سياسة الصدام والهيمنة والتسلط وإهمال الآخر وظلم الشعب وعزل العراق عن محيطه العربي والإقليمي والدخول في حروب ومواجهات محلية وإقليمية، كل ذلك كان نهجًا متبعًا طوال حكم النظام السابق مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية والقوى التي تمحورت حولها إلى اتخاذ قرار دولي بقيادتها، تبنى إسقاط النظام الديكتاتوري بقوة السلاح.
موقف “المعارضة العراقية” كان مؤيدًا لهذا القرار على اعتبار أنها ستشكل “الكابينة الجديدة” لحكام العراق تحت مظلة الاحتلال الذي اعتبروه تحريرًا وانتصارًا وعيدًا وطنيًا.
بعد إسقاط النظام الديكتاتوري انطلق صوت الحرية مصدعًا جدران الصمت والكبت ومحطمًا كل الأغلال التي كانت تكبله طوال ثلاثة عقود ونصف من الزمن الصعب يحدوه الأمل نحو بناء عراق جديد متصالح مع نفسه والآخرين، بينما صوت زناجير الدبابات الأمريكية التي جابت شوارع العاصمة بغداد عام 2003 كان يسمع في المدن العراقية كافة وهي تحمل فوق ظهورها “قادة النضال” نحو الخلاص من الديكتاتورية والظلم.
أصيب العراقيون بخيبة أمل كبيرة جراء ما حصل في بلدهم من تراجع خطير تراكم خلال أكثر من 15 عامًا مضت منذ التغيير الذي كانوا يتطلعون من خلاله إلى بناء دولة جديدة ومنهج جديد لعراق متصالح مع نفسه وجيرانه
ولكن التساؤلات التي باتت معزوفة الألسن والأسماع لدى العراقيين بعد سقوط النظام هي: مالذي سيحصل بعد ذلك؟! وما المكاسب للشعب والوطن؟ وهل جلوس الحكام الجدد على الكراسي بعد الإطاحة بالديكتاتور هي المحصلة النهائية لهذا التغيير مكافأة لهم؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات وللأسف تزيد من وجع العراقيين وتقودهم للحديث عن بدايةٍ لقصة حزينة ومؤلمة ستجد الأجيال القادمة تفاصيلها على صفحات التاريخ وهي تتحدث عن أسوأ حقبة سياسية مر بها العراق بعد عام 2003.
لقد أصيب العراقيون بخيبة أمل كبيرة جراء ما حصل في بلدهم من تراجع خطير تراكم خلال أكثر من 15 عامًا مضت منذ التغيير الذي كانوا يتطلعون من خلاله إلى بناء دولة جديدة ومنهج جديد لعراق متصالح مع نفسه وجيرانه ودول العالم، وبدلًا من طموح التقدم نحو الأمام، علت أصواتهم بتمنيات العودة إلى الوراء ولسان حالهم يردد البيت الشهير:
رُب يومٍ بكيتُ منهُ فلما … صرتُ في غيره بكيتُ عليه
إنها سياسة المتناقضات وانعدام الرؤية باتجاه بناء الدولة والتشبث بموروثات الماضي الفكرية والمذهبية وغيرها من السلوكيات التي قلبت المعايير النوعية رأسًا على عقب، فأنتجت لنا حالة من الانقسام السياسي والمجتمعي ناهيك عن ارتفاع مرعب في نسبة الفقر والبطالة وتفشي الأوبئة والأمراض المجتمعية والصحية وتراجع كبير في المنظومة القيمية، فما نهض البلد من كبوة إلا وسقط في أخرى أشد وقعًا من سابقتها، لينتقل الحال من سيء إلى أسوأ، وكما يقول المثل العراقي الشهير “آٍمٌ حًسين جـنًـتـي بـُوحًـدًه صـرٍتـي بـُآٍآٍثـنًـيـٍن”، لقد حسم العراقيون قضية التمييز بين النظامين السابق والحاليّ وفق معيار المقارنة بين (سيء وأسوأ).
المجتمع الدولي وجد نفسه مضطرًا للتعامل مع المنظومات المجتمعية والتقارير الصحفية والاستخباراتية من أجل الحصول على معلومة قد تسعفه في حل ألغاز وطلاسم السياسة الخارجية للبلد التي تعددت وتنوعت وتناقضت في مواقفها استنادًا إلى الانتماءات الفكرية أو المذهبية أو الحزبية
لا نحتاج إلى طول بحث عن دليل للتخبط والتناقض الحاصل في سياسة البلد الخارجية، فالنتائج واضحة من سلوكيات ومواقف دارت وما زالت تدور ضمن نطاق المصالح الحزبية والفئوية والمذهبية، فمن رضي بالأمريكان محررين واستقبلهم بالورود يرفضهم اليوم، ومن رفضهم محتلين وقاومهم بالسلاح يطلبهم للبقاء، ومن عاب على النظام السابق خصومته مع أشقائه العرب وجيرانه ينتهج نفس سياسة العداء لهم.
المجتمع الدولي وجد نفسه مضطرًا للتعامل مع المنظومات المجتمعية والتقارير الصحفية والاستخباراتية من أجل الحصول على معلومة قد تسعفه في حل ألغاز وطلاسم السياسة الخارجية للبلد التي تعددت وتنوعت وتناقضت في مواقفها استنادًا إلى الانتماءات الفكرية أو المذهبية أو الحزبية “كل حسب مصلحته”، ليتحول المشهد العراقي إثر ذلك إلى حلبة للصراعات الإقليمية والدولية تضاف إلى الصراعات والانقسامات الداخلية.
الشعب العراقي اليوم يتطلع إلى إجابة واضحة يقدمها له هؤلاء “المناضلون الجدد” و”قادة التغيير” الذين أوصلوا البلد إلى حالة من التشرذم وانحطاط القيم تسيد فيها الفاسدون، تبين له مفهوم التغيير الذي أحدث نقلة عكسية باتجاه الفوضى واللادولة، ويوضحون له الحكمة من إطلاقهم العنان ليد الفساد كي تسلب اللقمة من فم الجياع وتورث العوز لشعب تطئ أقدامه أرضًا وضع الله تحتها كل أسرار الغنى والترف.
نحن أمام واقع يحتاج إلى صحوة للضمير الوطني المستتر ليفعل دوره من أجل انتشال البلد من واقعه المؤلم ويضعه على سكة الخلاص
إن وضع العراق اليوم نتيجة حتمية لسياسات لم تكن تمثل إرادة وطنية جامعة تأخذ من مصالح البلد منطلقًا لها نحو التعاملات الداخلية والخارجية بقدر ما كانت تمثل صراعًا لإرادات خاصة من أجل تحقيق مصالح حزبية وفئوية، ثم ضاقت أكثر فصارت المصلحة الشخصية البوصلة بالنسبة لأغلبية عارمة من الطبقة السياسية.
نحن أمام واقع يحتاج إلى صحوة للضمير الوطني المستتر ليفعل دوره من أجل انتشال البلد من واقعه المؤلم ويضعه على سكة الخلاص من خلال استئصال سرطان الفساد المستشري في معظم مفاصل الدولة، وهذا لا يحتاج إلى إجراءات استثنائية فحسب، بل يحتاج أيضًا إلى رجال استثنائيسن يعتمدون قواعد استثنائية لتخليص البلاد من وضعها المزري.