لم تفلح لقاءات الرئيسين السوداني عمر البشير والمصري عبدالفتاح السيسي في تهدئة الأوضاع في منطقة حلايب أو إيجاد مخرج للخلاف الشائك والمزمن بين البلدين بشأن السيادة عليها، فما تنفك العلاقات المصرية السودانية تُقدم بين فينة وأخرى شاهدًا على عللها الكثيرة التي يغطي عليها حُكَّام البلدين بعبارات عاطفية تتحدث أزليتها واستراتيجيتها، وهي مزاعم في السياسة ووقائع في الاقتصاد يكذِّبها الواقع وتتصدرها عقدة حلايب وشلاتين بين الفينة والأخرى، ثم يأتي دور الاقتصاد في محاولة لتجاوز عقبات السياسة.
الجيش المصري في السودان
قبل أقل من أسبوعين عمدت مصر عبر شركة جنوب الوادي المصرية القابضة للبترول – وهي شركة حكومية – إلى استفزاز السودان بطرح عطاءات لشركات عالمية للتنقيب عن النفط والغاز في مثلث حلايب الذي يتنازع عليه البلدان، بل إن الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسي زار المثلث لتأكيد تأكيد تلك السيادة عليه، لكن تبادل التحايا والابتسامات لا تعكس عمق الأزمة المستمرة منذ عام 1958.
خرج السفير يتحدث لأول مرة عن استثمارات للجيش المصري في السودان في مجالي الطاقة والغذاء
خطوة بدت مفاجئة من حيث المضمون والتوقيت، وكما كان متوقعًا أعلنت الحكومة السودانية – المنهمكة في مواجهة المتظاهرين المطالبين بتغيير النظام الحاكم منذ 3 عقود – رفضها، وأكد سعد الدين بشرى وزير الدولة السوداني بوزارة النفط والغاز أن الامتياز حلايب يقع ضمن صلاحيات وزارته، مطالبًا بوقف أي أعمال في المنطقة.
لم يمض الأسبوعان على واقعة دعوة وزارة النفط والثروة العدنية إلى التنقيب في حلايب التي أثارت غضب السودان شعبيًا ورسميًا، واُستدعاء السفير المصري لدى الخرطوم حسام عيسى لتوضيح موقف بلاده حول الأمر، حتى خرج السفير يتحدث لأول مرة عن استثمارات للجيش المصري في السودان في مجالي الطاقة والغذاء.
حرص حسام عيسى على إبراز هذه المعلومة عقب لقاء جمعه، يوم الخميس الماضي، بمساعد رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الحاكم المكلف أحمد هارون، مخلفًا وراءه جدلاً مصحوبًا بالحيرة في الشارع السوداني، بدا ذلك التصريح بمثابة مفاجأة مدوية للكثيرين، حتى أنه تصدر صحف الخرطوم خلال الأيام القليلة الماضية.
مساعد رئيس الجمهورية أحمد هارون خلال اللقاء مع السفير المصري حسام عيسى
في البداية ألمح عيسى إلى التوتر الذي أُثيرت حوله الكثير من الأنباء بين مصر والسودان خلال الأيام الماضية، ومن ثم قال: “أي سحابة صيف يتم الرد عليها وتجاوزها في إطار التوجه الاستراتيجي لقيادة الدولتين، باعتبار أنها علاقة شعب واحد في دولتين وصولاً لمرحلة التكامل التام”.
وفي تصريحات صحفية لفت السفير المصري إلى أن القوات المسلحة المصرية تقوم بإنشاء عدد من المخابز ومحطات الطاقة الكهربائية في السودان، في إطار ما أسماها “دعم مصر للعلاقات المشتركة”، منوهًا إلى أن اللقاء مع مساعد الرئيس السوداني، استعرض مجالات الربط السككي والكهربائي بين البلدين.
اكتفى السفير المصري في السودان بعرض المعلومة فقط دون أي تفاصيل تُذكر حول أصل تلك الاستثمارات وطبيعة الاتفاق الذي قضى بالسماح للجيش المصري بالاستثمار في مجالي الطاقة والغذاء، إلى جانب حجم المخابز ورأس المال المخصص للمهمة، وأسباب عدم إعلان الحكومة السودانية عن الخبر ومناقشته في مداولات البرلمان.
