يرتدون الخوذ السوداء الشفافة من الأمام، في أيديهم العصا وأمامهم حشود من الجماهير إما يرتعبون ويفرون أو تفر الحياة من أمام أعينهم وتسيطر عليهم غريزة حب الفناء من أجل ما يطلبون، هكذا صوّر المشهد عبر التاريخ، تلك هي حكاية الثورات والتجمعات الجماهيرية، دائمًا تكون الدولة أقوى من المجتمع وتجبره على الخضوع لها ولنظام حكمها، بينما عندما تظهر معارضة منظمة من المجتمع يتم إجبارها على الخنوع أو الفناء عن طريق القوة الضاربة لها أي سلاح الدولة أكان جيشًا أو شرطة، بعدما يمهد فئةً أخرى من المجتمع وغالبًا تكون الفئة الدينية في تشويه تلك المعارضة أمام المجتمع بأكمله.
برع العالم الفرنسي جوستاف لوبون (1841 – 1931) وهو مؤسس علم نفس الجماهير في النظر إلى الجماهير بطريقة اختلفت عن سابقيه، فقد رأى أن الجماهير كتلة واحدة وليس مجرد مجموعة أفراد، ولكن دراسة تلك النظريات أضرت كما أفادت، لأنه كما عرف كيفية تحريك الجماهير التي استخدمتها الأحزاب وقادتها عرف أيضًا كيفية السيطرة عليها أو تحريكها في مسارٍ خاطئ يخدم السلطة وحاكمها وجلادها، فما النظرة المختلفة للوبون؟ وكيف كان تطبيقها عبر العقود الماضية؟
الجمهور عند لوبون
امتلأت الشوارع بالدماء، وقطعت الرؤوس، عمت الفوضى، اقتحمت السجون، أعدم الحاكم، كان من المهم عند لوبون دراسة روح الثورة الفرنسية (1979) التي وصفها بالتاريخ المحزن لأنه كان يرى أن الاعتقاد بأن عصر تسلط الحاكم باسم الدين قد انتهى، ولكن استبدل بعقيدةٍ أخرى، مشيرًا إلى الحقوق الإلهية للجماهير مكان حق الحاكم باسم الدين.
العالم الفرنسي جوستاف لوبون
عند لوبون الجمهور مجموعةٌ من الأفراد يشكلون كيانًا تتوافر فيه الكينونة النفسية أي “الفكرية أو العقدية” المتشابهة، وبذلك تختلف خصائص تلك الكتلة عن خصائص كل فردٍ بذاته، أي ما أسماه قانون الوحدة العقلية للجماهير ولا يشترط تجمع الجمهور النفسي في مكانٍ وزمانٍ واحد بل يشترط وجود قانون الوحدة النفسية، كما أشار لوبون في نظريته إلى عقلانية الفرد التي تتلاشى في وسط المجموع الذي يذوب وعي الفرد ففيه يتحول إلى إنسان بلا عقل ولا وعي.
سرعة انفعال الجماهير وسذاجتها
استكمالًا لدور اللاوعي الذي بدأ عندما ذاب الفرد وسط المجموع، فسرعة انفعال الجمهور (مجموعة أفراد) واستجابته لأي شيء تكون بسيطة حتى لو استحال الفعل نفسه مثل الجري باتجاه دبابة أو سيارة شرطة ومقابلة الرصاص بالوقوف، فإحساس الفرد بالقوة يتزايد وسط الجمهور والتضحية تزداد كلما ازداد عاطفية المحرض للجمهور عن طريق الكينونة النفسية التي تجمعهم، أما لو جاءت تلك المحرضات للفرد وهو في حالة انعزال حينئذٍ سيتدخل العقل ويمنع الإنسان من فعل المستحيل، ولا يفرق لوبون بين الأعمال البطولية والإجرامية لدى الجمهور لأنه يعتبر الجمهور تحت مخدر الشعارات التي يتلقاها من المحرض، أما عن العالم والجاهل يستويان في مقدار السذاجة حينذاك لأن اللاوعي المتأثر بكينونة العقل الجمعي هو المتحكم في المشهد وقتئذٍ.
الجماهير والديكتاتور، نقيضان على أرض السلطة، كلاهما يخاف من الآخر
ووضع الفرنسي يده على استبداد الجماهير، فوصف الثانية أنها تعترف بالقوة وتكره الطيبة لأنها تعتبرها نوع من أنواع الضعف وأن الجماهير الغاضبة لا تخفض رأسها للحكومة القوية، ولم يصف هنا القائد على أنه زعيم صاحب شعارات رنانة فقط، بل القائد يمكن أن يكمن في صحيفة محلية أو قناة فضائية، لكن في النهاية تلك الجماهير كالقطيع تحتاج إلى سيد لها يوجهها حيثما وكيفما شاء.
