أتاح إعلان واشنطن الانسحاب نهاية العام الماضي، جدلًا واسعًا ومعقدًا وطرح عدة تساؤلات لا وجود واقعي لها على الأرض، ولطالما استمر الوجود الأمريكي في سوريا فإن قوات سوريا الديموقراطية بخير وتضمن بقائها، ولن تكون في حيز الاحتكاك بتركيا التي تستمر بتهديد وجودها في الشمال السوري، ضمن حقها في حماية أمنها القومي حسب إعلان إدارتها، وبعد مماطلة مستمرة من الولايات المتحدة في تنفيذ قرارها، وانتهاء قسد والتحالف الدولي من تنظيم الدولة الإسلامية داعش جغرافيًا في 22 من مارس/آذار، أصبحت تركيا في محطة مخاوف ربما تهدد أمنها في الحدود الجنوبية المحاذية لسوريا.
مجددًا.. أنقرة تتوعد قسد
لا تبدو ملامح العمل العسكري الذي تستعد له تركيا متاحًا لها في الوقت الحاليّ، نظرًا لعدم وجود موافقة أمريكية في الدخول للقضاء على قوات سوريا الديموقراطية التي تدعمها أصلًا ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، إضافة إلى استمرار وجود النقاط العسكرية للجنود الأمريكيين في مناطق سيطرة قسد، وبشكل مستمر تتابع تركيا مسيرة تهديداتها التي تطال قوات سوريا الديموقراطية، في كل المناسبات ومن مختلف الشخصيات التي تدير شؤون البلاد.
توعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السبت 30 من مارس/آذار، الوحدات الكردية بتلقينها الدرس اللازم، خلال تجمع جماهيري لحزب العدالة والتنمية في منطقة سلطان غازي، بمدينة إسطنبول، في قوله: “ألم نلقنهم درسًا في الممر الإرهابي، شمالي سوريا، في عفرين؟ بلى، لقد فعلنا، والآن، إذا لم يُضبَط الوضع (من جانب الولايات المتحدة) في شرق الفرات، فإننا سنلقنهم الدرس اللازم، وقد استكملنا جميع استعداداتنا”.
ولا تزال تركيا مصرة على بسط سيطرتها على مناطق شرق الفرات وتحقيق الأمن بحسب ما تقوله إدارتها نظرًا لممارسات قوات سوريا الديموقراطية (قسد) ضد الفئات المضطهدة من السوريين في المنطقة، إضافة إلى إلزام الشبان بالانضمام إلى قواتها وإنشاء معسكرات لتدريبهم، التهديدات التركية تأتي بعد أيام من انتهاء قسد المدعومة من التحالف الدولي من تنظيم الدولة الإسلامية، ومخاوف ربما تهدد أمنها، بعد فراغ قوات سوريا الديموقراطية من المعارك واتجاهها نحو تنظيم نفسها من جديد.
استمرار التعزيزات العسكرية التركية نحو الحدود مع سوريا والتحضيرات اللوجستية لا تكاد تتوقف من الجانب التركي إضافة إلى حلفائها السوريين من قوات المعارضة المسلحة أبناء مناطق شرق الفرات
كما أكد الرئيس التركي في خطاب آخر له أمام حزبه قائلاً: “بعد الانتخابات أول ما سنقوم به هو حل المسألة السورية عبر المفاوضات، وإن تعذر ذلك فحتمًا ميدانيًا”، في إشارة إلى الدخول للأراضي السورية في حال تعثر المفاوضات بين ساسة الدول المتدخلة في سوريا.
تركيا تشكل غرفة عمليات مشتركة لمعركة شرق الفرات
استمرار التعزيزات العسكرية التركية نحو الحدود مع سوريا والتحضيرات اللوجستية لا تكاد تتوقف من الجانب التركي إضافة إلى حلفائها السوريين من قوات المعارضة المسلحة أبناء مناطق شرق الفرات، لبدء عملية عسكرية ضد قوات سوريا الديموقراطية، بشكل فعلي، ومن ضمن الاستعدادات التي تحضرها أنقرة، إنشاء غرفة عمليات مشتركة على الحدود مع سوريا شرق الفرات، لإدارة الأهداف التي ستنفذها في المنطقة.
قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار السبت 30 من مارس/آذار، خلال زيارته لقادة قوات الجيش التركي في ولاية أورفا التركية جنوب البلاد، لافتتاح غرفة العمليات: “القوات المسلحة تقع على عاتقها مسؤولية كبيرة، تتمثل في حماية أمن ووحدة البلاد”، وأشار إلى وجود حالة من الغموض وعدم الاستقرار على الحدود الجنوبية، مع بلاده، وتركيا مصممة على محاربة الإرهاب داخل البلاد وشمالي سوريا والعراق والقضاء عليه.