سخرية ممزوجة بالغضب
لكن مقطع فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي في السودان أظهر مخبزًا يُرجح أنه لأحد استثمارات الجيش المصري في السودان، عبر هيئة التموين والإمداد، ويعمل المخبز بأجهزة آلية حديثة وطاقة قصوى، بينما تتحرك في أرجائه كاميرات تصوير وجنود، ما يعني أن المخبز الذي ربما يكون نموذجًا فقط، تم تدشينه بالفعل.
كشف السفير المصري عن خشية بلاده من “كارثة انتقال النار للقاهرة”، قائلاً: “مصر ضد محاولة استنساخ ربيع عربي في السودان”، وفقًا لصحيفة “السوداني”.
وعقب تداول أخبار عن أول إنتاج لمخابز الجيش المصري، أثار خبر استثمارات الجيش المصري في السودان، حالة من السخط على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع السوداني، لاسيما وأن السودان كان مرشحًا كسلة غذاء العالم، وفتح بابًا للاستفهامات على كثير الحيرة، وبدا كما لو أن ثمة حلقة مفقودة بين الجانبين، أحدهما سياسي والآخر اقتصادي.
وكان نشطاء قد تداولوا صورًا تتضمّن مشاهد بقيام الجيش المصري بتعليم الجيش السوداني كيفية صنع الرغيف، وسط استياء من قبل البعض من تجاهل الجيش المصري لمهامه الأساسية، بينما يراه البعض إهانة للسيادة السودانية، وسخر البعض من تناقضات الجيش المصري الذي يعجز حل المشاكل التموينية في مصر في حين يعطي للخارج.
على سبيل المثال، كتب بكري الطيب ساخرًا من تدخل الجيش المصري في حل مشاكل السودان: “منذ يومين وصحف الخرطوم تبشرنا بأن أزمة الخبز في طريقها للحل؛ لأن الجيش المصري تكرم مشكورًا وأرسل بعثة عسكرية لإقامة مخابز في السودان، لأن ذلك الجيش – اسم الله عليه – حل المشاكل التموينية في مصر، ونما الى علمه أن السودانيين لا يعرفون كيف يشيدوا المخابز، أو ربما لم يسمعوا باختراع الرغيف”.
اول انتاج لمخابز الجيش المصرى فى #السودان يجد طريقه الى الاسواق وسط فرحة غير مسبوقة بين افراد الجيش والامن السودانيين. pic.twitter.com/kpwxLPePQH
— عبدالله الحلو (@AbdallaElhillou) March 30, 2019
وفي إشارة إلى إسناد استيراد القمح للقوات المسلحة مصرية وصفقات القمح الفاسد التي استوردها مصر خلال الفترة الماضية وعلاقتها بمخابز السودان، ذكر ناشطون أن الجيش المصري الذي يأتي بالخبز والخبرة اللازمة لإعداد الخبز، هو الذي استورد القمح الفاسد قبل أشهر قليلة، وعندما افتضح أمره أعلنت مصر عن تبرعها بشحنات من الدقيق للسودان، ولما علت احتجاجات الرأي العام السوداني أعلنت الحكومة السودانية أن الدقيق يخضع للفحص.
وعلى عكس صحف السودان التي لم تكذِّب الخبر، تهافتت وسائل الإعلام المصرية المحسوبة على النظام المصري على نفي ما تردد على لسان السفير المصري، واتهمت بعض الصحف المصرية وسائل الإعلام التي نشرت مقاطع الفيديو بأنها ترغب في ترسيخ رسائل متعددة لدى المتلقي لعل أهمها، ضرب العلاقات المستقرة بين مصر والسودان، وتشويه صورة الدولة المصرية وتشويه صورة الجيش المصري، بحسب جريدة “الوطن” المصرية.
السيطرة على حلايب وفرض سياسة الأمر الواقع عليها يجرد إحسان بناء المخابز وإنشاء محطات الطاقة من أي قيمة أخلاقية ويجعله حملة علاقات عامة لا أكثر
ويؤكد ذلك ما جرى الحديث عنه مع اندلاع احتجاجات السودان في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن تعليمات صدرت من جهات سيادية (المخابرات والرئاسة) بتجاهل ما يجري في السودان، وعدم نقل أي صور أو أخبار للاحتجاجات، وهو ما أرجعه محللون إلى خشية النظام المصري من انتقال عدوى الاحتجاجات، ورفع الأصوات بالمطالبة بالحريات، والتنديد بارتفاع الأسعار التي تشهدها مصر، ويعاني منها ملايين المواطنين.
