ترجمة حفصة جودة
يجلس الدكتور مازن قمصية تحت أشعة الشمس في أول متحف للتاريخ الطبيعي في فلسطين ويقول: “مثلما صنعت بيئة تنمو فيها النباتات، أصنع بيئة يمكن للبشر النمو فيها والازدهار والنجاح”، يعد قمصية عالمًا مشهورًا وكاتبًا ومدافعًا عن حقوق الإنسان، وهو يعمل في جامعات بيت لحم وبيرزيت، وعمل سابقًا في جامعات تينيسي وديوك ويل في الولايات المتحدة حيث عاش لمدة 24 عامًا.
عاد قمصية إلى بيت لحم مع زوجته جيسي في 2008، وقد كان لدراسة التنوع الطبيعي في فلسطين علاقة وثيقة بالتأثير البيئي للاحتلال الإسرائيلي، وقبل 5 سنوات زرعا بذور متحف التاريخ الطبيعي من مدخراتهما الخاصة، كما أسسا معهد أبحاث “المعهد الفلسطيني للتنوع البيولوجي والاستدامة” من خلال جامعة بيت لحم، واليوم أصبح المعهد والمتحف رائدان في الأبحاث العلمية للتنوع البيولوجي في فلسطين.
تقوم رؤية المتحف على مجتمع مستدام يمكن للبشر والطبيعة فيه أن يعملا معًا ويعيشا بانسجام، ويعمل هذا الهدف بثلاثة طرق: البحث والتعليم والصيانة.
الدكتور قمصية يعرض مجموعة من الخضراوات المزروعة مائيًا على الأطفال في المتحف
هذا المتحف أكثر من مجرد معهد للأبحاث أو صالة لعرض كائنات حية مثيرة، إنه واحة كما يقول محمد أبو سرحان العالم البيولوجي في المتحف، وبالنسبة للكثيرين مثل أبي سرحان فقط غير المتحف حياتهم.
يقول أبو سرحان: “البيئة الموجودة في المتحف ليست موجودة في أي مكان آخر في فلسطين، إنه بشكل ما يغير من طريقة تفكيرك وطريقة تعاملك مع البيئة من حولك، ليس فقط البيئة الطبيعية لكن الاجتماعية والسياسية كذلك”.
عادة ما يترك قمصية انطباعًا دائمًا لدى زواره، فطلاب المدارس المحلية يأتون للتعلم عن قضية التغير المناخي ويرحلون ولديهم طاقة لتغيير شيء ما في مجتمعهم، أما المسافرون الدوليون فيأتون للتعلم عن الموقع السياسي في فلسطين ويرحلون بمعلومات جديدة عن معاناتهم من أجل العدالة البيئية، يقول قمصية: “يأتي الناس هنا ويرحلون متحمسين ومفعمين بالطاقة، وهذا ما نسعى إليه، أن يصبح مكانًا لنشر الطاقة الإيجابية في المجتمع”.
القتال على جبهتين
تتمثل الأهداف الرئيسية للمتحف والمعهد في البحث والتعليم والحفاظ على البيئة الطبيعية، وفي هذا السياق فإن تأثير الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن تجاهله، يقول ماجد دوغلاس – شريك في المتحف ومهندس من نابلس -: “يقع المتحف في وسط مدينة بيت لحم المحتلة وهو ليس مجرد مشروع لحماية البيئة لأن البيئة تتعرض لهجوم إسرائيلي”.
محمد أبو سرحان عالم الأحياء في المتحف يساعد في تحريك السماد
يظهر تهديد الاحتلال للبيئة في التاريخ الفلسطيني في عدة أشكال، يقول أبو سرحان: “دخول الأنواع الغازية مثل أشجار الصنوبر يمثل أحد آثار المشروع الاستعماري التي تؤثر على البيئة، لقد جاء الأوروبيون وزرعوا أشجار الصنوبر فوق أراضي الفلسطينيين المدمرة وهذا الأمر له تأثير كارثي على البيئة”.
يقول قمصية أنه في بداية تأسيس “إسرائيل” قام المستعمرون الصهاينة بتجفيف أراضي محمية الحولة مما أدى إلى اختفاء 119 نوع مختلف، واستمرار الاحتلال العسكرى حتى اليوم له تأثيره الضار على المشهد الطبيعي في فلسطين.
أما مستوطنة هارحوما التي تعد أكبر مستوطنة في الضفة الغربية وتقع على قمة تل خارج بيت لحم فهي مثال آخر على ذلك، فهذا المكان كما يقول أبو سرحان كان غابة قبل 20 عامًا، لكنه الآن تحول إلى منطقة سكنية بالكامل.
طلاب مدرسة محلية ينظرون إلى صور الطيور الأصلية في فلسطين
لقد غيرت البنية التحتية للمستوطنات من المشهد الطبيعي في فلسطين، كما أن النفايات السامة للمستوطنات الصناعية لها تأثير ضار على السكان المحليين والبيئة، ويشير أبو سرحان إلى العديد من المقالات العلمية التي نشرها المعهد والمتحف وتتحدث عن تدمير “إسرائيل” للمناطق الطبيعية وتأثير النفايات السامة.