كيف مهدت نظريات لوبون للديكتاتورية؟
الجماهير والديكتاتور، نقيضان على أرض السلطة، كلاهما يخاف من الآخر، الانتصار للأول يعني الموت للثاني والقوة للثاني تعني الخوف للأول، “كانت الدعاية على جانب عظيم من الأهمية، فهي أداة لتنوير الأذهان من جهة، ولخداع من يراد خداعهم من جهة أخرى”، هكذا يقول صاحب أعتى الديكتاتوريات المتطرفة في القرن العشرين في ألمانيا أدولف هتلر في كتابه “كفاحي”، ولكن كيف استطاع هتلر بناء تلك الأفكار النازية وإقناع الجماهير بها بل الوصول لسدة الحكم عن طريق الانتخابات وسط التقدم الصناعي والتكنولوجي في ألمانيا بشكلٍ خاص وأوروبا بشكل عام؟
حرب عالمية أولى، خروج ألمانيا محمّلة بالخسائر، باتت الفرصة الآن لاقتناصها، يجب المناداة بمبادئ الاستقلال، العيش للشعب الألماني، الخروج من الأزمة الاقتصادية، ألمانيا فقط، الألمان وفقط، كان هتلر شغوف بحب السلطة ومولع بالخطابات الجماهيرية التي تدخل إلى القلب مباشرة، فيبدو أنه كان دارسًا جيدًا لأفكار لوبون، فذكر في كتابه كفاحي أن “كل سلاح مهما يكن منافيًا لمبادئ الإنسانية، يصبح وسيلة إنسانية ما دام الغرض من استعماله الدفاع عن حريتها”، تلك الفكرة التي ذكرها لوبون في كتابه علم النفس السياسي وهو يوضح كيفية توجيه الدعاية إلى المتعلمين أم إلى العوام، بينما حرص لوبون على تأكيد مفهوم ميكافيللي في الحرب الذي اشتهر بعد ذلك بـ”الغاية تبرر الوسيلة” عندما نوّه أن معظم القوانين والقواعد الخاصة بحكم البشر وقيادتهم لم تعد صالحة منذ زمن ويجب إكمال عمل هذا الرجل العظيم.
نجحت خطة هتلر وأعوانه حتى سيطر على عقل الجمهور الألماني وقال عن اليهود: “لا أمل أن نقود اليهود إلى مصاف الإنسانية المتحضرة عبر العقوبات الصارمة، إنهم سيعيشون يهودًا ويموتون يهودًا، تمامًا مثلما نعيش نحن عرقًا آريًا ونموت عرقًا آريًا”
لم يكن هتلر وحده في الصورة بل رافقه وزيره للدعاية السياسية الدكتور جوزيف جوبلز الذي استخدم أذكي الوسائل الكلامية والنفسية للسيطرة على الجماهير والدعاية لأفكار الحزب وشيطنة من يعارضه، من أهم تلك الوسائل التي اقتبسها جوبلز من لوبون هي وسيلة “التكرار” التي حث عليها عندما ضرب مثالاً بأن صحيفة (س) تقول كل يوم على رجل (أ) أنه حقير ورجل (ب) أنه نبيل، فينتهي الأمر بالجمهور بالتصديق لما تكرره الصحيفة كل يوم، وآمن جوبلز بتلك الوسيلة واستخدامها في كل وسائل الدعاية المرئية والسمعية بعد فرز كل الأخبار لاختيار ما يتم نشره وإذاعته وما يتم إخفاؤه.
فنجحت خطة هتلر وأعوانه حتى سيطر على عقل الجمهور الألماني وقال عن اليهود: “لا أمل أن نقود اليهود إلى مصاف الإنسانية المتحضرة عبر العقوبات الصارمة، إنهم سيعيشون يهودًا ويموتون يهودًا، تمامًا مثلما نعيش نحن عرقًا آريًا ونموت عرقًا آريًا”، مما مهد بعد ذلك إلى مذبحة تعد الأبشع في التاريخ الحديث “الهولوكوست” التي تمت على خلفية تطهير عرقي بحق اليهود، وسط التقدم التكنولوجي والحداثة، مما فسر ذلك عالم الاجتماع باومان في كتابه “الحداثة والهولوكوست” الذي استنتج فيه أن الحداثة نفسها كانت لها دور في إبادة اليهود، حيث بدأت الأنظمة البيروقراطية الأخرى بمعنى أنها بدأت تحديد الهدف وسجلت من ينطبق عليهم هذا التعريف، مشيرًا إلى اليهود، حيث ساعدت البيروقراطية من انعزالهم إلى توافر وسيلة إبادتهم إبادة كاملة.