ولم يخف النظام المصري دعمه للبشير ورفضه لاحتجاجات السودان، وهو ما عبَّر عنه سفير مصر لدى السودان حسام عيسى، في كلمته خلال دعوة عشاء في منزل رجل الأعمال ميرغني لطفي في أم درمان، وكشف عن خشية بلاده من “كارثة انتقال النار للقاهرة”، قائلاً: “مصر ضد محاولة استنساخ ربيع عربي في السودان”، وفقًا لصحيفة “السوداني“.
الوجه الآخر لمصر
لم يمنع التصعيد السياسي بين الخرطوم والقاهرة من الكشف عن دور للجيش المصري في دعم استقرار حكومة البشير، التي تعاني من ضائقة اقتصادية، كانت قد تجلت بشدة في أزمة الخبز التي ضربت البلاد منذ منتصف العام الماضي، وتسبب في موجة الاحتجاجات الجارية، حيث يعاني السودان من عجز في الموارد الأجنبية لتوفير الاحتياجات الضرورية من دقيق ودواء ووقود.
هنا سيأخذك الموقف المصري إلى قدر كبير من الإرباك، كخروج الممثل من حالة المأساة إلى الكوميديا، فمصر “المحسنة الحانية” التي يؤرقها حال جارها الجائع، كما تريد أن تكون صورتها، مطلوب من إحسانها هذا أن يغطي على وجه مصر الآخر؛ والتي تبسط سيطرتها على أرض لم يُحسم النزاع حولها وتعمد إلى استغلال ثرواتها.
في مصر المحسنة، يشير صراع بعض أهلها على الطعام إلى أن إحسانها لا يأتي من فائض وفرة ولا هو إيثار أهل خصاصة، فالسيطرة على حلايب وفرض سياسة الأمر الواقع عليها يجرد إحسان بناء المخابز وإنشاء محطات الطاقة من أي قيمة أخلاقية ويجعله حملة علاقات عامة لا أكثر؛ لأن السيسي لا يملك في حقيقة الأمر ما يسد به حاجة شعبه.
حكومة البشير المتلقية للعطايا والمنح والودائع وأخيرًا المخابز هي الأخرى في حرج عظيم لأنها تعلم أن مشكلة البلاد ليست قلة المخابز وإنما قلة الدقيق
السؤال الأهم: لم الجيش المصري هو الذي يقوم ببناء المخابز والمحطات في السودان؟ هل خلت مصر من الشركات العامة أو الخاصة التي يمكن أن يعهد إليها للقيام بهذا الأمر؟ سؤال يطرحه الشارع السوداني في حيرة، والحيرة أن الجيوش لم يُعهد عنها الانشغال ببناء المخابز.
لكن الجيش المصري في عهد السيسي أصبح بعض ضباطه مسؤولين عن الأسماك والجمبري، وآخرين مسؤولين عن المصانع والمزارع، حتى بات الجيش يسيطر على ما يزيد عن 40% من إجمالي الاقتصاد المصري، وتحولت مهامه من حماية الحدود إلى حماية “البزنس”، بينما يُصر السيسي في تصريحاته على أنها لم تتجاوز2%.
وفي عهد السيسي أيضًا بردت جبهة قتال الجيش المصري مع “إسرائيل”، الذي اعتبرته “أفضل ما جاءت به الأقدار”، ولعل ذلك ما يفسر انشغالاته بما يأكل الناس ويعجنون، ليس في مصر فقط بل في الدول المجاورة التي تطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي يأبى أن يمنحها لشعبه.
أمَّا حكومة البشير المتلقية للعطايا والمنح والودائع وأخيرًا المخابز فهي الأخرى في حرج عظيم لأنها تعلم أن مشكلة البلاد ليست قلة المخابز وإنما قلة الدقيق، وأن تكنولوجيا المخابز ليست بالمعقدة مما لا يستطيعه سلاح المهندسين في الجيش السوداني، مما يجعل قبول البشير العرض السيسي محض رضوخ لإكراهات السياسة.
اعتبر آخرون أن ذلك قدَّم أكبر دعاية لمظاهرات 6 أبريل/نيسان المقبل، التي دعا لها تجمع المهنيين السودانيين، ومن المرجح أن يسرع هذا الأمر من إضراب أصحاب المخابز عن العمل، في ظل موجة الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، ولا يبدو أن الحكومة السودانية قادرة على تحمل إضراب آخر، في قطاع شديد الحيوية والضرورة، لذا قد يكون اللجوء للاستعانة بمصر حلها لتجنب مآلات مثل هذه الخطوة.
