهم أنّ بوبي ما هو إلا توأم إدي المتطابق، وذلك بعد سؤال بوبي عن تاريخ ميلاده.
التقى كلٌّ من بوبي وإدي على الفور. ليكتشفا من تاريخ الميلاد واسم مكتب التبنّي، عوضًا عن الشبه المتطابق بينهما أنّ دار التبنّي عرضتهما لعائلتين مختلفتين دون أنْ تخبر كلّ عائلة عن التوأم الآخر. وما هي إلا أيّام حتى جذبت القصة واحدة من الصحف المحليّة في المنطقة، ليكتشف التوأمان بعد نشر المقال أنّ ثمة أخ ثالث، ديفيد كيلمان، يشبههما تمامًا وقد عُرض للتبنّي عن طريق المكتب نفسه وفي الفترة نفسها.
وفي زمنٍ لم يكن فيه الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي حاضرة في الجو العام، قام التلفاز والصحف المحلية بالدور، حيث بدأ التوائم الثلاثة بالظهور على شاشات التلفاز وفي البرامج الاجتماعية وتمّت استضافتهم في العديد من العروض والإعلانات، بما في ذلك ظهورهم في فيلم مادونا “البحث اليائس عن سوزان Desperately Seeking Susan“.
ظهر التوائم الثلاثة في فيلم مادونا “البحث اليائس عن سوزان Desperately Seeking Susan”
ركّزت المقابلات التلفزيونية بشكلٍ أساسيّ على التشابه الكبير بين التوائم. جميعهم يدخّنون نفس النوع من السجائر، ويحبّون أصناف الطعام المتشابهة، ولهم ذائقة متشابهة بالنساء، يتحرّكون بشكلٍ متناسق ويتشاطرون لغة الجسد، وقد يبدأ أحدهم بالجملة لينهيها واحد من التوأمين الآخرين.
يأخذ الفيلم منحىً مغايرًا حينما يكشف الأوراق المجهولة لقصة التوائم الثلاثة، وذلك عن طريق التقرير الصحفيّ الذي عمل عليه لورانس رايت في محاولته لكشف ما وراء القصة. ف عُرض الثلاثة للتبنّي عن طريق وكالة التبنّي اليهودية في مدينة نيويورك “لويز وايس Louise Wise Services”، دون أنْ تخبر العائلات الثلاثة عن التوأمين الآخرين.
الجانب المظلم للعلم والتجارب البحثية
يكشف الفيلم الستارة عن دراسة المحلل النفسيّ النمساويّ بيتر نيوبوير التي سعى من خلالها لوضع حدٍ نهائيّ للنقاش القديم فيما يتعلّق بالإنسان والمعروف باسم “الطبيعة مقابل التنشئة”، وليس أفضل من التوائم المتطابقة لتساعد في مثل هذه الدراسات التي تركّز على مراقبة وجمع البيانات والمعلومات من كلٍّ من أزواج التوائم المتطابقة وغير المتطابقة، وأزواج التوائم المتطابقة التي نشأت وترعرت في البيئة نفسها بظروفها المختلفة، وآخرين ممّن اضطروا للانفصال عن توأمهم الآخر لبيئة أخرى مختلفة كليًّا.
لا تزال تفاصيل دراسة التوائم المتطابقة سرّية لغاية الآن وهي محفوظة في سجّلات جامعة ييل
عمل نيوبوير بالاتفاق مع وكالة التبنّي التي كان من المفترض أنْ تقوم برعاية الأطفال وبدلًا من ذلك انضمت إلى الدراسة التي فصلت العديد من التوائم عن بعضهم البعض دون أنْ تخبر عائلاتهم المتبنية. وهو ما نكتشفه لاحقًا في الفيلم، لم يكن الثلاثة توائم الوحيدين ممّن تمّ فصلهم. فمع انتشار قصتهم بدأ الكثير من الأشخاص ممّن عُرضوا للتبنّي في الفترة نفسها عن طريق الوكالة نفسها باكتشاف توائمَ لهم بعد سنين طويلة.