إعادة الاتصال بالأرض
يقول قمصية: “المستعمرون يريدون الشيء نفسه، إنهم يريدون الأرض ليخلقوا واقعًا جديدًا دون أصحاب الأرض، فالاستيلاء الممنهج على الأرض وفرض نظام التصاريح وعزل الفلسطينيين في مجتمعات صغيرة داخل ما يسمى المنطقة “A” مجرد جزء من آليات “إسرائيل” لفصل الفلسطينيين ماديًا عن الأرض”.
وفي تلك الأثناء يتم فصل الفلسطينيين عن ثقافتهم وتاريخهم أيضًا، يقول محمد نجاجرة منسق المشروع الثقافي الجديد بالمتحف: “لقد كانت معظم أعمالنا في السابق في مجال الزراعة، والآن لا نستطيع الوصول إلى أراضينا والعمل في أراضينا يكلفنا أكثر من العمل في المستوطنات، لذا توقف الكثير من الناس عن الزراعة”.
التلميذات يقفن بجوار البركة المطلة على مستوطنة هار حوما
يقول نجاجرة: “سيضيف المتحف معرضًا جديدًا لعرض الأدوات التقليدية والصور القديمة والأمثال الشعبية المتعلقة بالزراعة، تحاول “إسرائيل” إزالة تاريخ الفلسطينيين من المنطقة لتصنع تاريخًا إسرائيليًا”.
يهدف المشروع الثقافي إلى مواجهة التدهور في المعرفة التاريخية، يقول قمصية: “نحن نعيد الناس إلى الأرض فإعادة اتصال المواطنين الأصليين بالأرض نوع من أنواع المقاومة”.
ويعبر دوغلاس عن أهمية عرض الحياة الزراعية للفلسطينيين قبل الاحتلال، فالزراعة كانت طريقة تواصلهم مع العالم والآن هم منفصلون عنها، يقول دوغلاس: “نحن بحاجة لأن يرى العالم أننا كنا نمتلك حياة طبيعية قبل الاحتلال، ولسه مجرد مجموعة محتلة من البشر”.
الوجود هو المقاومة
يقول قمصية: “وظيفتنا تحرير العقول، التحرر من الاستعمار العقلي، إن شعار المتحف: “احترم نفسك واحترم الآخرين واحترم البيئة” بهذا الترتيب، فلا يمكنك احترام الطبيعة ما لم تكن تحترم نفسك وتشعر بالقوة والتمكين”.
جيسي قمصية تتفقد نباتات الفلفل المزروعة داخل المتحف
لقد خلق قمصية جوًا من وسائل التمكين الذاتي للفلسطينيين، يقول قمصية: “عندما يكون عقلك حرًا يمكن أن تفعل أي شيء حتى في أصعب الظروف، نحن لا ننتج أبحاثًا فقط، نحن ننتج واقعًا جديدًا، ومفتاح ذلك هو الإبداع”.
هناك العديد من العقبات التي تواجه ذلك لكن من الممكن أن نراهم كفرص، فمع محدودية المساحة والوصول إلى المصادر الطبيعية بسبب الاحتلال وتغير المناخ، أصبح من الضروري الدفع نحو الاستدامة في فلسطين.
تضم حديقة المتحف مجموعة متنوعة من النماذج لتعليم الناس الحياة المستدامة وذلك باستخدام النظم المائية وهي طرق تستخدم لزراعة النباتات والأسماك معًا دون تربة وذلك باستخدام التغذية المعدنية في مذيب مائي أو باستخدام الغاز الحيوي لإنتاج الغاز من السماد العضوي وغيرهم من نظم البستنة العضوية.
يقول قمصية: “لقد أحضرنا بعض الأشخاص من غزة ودربناهم على استخدام الطرق المائية حتى يتمكنوا من تربية أسماكهم وزراعة خضراواتهم في بيئة محدودة للغاية مع الموارد الطبيعية القليلة المتاحة لديهم”.
قطع الأرض الصغيرة المخصصة لمشروع الحديقة المجتمعية الجديد
يضم المتحف مشروع حديقة مجتمعية تحتوي على 25 قطعة صغيرة منحوتة في الحديقة لمساعدة 25 أسرة من اللاجئين في بيت لحم، يقول نجاجرة” “من خلال عملنا في التراث الثقافي رأينا كيف كان الناس يعملون معًا في الماضي، وهذا أحد أسباب مشروع الحديقة”، تكمن فكرة الحديقة في إرشاد الجيل الجديد من الفلسطينين إلى جذورهم في العمل معًا والعمل في الأرض.
بشكل عام تعزز مشاريع المتحف ومن بينها مشروع الحديقة من نمط الحياة الصحي والمستدام، مما يطور موقفًا إيجابيًا من الحياة، يقول قمصية إنه يوفر طاقة إيجابية لأي أشخاص يعيشون تحت الاحتلال والاستعمار.
يقول أبو سرحان: “عندما أجلس في حديقة المتحف وأرى الزهور والفراشات تحلق حولي أشعر أنني وصلت إلى جوهر الأمر، نحن بشر وهذه الأرض لنا، إن تأسيس المتحف هنا في بيت لحم هو أحد أشكال المقاومة السلمية وكما يقولون: الوجود هو المقاومة”.
المصدر: ميدل إيست آي