مصالح لن تلتقي
البشير الذي تتصاعد نداءات الشوارع ليلاً ونهارًا تطالبه بالتنحي ليس في وضع يمكنه من فتح جهات داخلية وخارجية لا يملك لها ظهيرًا شعبيًا، غير أن علة العلاقات المصرية السودانية هي ما يمكن تسميته بهدر الفرص التاريخية لبناء علاقات نافعة للبلدين.
لكن هذه العلاقات لن تكون كذلك حتى يستعيد الشعبان في البلدين قدرتهما على صناعة مستقبل تكون لهما فيه الكلمة لا للعسكر، وبسبب هذه العلل تتدثر العلاقات المصرية السودانية بالتصنع والتجمل والخطابات التي تقول ما لا تعني، وهي خطابات لا يملك نظاما الحكم في مصر والسودان غيرها، فكلاهما مأزوم في بلده، فلا بأس يتحدث البشير كأنما حلايب ما وُجدت، أو يرسل السيسي جيشًا لبناء مخابز في السودان بوهم أنه يبني مفاعلاً نوويًا هناك.
المشاكل السياسية بين البلدين فلا يخفيها تحالف السودان مع أعداء النظام المصري بقصدٍ أو بدون، وربما أهمها – وربما أخطرها – التقارب السوداني القطري المُعلن
لكن ذلك لا يخفي فجوات بين السيسي والبشير، فالنظام الحاكم في السودان لا زال يعتقد أنّ المخابرات المصرية تدبر مؤامرة ضده، وسبق للرئيس السوداني أن اتهم القاهرة بالتجسس عليه لصالح المعارضة المسلحة التي تعقد اجتماعاتها في القاهرة، إضافة إلى دعم مصر دولة جنوب السودان المنفصلة بالسلاح والذخيرة.
على جانب آخر، تمثل المياه بين البلدين مشكلة لا تلبث أن تحوك حولها الخلافات بين الفينة والأخرى، ففي الوقت الذي بدأت تتكرر فيه حوادث “شحوط” السفن بمصر، وهو ما تم توثيقه حين قامت وكالة “رويترز” بنشر صورة لانخفاض منسوب مياه النيل مستشهدة بصور من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وأخرى من شهر نوفمبر 2017، تقوم السودان من جهة أخرى ببناء 7 سدود على النيل، قامت السعودية بتمويل 4 منها بتكفلة مليار وربع المليار دولار.
إضافة إلى ذلك تكفلت السودان بزراعة نحو مليون فدان من الأراضي شرق السودان بميزانية 500 مليون دولار، وهو ما أزعج القاهرة التي رأت في تلك المشروعات التنموية خطرًا على أمنها المائي، وفي حال تمسكت السودان بحصتها كاملة في ظلّ أزمة سد إثيوبيا؛ فإن هذا من شأنه أن تتوقف المشروعات القومية التي يروج لها النظام المصري، وأبرزها مشروع استصلاح المليون ونصف فدان.
أمَّا المشاكل السياسية بين البلدين فلا يخفيها تحالف السودان مع أعداء النظام المصري بقصدٍ أو بدون، وربما أهمها – وربما أخطرها – التقارب السوداني القطري المُعلن، كما سبق للبشير أنّ وقّع اتفاقية دفاع مشترك مع إثيوبيا على خلفية تهديدات مصر لسد النهضة، وهو ما يعني أن مصر لن تستطيع أن تتخذ السودانَ قاعدةً عسكرية، أو حتى تقوم بإدخال جيش بري، أو حتى أفراد؛ للقيام بعمليات نوعية في عمق الأراضي الإثيوبية في حال احتدم الصراع.
الأمر الأكثر خطورة هو المشروع التركي في جزيرة “سواكن”، والذي منح تركيا نفوذًا جغرافيًا هامًا على البحر الأحمر، واعتبرته القاهرة تهديدًا لأمنها القومي، في ظل التواجد القطري الأخير الذي أعلن عن إنشائه ميناءً أيضًا بالسودان، وتخشى القاهرة أن تتحول سواكن لقاعدة عسكري، وهو ما جعل الجيش المصري يخطط لبناء قواعد عسكرية بحرية جديدة أبرزها قاعدة حلايب وشلاتين، حيث الأزمة العالقة للأبد.