تبدو السياسة التركية مستنفدةً صبرها بخصوص فشل المفاوضات في منطقة شرق الفرات مع حلفائها، والمماطلة بالوعود المقدمة منهم
وأضاف أنهم تلقوا وعودًا كثيرة من حلفائهم، لكن صبر أمتهم نفد، ولذا ينتظرون الوفاء بها في أسرع وقت، ولفت أنهم سيقومون بما يلزم في شرقي الفرات عندما يحين الوقت، وأوضح أنهم على استعداد تام وبانتظار توجيهات الرئيس التركي لإطلاق المعركة نحو شرق الفرات، بينما أكد أن الهدف الوحيد للجيش التركي هو محاربة الإرهاب، قائلاً: “فليعلم الجميع أن الاكراد هم إخوتنا حتى الموت ويرقد شهداؤنا معًا في جناق قلعة”.
تبدو السياسة التركية مستنفدةً صبرها بخصوص فشل المفاوضات في منطقة شرق الفرات مع حلفائها، والمماطلة بالوعود المقدمة منهم لكنها تؤكد أنها تعتزم تقديم ما يلزم في حال تعثر المفاوضات وفشلها، مشيرةً إلى معركة درع الفرات التي جرت في أغسطس/آب 2016 واستمرت حتى مارس/ آذار 2017، ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ومعركة غصن الزيتون التي جرت في يناير/كانون الثاني حتى مارس/آذار 2018.
تزداد مخاوف أنقرة بعد فراغ قسد
كلما امتدت الفترة في فشل المفاوضات وعدم الوصول إلى حل نهائي ينهي جذور المشكلة بين تركيا وحلفائها، ازدادت المخاوف التركية من التوغل الكردي على حدودها وإنشاء كيان كردي يحفز الأكراد في الجنوب التركي لإقامة دولة لهم، هذه الدواعي بمجملها تجعل تركيا في مرحلة استعداد دائم وتأهب عسكري واستبعاد فكرة السماح للقوات الكردية بإنشاء دولتهم مهما كلفها الأمر.
بعد تصديها لتنظيم الدولة الإسلامية والقضاء علية بآخر معاقله في سوريا، عاودت قوات سوريا الديموقراطية ممارسة سياستها في فرض التجنيد الإجباري في صفوفها
وبعد الانتخابات المحلية التركية ستعاود تركيا فتح ملف شرق الفرات مع حلفائها والدول الإقليمية التي تدعم قسد استعدادًا لأي تطورات سياسية ربما يتبعها تطورات عسكرية على أرض الواقع، ونظرًا لفراغ قسد، بعد طردها لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فإن هذا الفراغ سيمكنها من استعادة قوتها العسكرية وهيكلة قواتها وعناصرها، لتأمين حدودها مع تركيا من أي انطلاق عسكري تركي نحو مناطق سيطرتها، وما يزيدها قوة أنها ساهمت بشكل كبير في القضاء على تنظيم داعش.
ما استعدادات قسد اللوجستية بعد قضائها على داعش؟
بعد تصديها لتنظيم الدولة الإسلامية والقضاء علية بآخر معاقله في سوريا، عاودت قوات سوريا الديموقراطية ممارسة سياستها في فرض التجنيد الإجباري في صفوفها، من بينها فئات عربية وأخرى كردية رافضة الانخراط في صفوفها، وتتضمن عملية التجنيد إناثًا تتبعن وحدات حماية المرأة وذكورًا يتبعون وحدات حماية الشعب.
خرّجت الوحدات الجمعة 29 من مارس/آذار من الشهر المنصرم، دفعةً من المدنيين قسريًا في صفوفها، ونقلت شبكة بلدي نيوز المحلية عن مراسلها في الرقة “أن هيئة الدفاع الذاتي التابعة لقوات سوريا الديمقراطية خرّجت الجمعة 245 عنصرًا من المجندين قسريًا في أحد المقرات التابعة لقوات سوريا الديمقراطية في ريف الرقة الغربي”، حيث خضعت العناصر الجديدة لدورات تدريبية عسكرية في مقر الفرقة 17 لمدة شهر واحد بعد اعتقالهم وسحبهم إلى الخدمة الإجبارية في صفوفها.
كشفت صحيفة يني شفق التركية أن الوحدات الكردية تحضر قوات قوامها 15 ألف مقاتل، بدعم من التحالف الدولي ودول غربية للقيام بعملية عسكرية ضد القوات التركية وقوات المعارضة في عفرين
كما خرجت قسد السبت 30 من مارس/آذار، دفعة من المقاتلات في بلدة عين عيسى بريف الرقة الشمالي، وبلغ عدد المجندات اللواتي تخرجن من معسكر تابع لقوات قسد 50 امرأةً، أغلبهن من منطقة عفرين (المكون الكردي) نقلن من ريف حلب الشمالي، ترويجًا لانضمام الفتيات من المكون العربي في محافظة الرقة، فيما تعتبر الدورة الأولى من الفتيات اللاتي تتخرج من معسكرات قسد في محافظة الرقة.
أين وجهة قسد حال استمرار وجودها؟
كشفت صحيفة يني شفق التركية أن الوحدات الكردية تحضر قوات قوامها 15 ألف مقاتل، بدعم من التحالف الدولي، ودول غربية للقيام بعملية عسكرية ضد القوات التركية وقوات المعارضة في عفرين.