الاستبداد العربي
تكرر المشهد مرةً أخرى في عالمنا العربي منذ ما يقرب من 8 سنوات، ما عرف بالربيع العربي، خرجت الجماهير انتصرت وخسرت، ورجعت في الحالتين بشكل أو بآخر إلى حظيرة الطاعة تحتمي وراء جدران الخوف، فما الوسائل التي اقتبسها المستبدون لرجوعهم؟
الجماهير الغاضبة لا تخفض رأسها إلا للحكومة القوية، القوية أي التي تقتل الآلاف بلا رحمة وتعتقل مئات الآلاف بلا حدود وتقصف المدن والأحياء بلا حياء، تلك النظرية ضرب بها أفضل الأمثلة منذ اندلاع الثورة السورية إلى أن خمدت وقسمت الكعكة على من حاربوها، حيث استخدم نظام الأسد ضدها أشد أنواع الفتك والغدر بها لإخضاعها، وإخضاع جمهور الثورة بشتى الوسائل كالقتل والسجن والتعذيب والاغتصاب، بل تحدث زعيم الحكومة على أن تلك الثورة أعمال تخريبية تقوم بها مجموعات إرهابية متطرفة يساعدها الغرب وبعض الدولة العربية، وإن كان لوبون يذكر مساندة العمامة الدينية للمستبد فقد ساند شيخ الشام الأول محمد سعيد البوطي نظام الأسد حتى لقيّ حتفه في تفجير انتحاريّ.
أما في مصر المحروسة بمستبديها، شهدت منذ اندلاع أحداث 3 من يوليو/تموز عام 2013 إلى وقتنا الحاليّ، أحداث عنف وقتل خارج القانون لم تشهده من قبل في تاريخها الحديث حسب شهادات وتقارير حقوقية أممّية، بل زج بعشرات آلاف المعارضين للنظام العسكري في المعتقلات والسراديب السوداء، واتجهت آلة النظام الإعلامية نحو تشويه المعارضة بل تخوينهم والتحريض على قتلهم في الشوارع، ولم يغفل النظام العسكري الفتاوى الدينية من رجال دين رسميين تحرض على القتل واستخدام شتى وسائل العنف ضد المعارضة، فجلس الديكتاتور ومن حوله حاشيته ونبلائه وحرسه ورجل ذي لحية بيضاء يخطب بهم ويشرع لهم من الدين قتل هؤلاء الخوارج “المعارضة” مستندًا بالقرآن والسنة حتى يكون من قتلهم هو أولى بالله منهم في انتقامه منهم.
ربما كانت نظريات الفرنسي لوبون خير دليل للحكام المستبدين على ترويض شعوبهم للحفاظ على عروشهم منهم، فتارة يستخدمون العاطفة وتارة أخرى قوة بلا رحمة، وتارة الخوف من الإرهاب والخطاب العاطفي وضياع المستقبل وحب الدين
واتفق مفتي الدين وقتئٍذ مع لوبون عندما ذكر أن الناس يحتاج من يملي عليهم ويشرع لهم حتى ينفذوا ولا يأخذوا وقتًا للتفكير والبحث، فهم يأخذون الفتاوى جاهزة وموجهة لما يريده المحرض منهم، ثم بعد ذلك جلس الجنرال السيسي حاكم مصر في أحد المؤتمرات يتوعد ويحذر من يمس بأمان مصر وشعبها، ويحذر من يفكر بالقيام بثورة أخرى حدثت منذ سبعة أو ثمانية أعوام قاصدًا “ثورة يناير” بأنه لن ينجح لأنه رجل عسكري ولا يهتم بالسياسة، من سمع تلك الكلمات هو الجمهور الغاضب من الحالة المعيشية السيئية التي يعيشها أغلب شعب مصر، ولكن لا مفر من خفض الرأس حينذاك، فقد توافرت المعادلة: جمهور غاضب خافض رأسه لحكومةٍ قوية تبطش بمن يفكر بالاعتراض، فهناك أشرار متربصون بالبلد يجب السكوت والطاعة حتى نضمن مستقبلنا على قيد الحياة بدلاً من الدخول في معركة هاوية غير مستقرة مثل بلاد س وص، الذي يتربص بها أهل الشر في كل مكان كما وصفهم الزعيم المصري حاكم الجماهير الملهم.
هكذا طبقت النظرية في العالم العربي بين الجماهير والحاكم، علاقة قوة وطاعة علاقة تزييف للواقع، ربما كانت نظريات الفرنسي لوبون خير دليل للحكام المستبدين على ترويض شعوبهم للحفاظ على عروشهم منهم، فتارة يستخدمون العاطفة وتارة أخرى قوة بلا رحمة، وتارة الخوف من الإرهاب والخطاب العاطفي وضياع المستقبل وحب الدين، ربما كانت الأساليب متشابهة والأشخاص والأزمنة متباينة.