وقد عنى نيوبوير وفريقه البحثي بخلق ظروف مختلفة تمامًا للتوائم الثلاثة، فقد عاش أحدهم في عائلة غنية وآخر ضمن عائلة من الطبقة المتوسطة والثالث تبنّته عائلة فقيرة. وفي أحد مشاهد الفيلم، تطالب العائلات الثلاثة بعقد اجتماعٍ مع الوكالة لفهم الأسباب التي دفعتها لعدم إخبار العائلات عن موضوع التوائم. ينتهي الاجتماع دون نتيجة. يكتشف أحد الآباء لاحقًا أنّ أعضاء الوكالة احتفلوا بالشمبانيا لأن الدراسة السرية لم تُكشف.
تاريخ طويل من الانتهاكات الأخلاقية
لا تعدّ هذه التجربة العليمة استثنائية أو فريدة؛ فهي واحدة من العديد من الدراسات غير الأخلاقية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والتي استخدمت الأفراد كوسيلة لتحقيق غاياتها بغض النظر عن أيّ شيءٍ آخر. فثمّة الكثير من التجارب التي عرّضت الأيتام والسجناء والأقليات وغيرهم من الفئات السكانية الضعيفة للخطر من أجل الاكتشاف العلمي.
تعدّ تجربة توسكيجي التي استمرّت من عام 1932 حتى عام 1972 مثالًا آخر. حيث تركت فيها دائرة الصحة العامة الأمريكية أكثر من 600 مزارع فقير من أصل إفريقي مصاب بمرض الزهري دون علاج حتى يتمكّن الباحثون من معرفة المزيد عن المآل الطبيعي للمرض عند تركه بدون علاج.
وللطبّ النفسي حصة كبيرة في هذا، فقد شمل على العديد من التجارب والمعالجات اللاإنسانية المزعومة، مثل تجارب التعقيم التي اتّبعها العديد من الأطباء النفسيين مع مرضى فصام الشخصية أو تجارب تحسين النسل القائمة على اختبارات الذكاء التي استهدفت ذوي البشرة السوداء والأقليات في المجتمع أو حتى العلاج المروّع بالصدمات الكهربائية لمن كانوا يوصمون بالجنون أو المثلية الجنسية وغيرها الكثير من الحالات.
عام 1974، تمّ تأسيس “الهيئة الوطنية لحماية العناصر البشرية في البحوث الطبية والسلوكية” والتي وضعت قواعد أكثر صرامة من أي وقت مضى منعًا لعدم تكرار مأساة طبية أخرى في أي وقت لاحق
فعلى سبيل المثال، أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة عام 1927 قانونًا يشرع التعقيم القسري للمواطنين ذوي الذكاء المنخفض أو المشكوك فيهم كما أسمتهم، وذلك بناءً على اختبارات الذكاء التي تمّ وضعها وتطويرها تحت رداء علم النفس. وقد أدى القانون المعروف باسم ” Buck v Bell” إلى أكثر من 65 ألف تعقيم قسريّ لأفراد تم اعتقاد أنهم يمتلكون معدلات ذكاء منخفضة، ويشكّلون ضررًا للمجتمع الأمريكي ونسبة ذكائه العامة.
أو خذ أيضًا تجربة ويلوبروك، وهي مؤسسة للأطفال الذين يعانون من اضطرابات عاطفية في نيويورك، حيث قام الباحثون عمدًا بحقن 90% من الأطفال فيها بفيروس التهاب الكبد النشط بين عاميْ 1955 و1970، لمعرفة المزيد عن المرض وربما لتطوير لقاحٍ ما ضده. وقد جادل القائمون على الدراسة بأنّ الأطفال سيصابون بالتهاب الكبد على أي حال، فمن المقبول حقنهم بالفيروس ومن ثم دراسته.
بالمجمل، يمكننا القول أنّ تلك الحقبة من القرن الماضي قد اتسمت فعليًا بالنفعية العلمية على حساب الإنسان والمجتمع، وهو ما دفع بالعديد من الأطباء والباحثين إلى ارتكاب العديد من الجرائم الإنسانية بحجّة سعيهم لهدف سامٍ وخدمة البشرية. لكنْ في عام 1974، على إثر تلك التجارب، تمّ تأسيس “الهيئة الوطنية لحماية العناصر البشرية في البحوث الطبية والسلوكية” والتي وضعت قواعد أكثر صرامة من أي وقت مضى منعًا لعدم تكرار مأساة طبية أخرى في أي وقت لاحق. لكنّ هذا لا يمنع أبدًا من أنّنا قد نستيقظ يومًا ما على فضيحة علمية أخرى مشابهة بعد كلّ تلك السنوات والعقود.