وقالت الصحيفة: “15 ألف مقاتل شبه جاهزين، والقسم الأكبر منهم تمركزوا في منطقة الشهباء التي تقع في ضواحي منطقة تل رفعت”، وذلك من أجل التمهيد لعملية عسكرية على عفرين وخصوصًا بعد الانتهاء من هزيمة تنظيم داعش، وذلك عقب اجتماع بين الأمريكان ومجلس قسد العسكري حيث كانت الخطوات واضحة وصريحة.
بينما ذكرت مصادر أخرى أن المعسكرات موجودة في عين العرب كوباني وتل رفعت شمالي حلب، بشكل مسبق، لكن لوحظ تزايد أعداد المقاتلين مع وجود خبراء فرنسيين وأمريكيين يقومون بتدريبهم تحضيرًا لشن عملية عسكرية لاستعادة مدينة عفرين شمال غربي حلب.
ولا تبدو العملية ستكتفي بعفرين فقط، ربما تتجه نحو مدينة إدلب ضد هيئة تحرير الشام المصنفة على قوائم الإرهاب لدى الدول الأوروبية تزامنًا مع سماح قسد لآلاف العناصر من تنظيم داعش مع تسهيلات الخروج إلى محافظة إدلب، لتكون وجهتها المرتقبة في حال سماح واشنطن لها، وتوقف الضغط التركي على الأخيرة.
ما الخيارات المتاحة لقسد؟
اتجهت مباحثات قسد مع النظام السوري نحو التصعيد السياسي بعد رفضه أن تكون قسد أحد مكونات الجيش السوري، وعلى الرغم من دعواتها المتكررة وزيارتها لدمشق قبل أشهر، فشلت في الحصول على ضمانة وجودها من النظام السوري مع حفظ حقوقها بحسب ما أوردت في الاتفاق.
ودعا مظلوم كوباني القائد العام لقوات سوريا الديموقراطية الإثنين 1 من أبريل/نيسان، إلى ضرورة إيجاد حل مع حكومة نظام الأسد بشأن القضايا الخلافية، واعتبر أن قواته جزء من سوريا ولا تنوي الانفصال عنها، وأوضح كوباني أن علاقتهم تدهورت مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد إقرارها بالانسحاب من سوريا ودفع تركيا لتهديهم، شرق الفرات.
وعلى الرغم من استمرار وجود التحالف الدولي في مناطقها لا تنفك قسد عن التواصل مع النظام السوري تجديدًا للاتفاق معه، فهو الخيار الوحيد ليكون ضد الوجود التركي في المنطقة، لكن شروطها في حكم ذاتي غير متوافق مع إيران حليفة الأسد، لأنه سيشجع الأكراد في بلاد الأخيرة للمطالبة بإنشاء حكم ذاتي لإدارة مناطقهم، وهذا ما ترفضه إيران، ولن يقبل النظام بشروط قسد إلا ببعض التنازلات التي اشترطتها في الاتفاق الأول، وهذا خيار صعب يجعلها في محطة العودة إلى حضن الأسد والاستبداد بمكوناتها في المنطقة.
تزامنت التطورات الأخيرة مع انقسام جديد يكتسح صفوف قسد من المكون العربي الذي يطمح بالانفصال عن قواتها والانضمام لقوات النظام والعودة إلى حكومة النظام بحسب موقع المونيتور الأمريكي
وسبق وتواصلت قسد مع فرنسا لدعمها بعد قرار واشنطن الانسحاب من سوريا، وهذا ما أكدته فرنسا بأنها ستستمر بدعمها بعد الانسحاب الأمريكي، لكن قسد لا تضمن السياسة الفرنسية التي تفضل مصالحها على مجرد ميليشيا خارج حدود دولتها، وفق ضغط واشنطن للتخلي عنها.
وتزامنت التطورات الأخيرة مع انقسام جديد يكتسح صفوف قسد من المكون العربي الذي يطمح بالانفصال عن قواتها والانضمام لقوات النظام والعودة إلى حكومة النظام بحسب موقع المونيتور الأمريكي، فكل العشائر في المناطق العربية التي تسيطر عليها الوحدات الكردية تدعو إلى عودة حومة النظام إلى مناطقها، رافضةً البقاء في ظل قوات سوريا الديموقراطية، لذلك ستحاول قسد قمع هذه الميليشيات العربية حتى الوصول إلى اتفاق مع حكومة النظام، لكنه أمر مستبعد طالما لم تتنازل عن شروطها.
وإلى ذلك بقي ملف شرقي الفرات معلقًا لمدة أشهر نظرًا للمعارك الدائرة بين تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وقوات سوريا الديموقراطية قسد، المدعومة من التحالف الدولي، لكنه عاد إلى الساحة السياسية مجددًا، دون وجود حل نهائي، فالوضع الأمني والعسكري الذي وصلت إليه الوحدات الكردية سيء للغاية تزامنًا مع رفض حكومة النظام المثول لشروطها بينما تستمر تركيا بالضغط عليها، فهل يظل الملف معلقًا أم أن ورقة قسد انتهت بدءًا من رفض النظام لها؟